إدانة سفاح صربيا صافرة إنذار لقتلة الشعوب

أخيراً ، بعد مرور واحد وعشرين عاماً من توجيه محكمة يوغسلافيا السابقة المكونة بقرار من مجلس الأمن الدولى التهم الى رادوفان كاراديتش زعيم صرب يوغسلافيا السابق الطبيب النفسانى والشاعر الذى نصب نفسه قائداً عسكرياً ومن بعد رئيساً لما اسماها جمهورية هيرسكا الصربية داخل جمهورية البوشناق

 

 

بقلم : د. أمين مكى مدنى

 

أخيراً ، بعد مرور واحد وعشرين عاماً من توجيه محكمة يوغسلافيا السابقة المكونة بقرار من مجلس الأمن الدولى التهم الى رادوفان كاراديتش زعيم صرب يوغسلافيا السابق الطبيب النفسانى والشاعر الذى نصب نفسه قائداً عسكرياً ومن بعد رئيساً لما اسماها جمهورية هيرسكا الصربية داخل جمهورية البوشناق التى حاصرت عاصمتها سيراييفو وما حولها لمدة تفوق الثلاثة اعوام استباح فيها لجنوده وعصاباته المرتزقة دماء وشرف ومقومات حقوق المسلمين كافة فضلاً عن اتهامه بارتكاب مذبحة سربرنيتسا الشهيرة التى قام فيها باصدار الاوامر لرفيقه ومرؤوسه ملاديتش فى العام 1995بجمع حوالى ثمانية آلاف شاب ورجل من البوشناق المسلمين ممن لهم قدرة على حمل السلاح واخذهم الى بقعة نائية وسط الجبال وتقييدهم واعدامهم رمياً بالرصاص ومن ثم دفنهم فى قبور جماعية  ، لازالت بعض الاسر تحتها تبحث عن بقايا رفات ابنائهم وازواجهم واخوانهم ! اختفى بعدها الطبيب الشاعر ، وحسب بعض الرويات انه اضطر لاطلاق لحية كثيفة والاختفاء والعمل كطبيب بلدى وسط اهله الصرب .

اخيراً تم القبض عليه وتقديمه امام محكمة يوغسلافيا الخاصة التى قضت بادانته بعدة تهم فى جرائم ضد الانسانية وجرائم حرب وجريمة الابادة الجماعية والحكم عليه بالسجن لمدة اربعين عاما ، حكماً رادعاً غير مسبوق من محكمة جنائية دولية خاصة على من ادعى وان زوراً انه رئيس لجمهورية ما. هذا الحكم التاريخى ينبغى ان يؤخذ فى سياقه من انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان فى مختلف انحاء العالم وحروب اهلية ونزاعات مسلحة انتهت فى بعضها الى جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية والابادة الجماعية والتطهير العرقى والقتل والاغتصاب والترحيل القسرى والاحتجاز التعسفى والتعذيب والهجرة والنزوح واللجوء ، مآسى شهدناها فى حربين عالميتين ونزاعات اقليمية وداخلية وحكام مستبدين سكارى بالسلطة وقمع شعوبهم وبالفساد والثراء الفاحش الحرام مسلحين بترسانة القوانين الاستثنائية والتعسفية ، يعدها وينفذها مرضى النفوس ممن لاعلاقة لهم بالانسانية ولا بالعدالة أو القانون أو الكرامة الانسانية .

فى ضوء تلك الاوضاع المأساوية ليس مستغرباً ان يستقبل العالم ، خاصة دعاة حقوق الانسان والديمقراطية والحريات العامة ، ذلك الحكم التاريخى على ديكتاتور البوسنة بالترحاب والآمال فى مستقبل أكثر عدالة وأمناً وسلاماً ومساواة.

ولم يعرف القانون الدولى معنى أو قيمة للعدالة الجنائية ومحاكمة الطغاة المتجبرين ومرضى النفوس قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية التى راح ضحيتها أكثر من خمسين مليوناً من الارواح بسبب قنابل الطائرات والمدفعية والتعذيب والقتل فى المعسكرات والميادين العامة والقصف الجوى للبيوت والمشافى والمدراس وخلافها من المنشآت المدنية وسفك دماء الابرياء لا لسبب الا لكونهم يهود أو زنوج أو غجر (روما) او مواطنين من معسكر هذا العدو أو ذاك .. بعد كل ذلك اصرت حكومات الحلفاء المنتصرين على معاقبة المهزومين فى المعارك وفق قوانين واجراءات ومحاكم وقضاة المنتصرين ، دون مراعاة لأسس العدالة وقيم واجراءات القانون السليم ، فنفذت ما وصفت حقاً بـ(عدالة المنتصرين) – بلا وازع دينى أو حكمة انسانية ، فكانت ابعد ما تكون عن العدالة الجنائية الدولية .

غنى عن كل قول ، لم تكن تلك اوضاع ترضى الكثيرين حكاماً ومؤسسات ومحكومين ، فقامت جهات انسانية مختلفة بايلاء كثير اهتمام بشأن العدالة الجنائية الدولية ، بما فى ذلك الصليب الاحمر والهلال الاحمر بعون بعض الدول ، بصوغ اربع اتفاقيات هى : حماية الغرقى فى البحار والجرحى فى ميادين القتال واسرى الحرب وحماية المدنيين فى اوقات النزاعات المسلحة ، تعرف مجتمعة باسم اتفاقيات جنيف الاربع لسنة 1949- اى القانون الانسانى الدولى .

وعلى أهمية كل اتفاقية فى مجالها فان الاتفاقية الرابعة المعنية بحماية المدنيين فى اوقات النزاعات المسلحة ربما كانت هى الاكثر اهمية فى مجال حديثنا هذا . بداية ، جدير بالذكر ان دول العالم اجمع (ما عدا الكيان الصهيونى) قد صادقت على الاتفاقية ، وهى ، كما عنوانها ، تسعى لحماية المدنيين وتجريم كل فعل أو امتناع من شأنه ان يعرض المدنيين أو ما يخصهم لأى اذى او خسارة أو عدوان غير مبرر ، كما يلزم الدول الاعضاء بتجريم مثل تلك الافعال ومعاقبة مرتكبيها امام محاكمها دونما اعتبار لجنسياتهم (ما يعرف بالولاية القضائية الدولية ) أو زمان أو مكان ارتكاب الفعل أو تسليمهم الى دولة ذات ولاية لمحاكمتهم . مثال الولاية القضائية الدولية الذى اثير باهتمام بالغ من المجتمع الدولى فى طلب اسبانيا محاكمة ديكتاتور تشيلى بينوشيه عما ارتكبه عندما كان رئيساً لبلاده بحق مواطنين اسبان ، وذلك عند زيارته بريطانيا نهاية التسعينيات ، ولولا اعتراض وزير داخلية بريطانيا انذاك على تسليم بينوشيه بسبب مرضه (وفق سلطات الوزير البريطانى) لكانت اسبانيا قد تسلمته وحاكمته . وكما هو معروف فان السنغال تقوم حالياً بمحاكمة حسين هبرى رئيس تشاد السابق امام محاكم السنغال بسبب ما ارتكبه من جرائم إبان رئاسته لجمهورية تشاد . وفى ذات السياق هرب رئيس وزراء اسرائيل السابق شارون من بلجيكا حينما قامت عدد من المنظمات بفتح بلاغات ضده بارتكاب انتهاكات جسيمة بحق الفلسطينيين فى الاراضى المحتلة ، وذات الشئ حدث بالنسبة الى يوسى بلين وزير خارجية الكيان الصهيونى حينما غادر لندن مسرعا قاطعا زيارة له بعد فتح بلاغات مماثلة بحقه . كما يروى الراوى ان احد دهاقنة حكومة الانقاذ بالسودان هرول الى الطائرة مسرعاً فى لندن بأسباب مماثلة .

وتنبغى الاشارة الى ان مبدأ الولاية القضائية الدولية تم تطبيقه بنجاح فى كل من سويسرا وبلجيكا وتمت بموجبه محاكمة وادانة ومعاقبة عدد من الضباط الفارين من جمهورية رواندا بسبب المذابح التى ارتكبت هناك بين قبيلتى التوتسى والهوتو . ولكن على الرغم من التقدم الذى احرزه مبدأ الولاية القضائية الدولية فى مجال العدالة الجنائية الدولية ، ظلت المطالبة على اشدها لايجاد نظام قضائى جنائى دولى لمحاكمة مرتكبى جرائم كالابادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية . فى تلك الاثناء اندلعت الحرب فى البلقان وطفح الكيل بالنزاعات الدامية بين الطوائف الاثنية والدينية المختلفة ، مرارات اخفاها حكم تيتو الحديدى وما ان زال حتى سعت كل طائفة للانفراد بدولة تخصها دون غيرها ولا تسع مواطنين ولدوا وعاشوا فى تلك الاقاليم طوال اعمارهم ، فانتشر العنف والدمار والقتل على الهوية ، وازهقت مئات الالوف من الارواح وهجرت امثالها ودمرت المنشآت والملاجئ وانتشر النزوح والهجرة بمقاييس لم تشهدها اوروبا لما يزيد عن نصف قرن من الزمان عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية .

مرة أخرى أوقظ الضمير العالمى ، او بالاحرى لدى الدول الكبرى ، فقام مجلس الأمن الدولى فى 1993 بانشاء المحكمة الخاصة بيوغسلافيا (كما محكمة رواندا) بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لمحاكمة مرتكبى الجرائم المحددة فى القرار ، شاملة جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية ، والابادة الجماعية ، والتطهير العرقى والاغتصاب وغيرها من الجرائم التى أدت الى ضياع مائة الف قتيل . لم تكن تلك المحكمة لترضى امانى المدافعين عن حقوق الانسان فى كل زمان ومكان كونها محددة الولاية زماناً ومكاناً ، غير انها تضمنت تعريفات قانونية جديدة ومستقرة لانواع الجرائم فى اوقات النزاعات المسلحة الداخلية والاقليمية والدولية وسعت لملئ ذلك الفراغ القانونى بصفة مؤسسة . كما لا ينبغى تجاوز ان تلك المحكمة ذاتها قد قامت بمحاكمة وادانة وفرض عقوبات على عدد من القادة العسكريين فى اقاليم البلقان الثلاثة . كما لابد من ذكر واقعة عن ذات المحكمة حيث شرعت فى محاكمة سلوبودان ميلوسيفيتش رئيس حكومة الصرب فى بلغراد بعد توجيه تهم فى ذات المجال ، غير انه ، كما هو معروف توفى داخل سجنه فى لاهاى .

نختم فنقول اننا بعد ان شهدنا فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية غياب اى قانون جنائى دولى ، ثم فترة ما بعد الحرب محاكمات طوكيو التى عرفت كما تقدم بمحاكم المنتصرين بكل قصورها ، انتقلنا فى طفرة كبرى الى اجازة القانون الدولى الانسانى لسنة 1949 واقرار مبدأ الولاية القضائية الدولية . وفى سياق هذا التراكم التدريجى لتطور القانون الانسانى الدولى تجئ محاكمة وادانة وعقوبة رادوفان كاراديتش بجرائم ضد الانسانية وجرائم حرب ، ثم تتويج كل هذه الجهود بانشاء المحكمة الجنائية الدولية بمدينة لاهاى بهولندا في الأول من يوليو 2002 بموجب ميثاق روما، الذي دخل حيز التنفيذ في 11 أبريل من السنة نفسها ، وتختص المحكمة الجنائية الدولية بمحاكمة جرائم الإبادة الجماعية، وتعني حسب تعريف ميثاق روما، القتل أو التسبب بأذى شديد بغرض إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية إهلاكا كليا أو جزئيا. والجرائم ضد الإنسانية، وهي أي فعل من الأفعال المحظورة المنصوص عليها في نظام روما، إذا ارتكب بشكل منظم وممنهج ضد مجموعة من السكان المدنيين، مثل القتل العمد والاغتصاب والإبعاد والتهجير القسري والتطهير العرقى والاسترقاق. وجرائم الحرب، وتعني كل الخروقات المرتكبة بحق اتفاقية جنيف لسنة 1949، وانتهاك قوانين الحرب في نزاع مسلح دولي أو داخلي. ويمكن للمحكمة أن تنظر بقضايا أشخاص متهمين بارتكاب هذه الجرائم مباشرة، أو آخرين لديهم مسؤولية غير مباشرة فيها، كالمسؤولية عن الإعداد أو التخطيط، أو مسؤولية التغطية عنها، أو التشجيع عليها.

ويجئ كل هذا ليكرس مفاهيم عدم الافلات من العقاب وضرورة محاكمة كل مجرم ارتكب انتهاكات جسيمة بحق شعبه ، وكل سدنته , طال الزمن ام قصر ، ومؤكداً ان سيرورة العدالة والانتصار للمسحوقين والمقهورين من البسطاء والمساكين العزل فى كل ارجاء العالم لن تتوقف ابداً ، وان غدا لناظره لقريب

Welcome

Install
×