نشأة وتطور السينما بدارفور: سينما الفاشر ونيالا كانتا مصادر للاستنارة والمعرفة والترويه

الجاليات الاجنبية مثل الشوام والأغاريق والخواجات كانوا جمهورا دائما لسينما الفاشر…الفلاتية ووردي وإبراهيم عوض وزيدان والفاضل سعيد كانوا يقدمون حفلاتهم في سينما نيالا…

الجاليات الاجنبية مثل الشوام والأغاريق والخواجات كانوا جمهورا دائما لسينما الفاشر

ووردي وإبراهيم عوض وزيدان والفاضل سعيد كانوا يقدمون حفلاتهم في سينما نيالا

 

ظلت سينما الفاشر تشكل معلما ثقافيا هاما من معالم المدينة والتي مثلت تاريخيا العاصمة الثقافية لإقليم دارفور وقد لعبت السينما دورا رائدا نهض بمجمل الفعل الثقافي وأصبحت الفاشر من أهم مراكز الاستنارة في دارفور بفضل ظهور السينما. فمعظم الأسر كانت تتجه للسينما لمشاهدة آخر ما أنتجته مؤسسات هليود العالمية وتقضي الأسر أوقاتا سعيدة وأمسيات حالمة. فهي مؤسسة للترويح والاندماج وتجتمع الأسر في صالات العرض وفي مقاعد البلكونة ذات الخدمات المميزة من المشروبات التي كانت مباحة في تلك الايام فقد كان بوفيه السينما حافلا بأطيب الأطعمة والسندوشات والحلويات الراقية والتورطات المشكلة. وهنالك جرس مثبت في البلكونة يمكن به استدعاء عمال البوفيه لتلبية طلبات الجمهور بالإضافة لذلك كان السور الخارجي للسينما يعد سوقا حافلة للماكولات الشعبية وبعض الوجبات الخفيفة.

تبلغ مساحة السينما نحو ألف متر مربع وسعتها الإجمالية ألف وخمسمائة مقعد بها نحو ثلاثة مدرجات، منها الدرجة الأولي أو اللوج وأكثر مرتاديها كانت الأسر الأجنبية المقيمة بالفاشر من الشوام والأغاريق والخواجات المقيمين بالفاشر بالإضافة للموظفين السودانيين وأسرهم وبعض أثرياء المدينة والدرجة الثانية لمتوسطي الدخول من صغار الموظفين وبعض ميسوري الحال. أما الدرجة  الثالثة فهي لعامة الجمهور والطلاب وأصحاب الدخل المحدود.

دبنقا التقت بالسيد صالح محمود تمساح وهو أول مدير لسينما الفاشر حيث ذكر ان جمهور الفاشر كان متواصلا مع قضايا العالم وتفاعلاته من خلال ما تنتجه السينما العالمية فقد كان السودان من أكبر أسواق السينما في أفريقيا والعالم العربي وأكبر مستهلك للسينما العربية والهندية والأمريكية. ونسبة لانعدام وسائل الترفيه في دارفور استطاعت السينما ان تسيطر علي الجمهور هنا في الفاشر وأحيانا تضطر إدارة السينما أن تستأجر مقاعد إضافية لاستيعاب الجمهور الذي تضيق به المدرجات من كثرة الزحام. وذكر تمساح أن هنالك بعض الأسر تحجز مقاعدها قبل أسبوع حتي لا تتزاحم علي شباك التذاكر الذي تتراص حوله الصفوف قبل ثلاث ساعات من بدء العرض. 

ويقول تمساح: "لك أن تتخيل أن صف التذاكر يبدأ من الشباك ونهايته في سوق حجر قدو تقدر هذه المسافة بخمسمائة متر". وعن قيمة التذكر أوضح تمساح أن قيمة تذكرة درجة أولي خمسة عشر قرشا والدرجة الثانية عشرة قروش والدرجة الثالثة الشعبية خمسة قروش ونصف.

 تعطلت سينما الفاشر الوطنية وتوقفت عن العمل بسبب السياسات الحكومية وقال السيد صالح تمساح مدير سينما الفاشر إن سينما الفاشر ظلت مركزا كبيرا من مراكز الاستنارة في دافور وتمثل إحدي الحاضانات الثقافية بالاقليم. وقال إن تدهور سينما الفاشر تأثر بالاوضاع الاقتصادية منذ ثمانينات القرن الماضي وأصبحت السينما في تراجع. وحسب سياسات بنك السودان حيث تقلصلت الموارد الاجنبية مما أثر علي استيراد الأفلام علاوة علي فرض الدولة زيادة علي رسوم التذاكر متمثلة في ضريبة الترفيه والدمغة والقيمة المضافة، كل ذلك  وضع أعباء علي دور العرض، إذ عرف السودان السينما في أربعينات القرن الماضي فقد تأسست شركة السينما الوطنية في العام 1943 علي يد رهط من رجال الأعمال.

وذكر المؤرخ السوداني جبريل عبدالله مؤلف كتاب تاريخ الفاشر أن أول ظهور للسينما كان في العام ألف وتسعمائة اثنين وخمسون وكانت عبارة عن  سينما متجولة تجوب المناطق القريبة من مدينة الفاشر. وهناك سينما نصار بالقرب من دار العمال علي مقربة من مسجد الفاشر الكبير والتي ظهرت في عام ألف وتسعمائة وثمانية وخمسين. وكانت سينما صغيرة واستاجرت إحدي حيشان التاجر المشهور بابكر كرم الله وتستخدم الجوالات الفارغة كستاير تحجب الذين ليست لديهم تذاكر.

وذكر الاستاذ جبريل أن الأفلام التي تقدمها هذه السينما كانت أفلام عبلة وعنتر وأفلام  نابليون بونابورت ومعظم هذه الأفلام كانت ترسلها شركة ليكوس وهي الشركة التي أنشأها محجوب محمد أحمد والسنوسي حسين النعيم وعوض أبو زيد وهي الشركة الوحيدة التي تعمل في مجال استيراد وتوزيع الأفلام في عام ألف وتسعمائة تسعة وخمسين.

أسست سينما الفاشر الوطنية بشراكة مع التجار محمد فضيل حسن وأحمد فضيل والطيب محمود زين العابدين وعلي بدين والخواجة باسكالي افتوس بيس. وذكر الإعلامي السينمائي صالح محمود تمساح وهو اول مدير تم تعينه لسينما الفاشر الوطنية في عام ألف وتسعمائة ثلاثة وستين أن الافتتاح الرسمي للسينما تم يوم الجمعة الموافق الحادي عشر من يناير من نفس العام. وقد حضر الافتتاح كبار أعيان الفاشر وبعض قيادات مديرية دارفور بالفاشر وقال تمساح إن الفلم الذي قدم في ذلك الافتتاح كان يتحدث عن الهجرة النبوية وقد لقي استحسانا وتجاوبا منقطع النظير من الضيوف والمشاهدين. وأضاف صالح أن بعض الأطفال الذين حضروا العرض لم يستطيعوا النوم في تلك اللية حيث تابعتهم الكوابيس والمشاهد المرعبة التي شاهدوها لأول مرة. كما أن بعض الاسر منعت أطفالها من مشاهدة السينما. وأشار بقوله "..وكدنا أن نفقد تلاميذ المدارس ولكن بمساعدة المعلمين تم ارشاد الطلاب  والتلاميذ وتنبيههم  في الطابور الصباحي أن تلك الكوابيس لاخوف منها وأنها ستنتهي بعد فترة وبالفعل انتهت المشكلة واستانف الطلاب والتلاميذ عودتهم للسينما..".

وحول الأفلام وكيفية الحصول عليها أوضح أنها كانت تأتي من الشركة الوطنية للسينما والتي كانت شريكة مع شركة ليكوس وشركة أفلام السودان. وحول مراقبة الأفلام قال تمساح إن هناك لجنة اتحادية تقوم بمراجعة الأفلام حتي تتماشي مع معتقدات الناس وتقاليدهم الاجتماعية وكانت هنالك رقابة صارمة وحول التأثير الذي أحدثته السينما علي حياة الناس في مجتمع دارفور. وذكر أن السينما كانت منبرا هاما من منابر الاستنارة والوعي وربطت اهل دارفور بالعالم الخارجي حيث تعرف الناس علي العالم الخارجي وتعرفوا علي مشاهير العالم من كتاب وفنانين وشعراء وروائيين وتعرفوا علي المجتمع الدولي وأساليب السياسة الدولية وتعرفوا كذلك علي الصراعات الدولية والحروب العالمية التي هددت الحضارة الإنسانية.

وقال صالح تمساح إن مجتمع دارفور تعرف علي نجوم السينما وقادة العالم وأدركوا قيمة العلم والحضارة الإنسانية وقيمة الفضاء وأثره في تطور الحياة الإنسانية. وقال الأستاذ تمساح إن السينما بالفاشر توقفت منذ العام ألفين وثلاثة وهو العام الذي نشب فيه الصراع بدارفور. وعن إمكانية استئناف نشاط السينما ذكر صالح أن السينما واجهتها إشكالات إدارية وتم فض الشراكة بين المساهمين وتم بيعها لرجل الاعمال السوداني صديق ودعة والجمهور الآن في انتظار ما يسفر عنه قرار المالك الجديد.

وعن العصور الذهبية للسينما بدارفور قال تمساح إن أواخر الستينات وبداية الثمانينات تألقت فيها السينما وأصبحت ملاذا ومتكأً لمعظم أهل الفاشر حيث ظهرت فيه نجوم السينما العالمية من شامي كابور وكاميرباتش وكيم باخر وروبرت زولمبكي ولراج كابور ولوجورو دوت وأفلام نادية الجندي ومحمود المليجي وسمية الألفي وأمينة رزق كل هؤلاء العمالقة كانت  أفلامهم تعرض بسينما الفاشر وايضا بنيالا، حيث كانت هناك منافسة كبيرة بين السينمتين، وهناك هواة السينما الذين يتابعون الأفلام بين المدينتين وأحيانا يسافر أحدهم من نيالا الي الفاشر لمشاهدة فلم لم يتمكن من مشاهتده والعكس صحيح. 

أما في  مدينة نيالا فقد تزامن افتتاح السينما مع وصول خط السكة حديد الي نيالا وقال الباحث في تاريخ نيالا علي السماني إن سينما نيالا افتتحت في العام ألف وتسعمائة وواحد وستون، وهي جزء من الإنجازات التي أحدثتها حكومة الفريق إبراهيم عبود. وحضر افتتاحها وزير الاستعلامات والعمل وذكر السماني أن السينما كانت شراكة بين الشركة الوطنية للسينما ورجال الأعمال كامل دلال وجورج كعيكاتي. وبعد فترة اشتري كامل دلالة أسهم الشركاء وأصبحت السينما ملكا له.

وحول أول مدير لسينما نيالا ذكر السنوسي أن ازرق رزق الله هو أول مدير للسينما وهو سوري الجنسية ثم خلفه لاعب كرة القدم أمين محمد المشهور بأمين نيجيريا. وعن التميز ذكر السنوسي أن سينما نيالا اشتهرت بريادتها لأحدث الأفلام التي تنتجها شركات السينما العالمية ونيالا بحكم كثافتها السكانية وحب جمهورها للسينما. فقد كانت الشركات الموزعة للأفلام تهتم بها وأحيانا تعرض نيالا أفلاما جديدة لم تعرض حتي في دور عرض الخرطوم.

وحول كيفية الإعلان للأفلام بالسينما قال السنوسي إن لدى إدارة السينما لوحة إعلانات كبيرة، إذ تعرض فيها الملصقات والصور التي تتحدث عن الفلم وسكان مدينة نيالا أيضا. وجمهور السينما يتذكرون المرحوم جوكر الذي يتجول بالمكرفونات ويعلن للجمهور عن فلم اليوم. وقد تميز جوكر بحبه للسينما، إذ بدأ أول عمله بالسينما المتجولة التي كانت تتبع لوزارة الاستعلامات والعمل. والعم جوكر كان موظفا بقسم المخاطبة الجماهرية بوزارة الاستعلامات والعمل منذ أربعينات القرن الماضي. وحول الأفلام التي تقدم ذكر السنوسي أن هنالك جدولا معروفا فمثلا يوم الخميس يقدم فيه الفلم الاجنبي لأن معظم الطلاب في نيالا يدخلون السينما في يوم الخميس ولذلك تقدم فيه الأفلام الأجنبية التي تحوي القصص والحكايات المرتبطة بالثقافة والمعرفة. أما يوم الجمعة فهو مخصص للأفلام العربية ويوم السبت للأفلام الجاسوسية ويوم الاحد للأفلام الهندية.

وحول الوظائف الأخري التي قامت بها السينما قال السنوسي إن سينما نيالا كانت مسرحا كبيرا غني فيه كبار الفنانين منهم الفنان محمد وردي ومحد الأمين وعبد العزيز محمد داؤود وحمد الريح وزيدان إبراهيم وإبراهيم عوض وعائشة الفلاتية وسمية حسن. وعرضت فيه الفرق المسرحية مثل فرقة الفنان الفاضل سعيد. وذكر السنوسي أن السينما اعترضتها بعض المشاكل الأمنية التي ألقت بظلالها علي الولاية حيث يصعب تشغيلها وعملها مع حالة الطوارئ التي تعيشها الولاية إضافة الي أنه حتي إذا عولجت هذه الاسباب القاهرة فإنها تحتاج الي تأهيل وصيانة. وذكر السنوسي أن آخر عهد جمهور نيالا بالسينما كان في العام الفين وثلاثة في شهر أبريل، وأن آخر فلم شاهده الجمهور كان الفلم الهندي اتش كمارا والذي انتج في العام الفين وثلاثة. 

Welcome

Install
×