التجار الدارفوريون بالجنوب يروون فظائع نهب وحرق متاجرهم
عقب دخول قوات حركة العدل والمساواة بقيادة الدكتور خليل ابراهيم إلى مدينة أمدرمان مايو 2008 ، جرد جهاز أمن النظام أكبر حملة كراهية ضد الدارفوريين في الخرطوم . ولم تقتصر الحملة على القتل والتعذيب والإعتقال الذي كان يتم بالهوية ، وانما تعرض التجار الدارفوريون بسوق ليبيا كذلك لحملة أمنية إستهدفت تصفية نشاطهم التجاري وطردهم من السوق ، وخسر العشرات من التجار أموالهم جراء تلك الحملة المسمومة .وبعد تصفية أعمالهم ، إتجه بعضهم صوب الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور ، بينما إتجه آخرون جنوباً وهم يمنون أنفسهم بالأمن والامان من قهر حكومة عمر البشير في الخرطوم . ولكن لم يمر عام على من إستقروا بالفاشر حتى تعرضوا لأكبر عملية إحتيال رسمية ممنهجة ، مطلع 2010 ، باشراف من راعي الفساد الأول في البلاد عمر البشير وتنفيذ والي شمال دارفور محمد يوسف كبر فيما عرف وقتها بفضيحة سوق (المواسير) والذي أطلق عليه عمر البشير سوق (الرحمة) إمعاناً في الخداع ولجذب أكبر عدد من التجار بغية سرقة أموالهم ، وفقد المئات من التجار وقتها أموالهم – قدرت مصادر حكومية رسمية عدد التجار الذين تم الإحتيال عليهم وفقدوا أموالهم وممتلكاتهم بـ (1800) تاجر – ، لملم التجار ما تبقى لهم من نقود وبعضهم إستدان من الأهل والأقارب وإختاروا الهجرة إلى جنوب البلاد (جنوب السودان حالياً) .في الجنوب انشأ التجار الدارفوريون أسواق في كافة المدن من العاصمة جوبا حتى بانتيو ناحية الحدود مع الشمال .وإزدهرت التجارة وظن التجار ان الحظ قد إبتسم لهم اخيرا خاصة وان من سبقهم من تجار دارفور قديماً ترك صورة حسنة عنهم في نفوس الجنوبيين. وعقب إنفصال الجنوب وإعلان إستقلال الدولة الوليدة في 9 يوليو 2011 إزدهرت تجارة الدارفوريين اكثر بعد ان أصبحوا يستوردون من دبي والصين عبر ميناء ممبسا الكيني ، ومن أسواق كمبالا بيوغندا بل ومن الخرطوم نفسها إلى دولة الجنوب .ولم يكن التجار الذين ساهموا في بناء إقتصاد الدولة الوليدة متحسبين لما حدث ليلة الأحد 15 ديسمبر حتى خرج إليهم الرئيس سلفاكير ميارديت صبيحة الاثنين 16 ديسمبر عبر التلفزيون المحلي معلناً عن إنقلاب دبر ضده بواسطة نائبه رياك مشار وآخرين . كان إعلان سلفاكير ايذاناً ببداية سوق (مواسير) اقسى ضد التجار الدارفوريين .لم تخلف حرب (الثوار) من أجل السلطة المقابر الجماعية والقتل بالهوية ونزوح ولجوء عشرات الآلاف من المواطنين إلى مراكز الأمم المتحدة طلباً للحماية ، وحسب ، بل وخلفت ايضا أكبر خسارة تعرض لها تجار دارفور بدولة الجنوب ، فقدوا فيها عشرات الملايين من الدولارات ، وبعد ان كانوا أصحاب تجارة وأعمال أصبحوا الآن يعيشون في البرية بلا موسى بعد ان رفضت حكومة الخرطوم تقديم أي دعم لهم إسوة بالحكومات التي هبت لإنقاذ رعاياها . (حريات) جلست وإستمعت إلى بعض التجار الدارفوريين عن الخسائر التي تعرضوا لها في جنوب السودان . (محمد . أ) تاجر من ولاية جنوب دارفور يعمل بمدينة بور – يعمل مع شركاء له في مجالات عديدة تمتد من المواد الغذائية والمطاعم وتقديم خدمة المياه إلى أدوات البناء والكهرباء – قال لنا : ( أولاً بسم الله الرحمن الرحيم : نشكر صحيفة (حريات) جزيل الشكر لأنها أول وسيلة إعلام تهتم بنا وبقضيتنا ، فلكم خالص الشكر والتقدير على هذه الوقفة التي نسأل الله ان يجزيكم عليها ) ، ( في البداية أقول انه في صبيحة يوم الاربعاء 18 ديسمبر بعد ان إستولت القوات الموالية لرياك مشار على مدينة بور ، لجأ كل تجار السوق بعد أن أغلقوا محلاتهم إلى مقر الأمم المتحدة بالمدينة للحماية ، خاصة وان جثث القتلى كانت تملأ الشوارع والذخيرة تضرب بدون هدف محدد ، ونحن في طريقنا إلى مبنى الأمم المتحدة رأينا جثث بعض من نعرفهم من الجنوبيين ملقية في الشارع ). (وصلت إلى مقر الأمم المتحدة انا والعاملين معي واثنين من الشركاء بواسطة سيارتين نصف نقل (بك آب) كانت محملة بالزنك والأسمنت وبعض مواد البناء كنا نريد وضعها بالمخزن قبل إندلاع الأحداث لكننا لم نتمكن . في عصر نفس اليوم رأينا سحب الدخان قادمة من ناحية السوق ، عرفنا حينها ان السوق قد أحرق ، لاحقاً قال لنا شاهد ان الجنود كانوا يأتون ويفرغون كل البضائع من المحلات ويأخذونها معهم ثم يقومون بحرق الدكان ، إستمروا هكذا إلى ان تمت سرقة كل المحلات وحرقها) .وأضاف ( محمد . أ) : ( المأساة ان الحرب في جنوب السودان بدأت وكل التجار قد تبضعوا بكل ما يملكونه من نقود إستعداداً للكريسماس الذي يعتبر موسما تجارياً هاماً بالنسبة لنا . لا اعرف تاجر يملك نقودا ببنك أو يحمل كاش معه الآن في كل الجنوب ، كل النقود تحولت إلى بضائع وقد نهبت وأحرقت المحلات) وتساءل قائلاً : ( لا أعرف لماذا تم إستهدافنا وما ذنبنا؟) . مضيفاً ( شر البلية ما يضحك كما يقولون : عندما كنا في مقر الأمم المتحدة ببور كنا نشتري المياه والأكل من بعض الباعة الجائلين الذين كانوا يبيعون هناك ، المضحك انهم كانوا يبيعون لنا بضاعتنا ، إشتريت بنقودي في المعسكر عصير (شامبيون) احد المسروقات التي قاموا بأخذها من سوبر ماركت أملكه ، أعرف هذا جيداً لان هذا العصير بالتحديد كلفني الكثير وإستوردته من الشمال ، ايضاً لم تسلم حتى العربات التي قدمنا بها من النهب حيث سرقت من داخل مقر الأمم المتحدة ، كانت الفوضى شاملة ، ورائحة الموت تخيم في سماء بور ) .وفي سؤال لـ (حريات) عن تقديره للخسائر التي لحقت به ، قال محمد : ( في بور وحدها خسرنا ما لا يقل عن (500) ألف دولار . هذه قيمة بضائعنا التي نهبت خلاف المحلات والسيارات والمنازل وخلافه) . مضيفاً : ( نحن تجار دارفور قد كتب علينا الشقاء ، خسائر التجار بملايين الدولارات ، يبدو اننا أصبحنا مستهدفين من الكل ، حسبنا الله ونعم الوكيل .. حسبنا الله ونعم الوكيل). ( آدم . ع) تاجر من الفاشر يملك سوبر ماركت ومحل لبيع المواد الغذائية بالجملة في مدينة ملكال ، قال لنا : (بدأت الأحداث قبل ليلة الكريماس ، كان الكل يقتل الكل ، ضرب عشوائي وموت بالجملة ، لا اعتقد ان الذين ماتوا في الجنوب ألف شخص فقط ، ما رأيته بعيني من عنف في ملكال وحدها يقول ان العدد بالالاف . أغلقنا متاجرنا وهربنا طلباً للنجاة ، شاهدت أحداث كثيرة في دارفور في السابق وسمعت ببعضها ولكن ما رأيته في ملكال كان يفوقها في الرعب . ان أسوأ ما مر بدارفور هم الجنجويد ، ولكن ما شاهدته من وحشية بملكال لم أراه ولم أسمع به حتى من الجنجويد الذين قتلوا وأحرقوا القرى وإغتصبوا الناس وإرتكبوا ما إرتكبوا من فظائع ، المهم تمكنا من الهرب والنجاة بأنفسنا ، تم سرقة كل السوق الكبير وحرقه .. كل السوق نهب وأحرق بلا إستثناء) ، ( كانت المحلات تقتحم بطريقة إجرامية ، حيث تأتي عربة لاندكروزر يقودها أشخاص يلبسون ملابس عسكرية وينزل منها جنود يقومون بربط جنزير موجود أسفل العربة بباب المحل ثم تتحرك العربة إلى الامام فيخلع الباب ، ثم يدخلون إلى المحل وينهبون البضائع والنقود ، ثم يحرقون بعدها المحل التجاري ، هكذا تمت العملية تقريباً في أغلب المحلات ، كانت حملة نهب منظمة لها قادة ومنفذون وحرامية ) .واضاف آدم ( خسرت كل ما أملك ، إشتريت بضائع قبل الأحداث بحوالي 200 ألف دولار خلاف البضائع الموجودة اصلاً بالمحل .. خسرت كل ما أملك ، كل ما أملك ، الآن ليس لدي ثمن وجبة واحدة ) !لم يكن (حسن . م) تاجر وصاحب بقالة بمدينة ملكال والقادم من مدينة كتم بولاية شمال دارفور ، لم يكن متحمساً للحديث ، لاحظت أثناء حديثي مع بقية التجار ان صوته كان خفيضاً ونبرته حزينة ، كنت بالكاد أسمعه في المرات القليلة التي تداخل فيها مصححاً لتاريخ أو واقعة ، كان يحدق ببصره في السماء ، ربما كان يدعو الله عز وجل ان يعوضه خيراً في هذه المصيبة التي حلت عليهم . إقتربت منه وقلت له : الله في ، وحمد الله على سلامة الروح يا شيخ حسن ، بعد ان عرفت إسمه من زميله آدم ، رد : ان الله مع الصابرين : ( نصبر يا ولدي ) ، قالها وهو يقف بعد ان كان جالساَ مع إيماءة على وجهه تدل على انه لا يريد الحديث ، عرفت لاحقاً من المتواجدين انه قد فقد إضافة لمحل الجملة الذي يملكه بسوق ملكال الكبير والذي نهب وأحرق ، فقد ايضاً بضائع تقدر بحوالي (200) طن من البضائع المختلفة ، كان قد إستوردها عبر ميناء ممبسا الكيني قبل أسبوع من الأحداث ووصلت إلى مدينة ملكال بواسطة (صندل) عن طريق النقل النهري من جوبا . قال محدثي وهو يصفه لي ان الرجل كان كريماً وشهماً ، كان بيته ومحله قبلة للزوار وعابري السبيل . تفهمت مقدار المأساة التي يمر بها الرجل ومدى الألم الذي يعتصر قلبه خاصة ان أحدهم تدخل وقال لي بعد ان توارى (حسن) عن أنظارنا : (لا يملك شيخ حسن الآن ثمن إيجار غرفة للنوم )!لم أكن أظن ان هنالك مأساة ساستمع إليها ذلك المساء أكبر من مأساة شيخ حسن إلا عندما قابلت (عبدالله . ن) من مدينة كبكابية بشمال دارفور والذي يملك مع إخوته مجموعة محلات تجارية بمدينة بانتيو بولاية الوحدة ، قال عبد الله : ( اولا الحمد لله على كل شئ ، أنا ما عاوز أعيد عليك ما قاله بعض الاخوه وما إستمعت اليه اليوم وأمس ، نفس الحكاية وبنفس طريقة النهب ، يقوم الجنود المسلحون بكسر ونهب المحلات يتبعها قيام بعض المدنيين بسرقة ما تبقى في المحل من أشياء صغيرة تركها الجنود ، وعندما تنتهي المهمة يقوموا بحرق المحل أو الدكان).وأضاف : ( الحمد لله انا ما كنت موجود في بانتيو ولكن شركائي بخير الحمد لله ، اقول الحمد لله لانه في ناس قتلوا ، نحن فقدنا محلاتنا وبضائعنا كلها لكن ما متنا ، انا كنت بره بانتيو ، كنت في جوبا ، لاني كنت مشرف على نقل بضاعتنا الجديدة التي إستوردناها للكريسماس والسنة الجديدة ، من كينيا ويوغندا ، ومن تجار جملة داخل مدينة جوبا) مضيفاً ( اشترينا بضائع بحوالي مليون دولار في شهر ديسمبر الماضي وحدها ،إستدنا بعض الأموال وبعض البضائع بالآجل ، كلها راحت شمار في مرقة) ، صمت بعدها برهة ثم نظر لساعة يده ثم حياني وغادر مسرعاً ، إحترمت مشاعره وحزنه على ضياع أعوام وأعوام من الكد والسهر والتعب ، ضاعت كلها هكذا في لحظة لأن أحدهم وببساطة قد وقع ببندقيته على قرار الفوضى ضدهم ، دون تقدير لما بذلوه من خدمة ظلوا يقدمونها لإقتصاد المدينة ، ودون حتى أدنى إحترام لذكري يوم ميلاد المسيح عليه السلام ، ولكن يبدو ان لا فرق بين خوارج هذا العصر وخوارج التاريخ القديم الذين كانوا يحلون الدماء في الأشهر الحرم.ويبدو ان الخسائر وبخلاف ما كنت أعرف قد طالت بعض المتاجر في العاصمة جوبا نفسها عقب إنفجار الأحداث في يومها الأول ، هكذا قال لي (ابراهيم . م) من مدينة نيالا وصاحب دكان بمنطقة (107) التي تقع بالقرب من قاعدة بلفام – القاعدة العسكرية للجيش الشعبي بمدينة جوبا – قال إبراهيم : ( بعد الضرب الذي حدث صبيحة الاثنين 16 ديسمبر بمدينة جوبا أغلقنا أبواب متاجرنا وهربنا بأنفسنا خوف الموت ، كانت اصوات القذائف والضرب بالدانات المنطلقة من داخل القاعدة تأتي إلينا بقوة ، خشينا الموت وأغلقنا متاجرنا وهربنا ) ، ( في صبيحة يوم الأربعاء وعندما هدأت الأوضاع في العاصمة جوبا ذهبنا إلى متاجرنا وهالنا ما رأينا ، نُهب كل السوق ، لم أكن صاحب متجر كبير ، البضاعة التي بمتجري تقدر بحوالي (60) مليون بجنيه جنوب السودان ، حوالي (15) الف دولار هي كل ما أملك ، الآن انا مدين لبعض تجار الجملة بحوالي (25) مليون جنيه ، لا أملك شيئاً ، أصبحت فجأة من تاجر لشخص يحلم بأكل وجبة في اليوم ناهيك عن اثنين ، وطبعاً لا يوجد من يأكل ثلاثة وجبات في جوبا كلها هذه الايام ) ، مضيفاً : ( قال لي صديق جنوبي انه رأى جنودا يلبسون الزي الرسمي للجيش الشعبي وهم يقومون بكسر المحلات في السوق) ، وتساءل ابراهيم قائلاً : ( لم نسرق ولم نقتل ولا علاقة لنا بالسياسة لماذا يحدث لنا كل هذا ؟ هربنا من الشمال لأنه كلما توسعت تجارتنا كبرت الإتهامات ضدنا بدعم الحركات الدارفورية المسلحة ! انا لم أدعم أي حركة مسلحة في حياتي ، أدفع الرسوم الحكومية هنا كما كنت أدفعها في الشمال ، لماذا يحدث لنا كل هذا الدمار ؟ أين سأذهب ، انا أعول أسرة كبيرة في دارفور ، أين أذهب ؟ ، لم يتركني ابراهيم قبل ان يقول كلمات خرجت من فمه همساً وكأنه يبوح لي بسر : ( عارف مافي فرق بين جهاز أمن حكومة عمر البشير وجيش الجنوب ) .وعندما أبديت إستغرابي من وقوع مثل هذه الإعتداءات في جوبا ، نادى إبراهيم على أحدهم ، وقال لي هذا الشخص يمتلك مطعما بجوار متجري في منطقة (107) فاسمع منه ، سلمت عليه وطلبت منه ان يعرفني بإسمه ، فطلب مني وبمنتهى الحياء والذوق ان أعفيه من الإسم ولكنه أكد رواية زميله ، قائلاً بإقتضاب : ( انا القدامك دا مطعمي مقابل قيادة الجيش ، وكان العساكر يتناولون طعامهم فيه قبل الحرب ، هسع ما فضل لي منه إلا الديب فريزر والبابور .. ولا حاجة تانية ، ولا حاجة تانية .. كله سرق ) ، لم يزد بعدها وغادر إلى حيث كان يجلس مع جمع آخر من المتضررين ، فالمصائب تجمعن المصابين ، عسى ان يخففوا مجتمعين من وقع هذه المأساة التي يصعب على شخص واحد تحملها لوحده .حكي لي ( آدم . ع) التاجر بمدينة ملكال ان بعض التجار ساروا مشياً على الأقدام من مدينة ملكال إلى ولاية النيل الأبيض في شمال السودان طلباً للسلامة بعد ان فقدوا أموالهم ممتلكاتهم ، مضيفاً بانهم لم يأكلوا شيئاً وكانوا يشربون من مياه (الخيران) والمستنقعات طوال رحلتهم .قصة أخرى أكدها لي كل من تحدثت إليهم وهي ان حكومة الخرطوم التي تصرح بمساعدتها للمواطنين الشماليين في جنوب السودان لم تسأل ولم تقدم يد العون لدارفوري واحد ، وقال لي (محمد . أ) التاجر بمدينة بور : ( ربما أرسلوا طائرات كما صرحوا لإجلاء بعض طاقم السفارة ورجال الأمن الذين تمتلئ بهم جوبا ، عموماً هم لن يساعدوا تاجرا دارفوريا ، ولو كانوا يهتمون بنا ويساعدوننا لما إحتجنا لمغادرة بلادنا من الأساس).هذه نماذج لعينة من التجار تمكنا من الوصول إليها ، علماً بان المئات منهم تضرروا أضرارا كبيرة كما حكى لي البعض . قصص كثيرة ومؤلمة تقطع نياط القلب بتعبير الأستاذ الحاج وراق كلما شاهد فيديو للفظائع التي ترتكبها طائرات عمر البشير وهي تقصف الأطفال بجبال النوبة ، قصص حزينة ومؤلمة تعكس صورة مأساوية أخرى للحرب اللعينة التي إندلعت في جنوب السودان ، صورة قد لا تذكر في خضم الأحداث الجارية حالياً مقارنة بما خلفته حرب (الاخوة الثوار) من قصص المقابر الجماعية والقتل بالهوية وقصص التشرد والنزوح ومعاناة الأطفال والنساء وكبار السن .
عقب دخول قوات حركة العدل والمساواة بقيادة الدكتور خليل ابراهيم إلى مدينة أمدرمان مايو 2008 ، جرد جهاز أمن النظام أكبر حملة كراهية ضد الدارفوريين في الخرطوم . ولم تقتصر الحملة على القتل والتعذيب والإعتقال الذي كان يتم بالهوية ، وانما تعرض التجار الدارفوريون بسوق ليبيا كذلك لحملة أمنية إستهدفت تصفية نشاطهم التجاري وطردهم من السوق ، وخسر العشرات من التجار أموالهم جراء تلك الحملة المسمومة .
وبعد تصفية أعمالهم ، إتجه بعضهم صوب الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور ، بينما إتجه آخرون جنوباً وهم يمنون أنفسهم بالأمن والامان من قهر حكومة عمر البشير في الخرطوم . ولكن لم يمر عام على من إستقروا بالفاشر حتى تعرضوا لأكبر عملية إحتيال رسمية ممنهجة ، مطلع 2010 ، باشراف من راعي الفساد الأول في البلاد عمر البشير وتنفيذ والي شمال دارفور محمد يوسف كبر فيما عرف وقتها بفضيحة سوق (المواسير) والذي أطلق عليه عمر البشير سوق (الرحمة) إمعاناً في الخداع ولجذب أكبر عدد من التجار بغية سرقة أموالهم ، وفقد المئات من التجار وقتها أموالهم – قدرت مصادر حكومية رسمية عدد التجار الذين تم الإحتيال عليهم وفقدوا أموالهم وممتلكاتهم بـ (1800) تاجر – ، لملم التجار ما تبقى لهم من نقود وبعضهم إستدان من الأهل والأقارب وإختاروا الهجرة إلى جنوب البلاد (جنوب السودان حالياً) .
في الجنوب انشأ التجار الدارفوريون أسواق في كافة المدن من العاصمة جوبا حتى بانتيو ناحية الحدود مع الشمال .وإزدهرت التجارة وظن التجار ان الحظ قد إبتسم لهم اخيرا خاصة وان من سبقهم من تجار دارفور قديماً ترك صورة حسنة عنهم في نفوس الجنوبيين.
وعقب إنفصال الجنوب وإعلان إستقلال الدولة الوليدة في 9 يوليو 2011 إزدهرت تجارة الدارفوريين اكثر بعد ان أصبحوا يستوردون من دبي والصين عبر ميناء ممبسا الكيني ، ومن أسواق كمبالا بيوغندا بل ومن الخرطوم نفسها إلى دولة الجنوب .
ولم يكن التجار الذين ساهموا في بناء إقتصاد الدولة الوليدة متحسبين لما حدث ليلة الأحد 15 ديسمبر حتى خرج إليهم الرئيس سلفاكير ميارديت صبيحة الاثنين 16 ديسمبر عبر التلفزيون المحلي معلناً عن إنقلاب دبر ضده بواسطة نائبه رياك مشار وآخرين . كان إعلان سلفاكير ايذاناً ببداية سوق (مواسير) اقسى ضد التجار الدارفوريين .
لم تخلف حرب (الثوار) من أجل السلطة المقابر الجماعية والقتل بالهوية ونزوح ولجوء عشرات الآلاف من المواطنين إلى مراكز الأمم المتحدة طلباً للحماية ، وحسب ، بل وخلفت ايضا أكبر خسارة تعرض لها تجار دارفور بدولة الجنوب ، فقدوا فيها عشرات الملايين من الدولارات ، وبعد ان كانوا أصحاب تجارة وأعمال أصبحوا الآن يعيشون في البرية بلا موسى بعد ان رفضت حكومة الخرطوم تقديم أي دعم لهم إسوة بالحكومات التي هبت لإنقاذ رعاياها .
(حريات) جلست وإستمعت إلى بعض التجار الدارفوريين عن الخسائر التي تعرضوا لها في جنوب السودان .
(محمد . أ) تاجر من ولاية جنوب دارفور يعمل بمدينة بور – يعمل مع شركاء له في مجالات عديدة تمتد من المواد الغذائية والمطاعم وتقديم خدمة المياه إلى أدوات البناء والكهرباء – قال لنا : ( أولاً بسم الله الرحمن الرحيم : نشكر صحيفة (حريات) جزيل الشكر لأنها أول وسيلة إعلام تهتم بنا وبقضيتنا ، فلكم خالص الشكر والتقدير على هذه الوقفة التي نسأل الله ان يجزيكم عليها ) ، ( في البداية أقول انه في صبيحة يوم الاربعاء 18 ديسمبر بعد ان إستولت القوات الموالية لرياك مشار على مدينة بور ، لجأ كل تجار السوق بعد أن أغلقوا محلاتهم إلى مقر الأمم المتحدة بالمدينة للحماية ، خاصة وان جثث القتلى كانت تملأ الشوارع والذخيرة تضرب بدون هدف محدد ، ونحن في طريقنا إلى مبنى الأمم المتحدة رأينا جثث بعض من نعرفهم من الجنوبيين ملقية في الشارع ). (وصلت إلى مقر الأمم المتحدة انا والعاملين معي واثنين من الشركاء بواسطة سيارتين نصف نقل (بك آب) كانت محملة بالزنك والأسمنت وبعض مواد البناء كنا نريد وضعها بالمخزن قبل إندلاع الأحداث لكننا لم نتمكن . في عصر نفس اليوم رأينا سحب الدخان قادمة من ناحية السوق ، عرفنا حينها ان السوق قد أحرق ، لاحقاً قال لنا شاهد ان الجنود كانوا يأتون ويفرغون كل البضائع من المحلات ويأخذونها معهم ثم يقومون بحرق الدكان ، إستمروا هكذا إلى ان تمت سرقة كل المحلات وحرقها) .
وأضاف ( محمد . أ) : ( المأساة ان الحرب في جنوب السودان بدأت وكل التجار قد تبضعوا بكل ما يملكونه من نقود إستعداداً للكريسماس الذي يعتبر موسما تجارياً هاماً بالنسبة لنا . لا اعرف تاجر يملك نقودا ببنك أو يحمل كاش معه الآن في كل الجنوب ، كل النقود تحولت إلى بضائع وقد نهبت وأحرقت المحلات) وتساءل قائلاً : ( لا أعرف لماذا تم إستهدافنا وما ذنبنا؟) . مضيفاً ( شر البلية ما يضحك كما يقولون : عندما كنا في مقر الأمم المتحدة ببور كنا نشتري المياه والأكل من بعض الباعة الجائلين الذين كانوا يبيعون هناك ، المضحك انهم كانوا يبيعون لنا بضاعتنا ، إشتريت بنقودي في المعسكر عصير (شامبيون) احد المسروقات التي قاموا بأخذها من سوبر ماركت أملكه ، أعرف هذا جيداً لان هذا العصير بالتحديد كلفني الكثير وإستوردته من الشمال ، ايضاً لم تسلم حتى العربات التي قدمنا بها من النهب حيث سرقت من داخل مقر الأمم المتحدة ، كانت الفوضى شاملة ، ورائحة الموت تخيم في سماء بور ) .
وفي سؤال لـ (حريات) عن تقديره للخسائر التي لحقت به ، قال محمد : ( في بور وحدها خسرنا ما لا يقل عن (500) ألف دولار . هذه قيمة بضائعنا التي نهبت خلاف المحلات والسيارات والمنازل وخلافه) . مضيفاً : ( نحن تجار دارفور قد كتب علينا الشقاء ، خسائر التجار بملايين الدولارات ، يبدو اننا أصبحنا مستهدفين من الكل ، حسبنا الله ونعم الوكيل .. حسبنا الله ونعم الوكيل).
( آدم . ع) تاجر من الفاشر يملك سوبر ماركت ومحل لبيع المواد الغذائية بالجملة في مدينة ملكال ، قال لنا : (بدأت الأحداث قبل ليلة الكريماس ، كان الكل يقتل الكل ، ضرب عشوائي وموت بالجملة ، لا اعتقد ان الذين ماتوا في الجنوب ألف شخص فقط ، ما رأيته بعيني من عنف في ملكال وحدها يقول ان العدد بالالاف . أغلقنا متاجرنا وهربنا طلباً للنجاة ، شاهدت أحداث كثيرة في دارفور في السابق وسمعت ببعضها ولكن ما رأيته في ملكال كان يفوقها في الرعب . ان أسوأ ما مر بدارفور هم الجنجويد ، ولكن ما شاهدته من وحشية بملكال لم أراه ولم أسمع به حتى من الجنجويد الذين قتلوا وأحرقوا القرى وإغتصبوا الناس وإرتكبوا ما إرتكبوا من فظائع ، المهم تمكنا من الهرب والنجاة بأنفسنا ، تم سرقة كل السوق الكبير وحرقه .. كل السوق نهب وأحرق بلا إستثناء) ، ( كانت المحلات تقتحم بطريقة إجرامية ، حيث تأتي عربة لاندكروزر يقودها أشخاص يلبسون ملابس عسكرية وينزل منها جنود يقومون بربط جنزير موجود أسفل العربة بباب المحل ثم تتحرك العربة إلى الامام فيخلع الباب ، ثم يدخلون إلى المحل وينهبون البضائع والنقود ، ثم يحرقون بعدها المحل التجاري ، هكذا تمت العملية تقريباً في أغلب المحلات ، كانت حملة نهب منظمة لها قادة ومنفذون وحرامية ) .
واضاف آدم ( خسرت كل ما أملك ، إشتريت بضائع قبل الأحداث بحوالي 200 ألف دولار خلاف البضائع الموجودة اصلاً بالمحل .. خسرت كل ما أملك ، كل ما أملك ، الآن ليس لدي ثمن وجبة واحدة ) !
لم يكن (حسن . م) تاجر وصاحب بقالة بمدينة ملكال والقادم من مدينة كتم بولاية شمال دارفور ، لم يكن متحمساً للحديث ، لاحظت أثناء حديثي مع بقية التجار ان صوته كان خفيضاً ونبرته حزينة ، كنت بالكاد أسمعه في المرات القليلة التي تداخل فيها مصححاً لتاريخ أو واقعة ، كان يحدق ببصره في السماء ، ربما كان يدعو الله عز وجل ان يعوضه خيراً في هذه المصيبة التي حلت عليهم . إقتربت منه وقلت له : الله في ، وحمد الله على سلامة الروح يا شيخ حسن ، بعد ان عرفت إسمه من زميله آدم ، رد : ان الله مع الصابرين : ( نصبر يا ولدي ) ، قالها وهو يقف بعد ان كان جالساَ مع إيماءة على وجهه تدل على انه لا يريد الحديث ، عرفت لاحقاً من المتواجدين انه قد فقد إضافة لمحل الجملة الذي يملكه بسوق ملكال الكبير والذي نهب وأحرق ، فقد ايضاً بضائع تقدر بحوالي (200) طن من البضائع المختلفة ، كان قد إستوردها عبر ميناء ممبسا الكيني قبل أسبوع من الأحداث ووصلت إلى مدينة ملكال بواسطة (صندل) عن طريق النقل النهري من جوبا . قال محدثي وهو يصفه لي ان الرجل كان كريماً وشهماً ، كان بيته ومحله قبلة للزوار وعابري السبيل . تفهمت مقدار المأساة التي يمر بها الرجل ومدى الألم الذي يعتصر قلبه خاصة ان أحدهم تدخل وقال لي بعد ان توارى (حسن) عن أنظارنا : (لا يملك شيخ حسن الآن ثمن إيجار غرفة للنوم )!
لم أكن أظن ان هنالك مأساة ساستمع إليها ذلك المساء أكبر من مأساة شيخ حسن إلا عندما قابلت (عبدالله . ن) من مدينة كبكابية بشمال دارفور والذي يملك مع إخوته مجموعة محلات تجارية بمدينة بانتيو بولاية الوحدة ، قال عبد الله : ( اولا الحمد لله على كل شئ ، أنا ما عاوز أعيد عليك ما قاله بعض الاخوه وما إستمعت اليه اليوم وأمس ، نفس الحكاية وبنفس طريقة النهب ، يقوم الجنود المسلحون بكسر ونهب المحلات يتبعها قيام بعض المدنيين بسرقة ما تبقى في المحل من أشياء صغيرة تركها الجنود ، وعندما تنتهي المهمة يقوموا بحرق المحل أو الدكان).
وأضاف : ( الحمد لله انا ما كنت موجود في بانتيو ولكن شركائي بخير الحمد لله ، اقول الحمد لله لانه في ناس قتلوا ، نحن فقدنا محلاتنا وبضائعنا كلها لكن ما متنا ، انا كنت بره بانتيو ، كنت في جوبا ، لاني كنت مشرف على نقل بضاعتنا الجديدة التي إستوردناها للكريسماس والسنة الجديدة ، من كينيا ويوغندا ، ومن تجار جملة داخل مدينة جوبا) مضيفاً ( اشترينا بضائع بحوالي مليون دولار في شهر ديسمبر الماضي وحدها ،إستدنا بعض الأموال وبعض البضائع بالآجل ، كلها راحت شمار في مرقة) ، صمت بعدها برهة ثم نظر لساعة يده ثم حياني وغادر مسرعاً ، إحترمت مشاعره وحزنه على ضياع أعوام وأعوام من الكد والسهر والتعب ، ضاعت كلها هكذا في لحظة لأن أحدهم وببساطة قد وقع ببندقيته على قرار الفوضى ضدهم ، دون تقدير لما بذلوه من خدمة ظلوا يقدمونها لإقتصاد المدينة ، ودون حتى أدنى إحترام لذكري يوم ميلاد المسيح عليه السلام ، ولكن يبدو ان لا فرق بين خوارج هذا العصر وخوارج التاريخ القديم الذين كانوا يحلون الدماء في الأشهر الحرم.
ويبدو ان الخسائر وبخلاف ما كنت أعرف قد طالت بعض المتاجر في العاصمة جوبا نفسها عقب إنفجار الأحداث في يومها الأول ، هكذا قال لي (ابراهيم . م) من مدينة نيالا وصاحب دكان بمنطقة (107) التي تقع بالقرب من قاعدة بلفام – القاعدة العسكرية للجيش الشعبي بمدينة جوبا – قال إبراهيم : ( بعد الضرب الذي حدث صبيحة الاثنين 16 ديسمبر بمدينة جوبا أغلقنا أبواب متاجرنا وهربنا بأنفسنا خوف الموت ، كانت اصوات القذائف والضرب بالدانات المنطلقة من داخل القاعدة تأتي إلينا بقوة ، خشينا الموت وأغلقنا متاجرنا وهربنا ) ، ( في صبيحة يوم الأربعاء وعندما هدأت الأوضاع في العاصمة جوبا ذهبنا إلى متاجرنا وهالنا ما رأينا ، نُهب كل السوق ، لم أكن صاحب متجر كبير ، البضاعة التي بمتجري تقدر بحوالي (60) مليون بجنيه جنوب السودان ، حوالي (15) الف دولار هي كل ما أملك ، الآن انا مدين لبعض تجار الجملة بحوالي (25) مليون جنيه ، لا أملك شيئاً ، أصبحت فجأة من تاجر لشخص يحلم بأكل وجبة في اليوم ناهيك عن اثنين ، وطبعاً لا يوجد من يأكل ثلاثة وجبات في جوبا كلها هذه الايام ) ، مضيفاً : ( قال لي صديق جنوبي انه رأى جنودا يلبسون الزي الرسمي للجيش الشعبي وهم يقومون بكسر المحلات في السوق) ، وتساءل ابراهيم قائلاً : ( لم نسرق ولم نقتل ولا علاقة لنا بالسياسة لماذا يحدث لنا كل هذا ؟ هربنا من الشمال لأنه كلما توسعت تجارتنا كبرت الإتهامات ضدنا بدعم الحركات الدارفورية المسلحة ! انا لم أدعم أي حركة مسلحة في حياتي ، أدفع الرسوم الحكومية هنا كما كنت أدفعها في الشمال ، لماذا يحدث لنا كل هذا الدمار ؟ أين سأذهب ، انا أعول أسرة كبيرة في دارفور ، أين أذهب ؟ ، لم يتركني ابراهيم قبل ان يقول كلمات خرجت من فمه همساً وكأنه يبوح لي بسر : ( عارف مافي فرق بين جهاز أمن حكومة عمر البشير وجيش الجنوب ) .
وعندما أبديت إستغرابي من وقوع مثل هذه الإعتداءات في جوبا ، نادى إبراهيم على أحدهم ، وقال لي هذا الشخص يمتلك مطعما بجوار متجري في منطقة (107) فاسمع منه ، سلمت عليه وطلبت منه ان يعرفني بإسمه ، فطلب مني وبمنتهى الحياء والذوق ان أعفيه من الإسم ولكنه أكد رواية زميله ، قائلاً بإقتضاب : ( انا القدامك دا مطعمي مقابل قيادة الجيش ، وكان العساكر يتناولون طعامهم فيه قبل الحرب ، هسع ما فضل لي منه إلا الديب فريزر والبابور .. ولا حاجة تانية ، ولا حاجة تانية .. كله سرق ) ، لم يزد بعدها وغادر إلى حيث كان يجلس مع جمع آخر من المتضررين ، فالمصائب تجمعن المصابين ، عسى ان يخففوا مجتمعين من وقع هذه المأساة التي يصعب على شخص واحد تحملها لوحده .
حكي لي ( آدم . ع) التاجر بمدينة ملكال ان بعض التجار ساروا مشياً على الأقدام من مدينة ملكال إلى ولاية النيل الأبيض في شمال السودان طلباً للسلامة بعد ان فقدوا أموالهم ممتلكاتهم ، مضيفاً بانهم لم يأكلوا شيئاً وكانوا يشربون من مياه (الخيران) والمستنقعات طوال رحلتهم .
قصة أخرى أكدها لي كل من تحدثت إليهم وهي ان حكومة الخرطوم التي تصرح بمساعدتها للمواطنين الشماليين في جنوب السودان لم تسأل ولم تقدم يد العون لدارفوري واحد ، وقال لي (محمد . أ) التاجر بمدينة بور : ( ربما أرسلوا طائرات كما صرحوا لإجلاء بعض طاقم السفارة ورجال الأمن الذين تمتلئ بهم جوبا ، عموماً هم لن يساعدوا تاجرا دارفوريا ، ولو كانوا يهتمون بنا ويساعدوننا لما إحتجنا لمغادرة بلادنا من الأساس).
هذه نماذج لعينة من التجار تمكنا من الوصول إليها ، علماً بان المئات منهم تضرروا أضرارا كبيرة كما حكى لي البعض . قصص كثيرة ومؤلمة تقطع نياط القلب بتعبير الأستاذ الحاج وراق كلما شاهد فيديو للفظائع التي ترتكبها طائرات عمر البشير وهي تقصف الأطفال بجبال النوبة ، قصص حزينة ومؤلمة تعكس صورة مأساوية أخرى للحرب اللعينة التي إندلعت في جنوب السودان ، صورة قد لا تذكر في خضم الأحداث الجارية حالياً مقارنة بما خلفته حرب (الاخوة الثوار) من قصص المقابر الجماعية والقتل بالهوية وقصص التشرد والنزوح ومعاناة الأطفال والنساء وكبار السن .
عقب دخول قوات حركة العدل والمساواة بقيادة الدكتور خليل ابراهيم إلى مدينة أمدرمان مايو 2008 ، جرد جهاز أمن النظام أكبر حملة كراهية ضد الدارفوريين في الخرطوم . ولم تقتصر الحملة على القتل والتعذيب والإعتقال الذي كان يتم بالهوية ، وانما تعرض التجار الدارفوريون بسوق ليبيا كذلك لحملة أمنية إستهدفت تصفية نشاطهم التجاري وطردهم من السوق ، وخسر العشرات من التجار أموالهم جراء تلك الحملة المسمومة .
وبعد تصفية أعمالهم ، إتجه بعضهم صوب الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور ، بينما إتجه آخرون جنوباً وهم يمنون أنفسهم بالأمن والامان من قهر حكومة عمر البشير في الخرطوم . ولكن لم يمر عام على من إستقروا بالفاشر حتى تعرضوا لأكبر عملية إحتيال رسمية ممنهجة ، مطلع 2010 ، باشراف من راعي الفساد الأول في البلاد عمر البشير وتنفيذ والي شمال دارفور محمد يوسف كبر فيما عرف وقتها بفضيحة سوق (المواسير) والذي أطلق عليه عمر البشير سوق (الرحمة) إمعاناً في الخداع ولجذب أكبر عدد من التجار بغية سرقة أموالهم ، وفقد المئات من التجار وقتها أموالهم – قدرت مصادر حكومية رسمية عدد التجار الذين تم الإحتيال عليهم وفقدوا أموالهم وممتلكاتهم بـ (1800) تاجر – ، لملم التجار ما تبقى لهم من نقود وبعضهم إستدان من الأهل والأقارب وإختاروا الهجرة إلى جنوب البلاد (جنوب السودان حالياً) .
في الجنوب انشأ التجار الدارفوريون أسواق في كافة المدن من العاصمة جوبا حتى بانتيو ناحية الحدود مع الشمال .وإزدهرت التجارة وظن التجار ان الحظ قد إبتسم لهم اخيرا خاصة وان من سبقهم من تجار دارفور قديماً ترك صورة حسنة عنهم في نفوس الجنوبيين.
وعقب إنفصال الجنوب وإعلان إستقلال الدولة الوليدة في 9 يوليو 2011 إزدهرت تجارة الدارفوريين اكثر بعد ان أصبحوا يستوردون من دبي والصين عبر ميناء ممبسا الكيني ، ومن أسواق كمبالا بيوغندا بل ومن الخرطوم نفسها إلى دولة الجنوب .
ولم يكن التجار الذين ساهموا في بناء إقتصاد الدولة الوليدة متحسبين لما حدث ليلة الأحد 15 ديسمبر حتى خرج إليهم الرئيس سلفاكير ميارديت صبيحة الاثنين 16 ديسمبر عبر التلفزيون المحلي معلناً عن إنقلاب دبر ضده بواسطة نائبه رياك مشار وآخرين . كان إعلان سلفاكير ايذاناً ببداية سوق (مواسير) اقسى ضد التجار الدارفوريين .
لم تخلف حرب (الثوار) من أجل السلطة المقابر الجماعية والقتل بالهوية ونزوح ولجوء عشرات الآلاف من المواطنين إلى مراكز الأمم المتحدة طلباً للحماية ، وحسب ، بل وخلفت ايضا أكبر خسارة تعرض لها تجار دارفور بدولة الجنوب ، فقدوا فيها عشرات الملايين من الدولارات ، وبعد ان كانوا أصحاب تجارة وأعمال أصبحوا الآن يعيشون في البرية بلا موسى بعد ان رفضت حكومة الخرطوم تقديم أي دعم لهم إسوة بالحكومات التي هبت لإنقاذ رعاياها .
(حريات) جلست وإستمعت إلى بعض التجار الدارفوريين عن الخسائر التي تعرضوا لها في جنوب السودان .
(محمد . أ) تاجر من ولاية جنوب دارفور يعمل بمدينة بور – يعمل مع شركاء له في مجالات عديدة تمتد من المواد الغذائية والمطاعم وتقديم خدمة المياه إلى أدوات البناء والكهرباء – قال لنا : ( أولاً بسم الله الرحمن الرحيم : نشكر صحيفة (حريات) جزيل الشكر لأنها أول وسيلة إعلام تهتم بنا وبقضيتنا ، فلكم خالص الشكر والتقدير على هذه الوقفة التي نسأل الله ان يجزيكم عليها ) ، ( في البداية أقول انه في صبيحة يوم الاربعاء 18 ديسمبر بعد ان إستولت القوات الموالية لرياك مشار على مدينة بور ، لجأ كل تجار السوق بعد أن أغلقوا محلاتهم إلى مقر الأمم المتحدة بالمدينة للحماية ، خاصة وان جثث القتلى كانت تملأ الشوارع والذخيرة تضرب بدون هدف محدد ، ونحن في طريقنا إلى مبنى الأمم المتحدة رأينا جثث بعض من نعرفهم من الجنوبيين ملقية في الشارع ). (وصلت إلى مقر الأمم المتحدة انا والعاملين معي واثنين من الشركاء بواسطة سيارتين نصف نقل (بك آب) كانت محملة بالزنك والأسمنت وبعض مواد البناء كنا نريد وضعها بالمخزن قبل إندلاع الأحداث لكننا لم نتمكن . في عصر نفس اليوم رأينا سحب الدخان قادمة من ناحية السوق ، عرفنا حينها ان السوق قد أحرق ، لاحقاً قال لنا شاهد ان الجنود كانوا يأتون ويفرغون كل البضائع من المحلات ويأخذونها معهم ثم يقومون بحرق الدكان ، إستمروا هكذا إلى ان تمت سرقة كل المحلات وحرقها) .
وأضاف ( محمد . أ) : ( المأساة ان الحرب في جنوب السودان بدأت وكل التجار قد تبضعوا بكل ما يملكونه من نقود إستعداداً للكريسماس الذي يعتبر موسما تجارياً هاماً بالنسبة لنا . لا اعرف تاجر يملك نقودا ببنك أو يحمل كاش معه الآن في كل الجنوب ، كل النقود تحولت إلى بضائع وقد نهبت وأحرقت المحلات) وتساءل قائلاً : ( لا أعرف لماذا تم إستهدافنا وما ذنبنا؟) . مضيفاً ( شر البلية ما يضحك كما يقولون : عندما كنا في مقر الأمم المتحدة ببور كنا نشتري المياه والأكل من بعض الباعة الجائلين الذين كانوا يبيعون هناك ، المضحك انهم كانوا يبيعون لنا بضاعتنا ، إشتريت بنقودي في المعسكر عصير (شامبيون) احد المسروقات التي قاموا بأخذها من سوبر ماركت أملكه ، أعرف هذا جيداً لان هذا العصير بالتحديد كلفني الكثير وإستوردته من الشمال ، ايضاً لم تسلم حتى العربات التي قدمنا بها من النهب حيث سرقت من داخل مقر الأمم المتحدة ، كانت الفوضى شاملة ، ورائحة الموت تخيم في سماء بور ) .
وفي سؤال لـ (حريات) عن تقديره للخسائر التي لحقت به ، قال محمد : ( في بور وحدها خسرنا ما لا يقل عن (500) ألف دولار . هذه قيمة بضائعنا التي نهبت خلاف المحلات والسيارات والمنازل وخلافه) . مضيفاً : ( نحن تجار دارفور قد كتب علينا الشقاء ، خسائر التجار بملايين الدولارات ، يبدو اننا أصبحنا مستهدفين من الكل ، حسبنا الله ونعم الوكيل .. حسبنا الله ونعم الوكيل).
( آدم . ع) تاجر من الفاشر يملك سوبر ماركت ومحل لبيع المواد الغذائية بالجملة في مدينة ملكال ، قال لنا : (بدأت الأحداث قبل ليلة الكريماس ، كان الكل يقتل الكل ، ضرب عشوائي وموت بالجملة ، لا اعتقد ان الذين ماتوا في الجنوب ألف شخص فقط ، ما رأيته بعيني من عنف في ملكال وحدها يقول ان العدد بالالاف . أغلقنا متاجرنا وهربنا طلباً للنجاة ، شاهدت أحداث كثيرة في دارفور في السابق وسمعت ببعضها ولكن ما رأيته في ملكال كان يفوقها في الرعب . ان أسوأ ما مر بدارفور هم الجنجويد ، ولكن ما شاهدته من وحشية بملكال لم أراه ولم أسمع به حتى من الجنجويد الذين قتلوا وأحرقوا القرى وإغتصبوا الناس وإرتكبوا ما إرتكبوا من فظائع ، المهم تمكنا من الهرب والنجاة بأنفسنا ، تم سرقة كل السوق الكبير وحرقه .. كل السوق نهب وأحرق بلا إستثناء) ، ( كانت المحلات تقتحم بطريقة إجرامية ، حيث تأتي عربة لاندكروزر يقودها أشخاص يلبسون ملابس عسكرية وينزل منها جنود يقومون بربط جنزير موجود أسفل العربة بباب المحل ثم تتحرك العربة إلى الامام فيخلع الباب ، ثم يدخلون إلى المحل وينهبون البضائع والنقود ، ثم يحرقون بعدها المحل التجاري ، هكذا تمت العملية تقريباً في أغلب المحلات ، كانت حملة نهب منظمة لها قادة ومنفذون وحرامية ) .
واضاف آدم ( خسرت كل ما أملك ، إشتريت بضائع قبل الأحداث بحوالي 200 ألف دولار خلاف البضائع الموجودة اصلاً بالمحل .. خسرت كل ما أملك ، كل ما أملك ، الآن ليس لدي ثمن وجبة واحدة ) !
لم يكن (حسن . م) تاجر وصاحب بقالة بمدينة ملكال والقادم من مدينة كتم بولاية شمال دارفور ، لم يكن متحمساً للحديث ، لاحظت أثناء حديثي مع بقية التجار ان صوته كان خفيضاً ونبرته حزينة ، كنت بالكاد أسمعه في المرات القليلة التي تداخل فيها مصححاً لتاريخ أو واقعة ، كان يحدق ببصره في السماء ، ربما كان يدعو الله عز وجل ان يعوضه خيراً في هذه المصيبة التي حلت عليهم . إقتربت منه وقلت له : الله في ، وحمد الله على سلامة الروح يا شيخ حسن ، بعد ان عرفت إسمه من زميله آدم ، رد : ان الله مع الصابرين : ( نصبر يا ولدي ) ، قالها وهو يقف بعد ان كان جالساَ مع إيماءة على وجهه تدل على انه لا يريد الحديث ، عرفت لاحقاً من المتواجدين انه قد فقد إضافة لمحل الجملة الذي يملكه بسوق ملكال الكبير والذي نهب وأحرق ، فقد ايضاً بضائع تقدر بحوالي (200) طن من البضائع المختلفة ، كان قد إستوردها عبر ميناء ممبسا الكيني قبل أسبوع من الأحداث ووصلت إلى مدينة ملكال بواسطة (صندل) عن طريق النقل النهري من جوبا . قال محدثي وهو يصفه لي ان الرجل كان كريماً وشهماً ، كان بيته ومحله قبلة للزوار وعابري السبيل . تفهمت مقدار المأساة التي يمر بها الرجل ومدى الألم الذي يعتصر قلبه خاصة ان أحدهم تدخل وقال لي بعد ان توارى (حسن) عن أنظارنا : (لا يملك شيخ حسن الآن ثمن إيجار غرفة للنوم )!
لم أكن أظن ان هنالك مأساة ساستمع إليها ذلك المساء أكبر من مأساة شيخ حسن إلا عندما قابلت (عبدالله . ن) من مدينة كبكابية بشمال دارفور والذي يملك مع إخوته مجموعة محلات تجارية بمدينة بانتيو بولاية الوحدة ، قال عبد الله : ( اولا الحمد لله على كل شئ ، أنا ما عاوز أعيد عليك ما قاله بعض الاخوه وما إستمعت اليه اليوم وأمس ، نفس الحكاية وبنفس طريقة النهب ، يقوم الجنود المسلحون بكسر ونهب المحلات يتبعها قيام بعض المدنيين بسرقة ما تبقى في المحل من أشياء صغيرة تركها الجنود ، وعندما تنتهي المهمة يقوموا بحرق المحل أو الدكان).
وأضاف : ( الحمد لله انا ما كنت موجود في بانتيو ولكن شركائي بخير الحمد لله ، اقول الحمد لله لانه في ناس قتلوا ، نحن فقدنا محلاتنا وبضائعنا كلها لكن ما متنا ، انا كنت بره بانتيو ، كنت في جوبا ، لاني كنت مشرف على نقل بضاعتنا الجديدة التي إستوردناها للكريسماس والسنة الجديدة ، من كينيا ويوغندا ، ومن تجار جملة داخل مدينة جوبا) مضيفاً ( اشترينا بضائع بحوالي مليون دولار في شهر ديسمبر الماضي وحدها ،إستدنا بعض الأموال وبعض البضائع بالآجل ، كلها راحت شمار في مرقة) ، صمت بعدها برهة ثم نظر لساعة يده ثم حياني وغادر مسرعاً ، إحترمت مشاعره وحزنه على ضياع أعوام وأعوام من الكد والسهر والتعب ، ضاعت كلها هكذا في لحظة لأن أحدهم وببساطة قد وقع ببندقيته على قرار الفوضى ضدهم ، دون تقدير لما بذلوه من خدمة ظلوا يقدمونها لإقتصاد المدينة ، ودون حتى أدنى إحترام لذكري يوم ميلاد المسيح عليه السلام ، ولكن يبدو ان لا فرق بين خوارج هذا العصر وخوارج التاريخ القديم الذين كانوا يحلون الدماء في الأشهر الحرم.
ويبدو ان الخسائر وبخلاف ما كنت أعرف قد طالت بعض المتاجر في العاصمة جوبا نفسها عقب إنفجار الأحداث في يومها الأول ، هكذا قال لي (ابراهيم . م) من مدينة نيالا وصاحب دكان بمنطقة (107) التي تقع بالقرب من قاعدة بلفام – القاعدة العسكرية للجيش الشعبي بمدينة جوبا – قال إبراهيم : ( بعد الضرب الذي حدث صبيحة الاثنين 16 ديسمبر بمدينة جوبا أغلقنا أبواب متاجرنا وهربنا بأنفسنا خوف الموت ، كانت اصوات القذائف والضرب بالدانات المنطلقة من داخل القاعدة تأتي إلينا بقوة ، خشينا الموت وأغلقنا متاجرنا وهربنا ) ، ( في صبيحة يوم الأربعاء وعندما هدأت الأوضاع في العاصمة جوبا ذهبنا إلى متاجرنا وهالنا ما رأينا ، نُهب كل السوق ، لم أكن صاحب متجر كبير ، البضاعة التي بمتجري تقدر بحوالي (60) مليون بجنيه جنوب السودان ، حوالي (15) الف دولار هي كل ما أملك ، الآن انا مدين لبعض تجار الجملة بحوالي (25) مليون جنيه ، لا أملك شيئاً ، أصبحت فجأة من تاجر لشخص يحلم بأكل وجبة في اليوم ناهيك عن اثنين ، وطبعاً لا يوجد من يأكل ثلاثة وجبات في جوبا كلها هذه الايام ) ، مضيفاً : ( قال لي صديق جنوبي انه رأى جنودا يلبسون الزي الرسمي للجيش الشعبي وهم يقومون بكسر المحلات في السوق) ، وتساءل ابراهيم قائلاً : ( لم نسرق ولم نقتل ولا علاقة لنا بالسياسة لماذا يحدث لنا كل هذا ؟ هربنا من الشمال لأنه كلما توسعت تجارتنا كبرت الإتهامات ضدنا بدعم الحركات الدارفورية المسلحة ! انا لم أدعم أي حركة مسلحة في حياتي ، أدفع الرسوم الحكومية هنا كما كنت أدفعها في الشمال ، لماذا يحدث لنا كل هذا الدمار ؟ أين سأذهب ، انا أعول أسرة كبيرة في دارفور ، أين أذهب ؟ ، لم يتركني ابراهيم قبل ان يقول كلمات خرجت من فمه همساً وكأنه يبوح لي بسر : ( عارف مافي فرق بين جهاز أمن حكومة عمر البشير وجيش الجنوب ) .
وعندما أبديت إستغرابي من وقوع مثل هذه الإعتداءات في جوبا ، نادى إبراهيم على أحدهم ، وقال لي هذا الشخص يمتلك مطعما بجوار متجري في منطقة (107) فاسمع منه ، سلمت عليه وطلبت منه ان يعرفني بإسمه ، فطلب مني وبمنتهى الحياء والذوق ان أعفيه من الإسم ولكنه أكد رواية زميله ، قائلاً بإقتضاب : ( انا القدامك دا مطعمي مقابل قيادة الجيش ، وكان العساكر يتناولون طعامهم فيه قبل الحرب ، هسع ما فضل لي منه إلا الديب فريزر والبابور .. ولا حاجة تانية ، ولا حاجة تانية .. كله سرق ) ، لم يزد بعدها وغادر إلى حيث كان يجلس مع جمع آخر من المتضررين ، فالمصائب تجمعن المصابين ، عسى ان يخففوا مجتمعين من وقع هذه المأساة التي يصعب على شخص واحد تحملها لوحده .
حكي لي ( آدم . ع) التاجر بمدينة ملكال ان بعض التجار ساروا مشياً على الأقدام من مدينة ملكال إلى ولاية النيل الأبيض في شمال السودان طلباً للسلامة بعد ان فقدوا أموالهم ممتلكاتهم ، مضيفاً بانهم لم يأكلوا شيئاً وكانوا يشربون من مياه (الخيران) والمستنقعات طوال رحلتهم .
قصة أخرى أكدها لي كل من تحدثت إليهم وهي ان حكومة الخرطوم التي تصرح بمساعدتها للمواطنين الشماليين في جنوب السودان لم تسأل ولم تقدم يد العون لدارفوري واحد ، وقال لي (محمد . أ) التاجر بمدينة بور : ( ربما أرسلوا طائرات كما صرحوا لإجلاء بعض طاقم السفارة ورجال الأمن الذين تمتلئ بهم جوبا ، عموماً هم لن يساعدوا تاجرا دارفوريا ، ولو كانوا يهتمون بنا ويساعدوننا لما إحتجنا لمغادرة بلادنا من الأساس).
هذه نماذج لعينة من التجار تمكنا من الوصول إليها ، علماً بان المئات منهم تضرروا أضرارا كبيرة كما حكى لي البعض . قصص كثيرة ومؤلمة تقطع نياط القلب بتعبير الأستاذ الحاج وراق كلما شاهد فيديو للفظائع التي ترتكبها طائرات عمر البشير وهي تقصف الأطفال بجبال النوبة ، قصص حزينة ومؤلمة تعكس صورة مأساوية أخرى للحرب اللعينة التي إندلعت في جنوب السودان ، صورة قد لا تذكر في خضم الأحداث الجارية حالياً مقارنة بما خلفته حرب (الاخوة الثوار) من قصص المقابر الجماعية والقتل بالهوية وقصص التشرد والنزوح ومعاناة الأطفال والنساء وكبار السن .