الامام الصادق المهدي: ما بين الوفاق والفراق
ظروف موضوعية وذاتية معلومة جعلت النظام الحاكم في السودان منذ أوائل عام 2014م يتحول من حصر حواراته الثنائية مع الحركات…
بقلم: الإمام الصادق المهدي
بسم الله الرحمن الرحيم
ظروف موضوعية وذاتية معلومة جعلت النظام الحاكم في السودان منذ أوائل عام 2014م يتحول من حصر حواراته الثنائية مع الحركات المسلحة التي أفرزتها سياساته إلى حوار مع كل الجسم الآخر المعارض له في خطة سميت حوار الوثبة الذي انخرطت فيه قوى سياسية شبه موالية. حوار جرى عبر ست لجان وأفرز توصيات اجتمعت لدى أمين عام هو الأستاذ هاشم محمد علي ويرجى أن تنظر في اجتماع عام في العاشر من أكتوبر 2016م لاتخاذ قراراته.
هذا الحوار قاطعته القوى ذات الثقل المدني والعسكري.
عبر جلستيه رقم 456 ثم 539 قرر مجلس السلم والأمن الأفريقي دعوة هؤلاء لحوار يبدأ بمرحلة تمهيدية. آلية الوساطة الأفريقية الرفيعة قدمت للنظام السوداني وقوى نداء السودان خريطة طريق كأجندة للحوار التمهيدي المذكور قبلها النظام ووقع عليها في مارس 2016م وبعد إجراءات معينة وقع عليها نداء السودان في أغسطس 2016م.
رؤى أن يتخذ الحوار التمهيدي هذا مسارين: مسار يركز على أهم بنود خلق المناخ المناسب للحوار الوطني وهو وقف العدائيات وانسياب الإغاثات الإنسانية لمستحقيها.
هذا المسار انطلق بين النظام الحاكم والقوى المسلحة من فصائل نداء السودان ولكنه تعثر وما زال متعثراً حول نقاط خلافية محدودة، ومنذ أغسطس 2016م تحاول آلية التوسط الأفريقي وبعض جيران السودان في أُثيوبيا ويوغندا حلها. ومن جانبي قدمت مبادرة ذات هدف مماثل.
منذ أغسطس 2016م حسب النظام السوداني أن موقفه تحسن لدرجة تمكنه من التنصل من ما وقع عليه من حوار خريطة الطريق وإعلان أن الحوار الوطني الذي يقبله هو الحوار الداخلي الذي سوف يكتمل بالاجتماع العام المقرر عقده في العاشر من أكتوبر 2016م ويومئذٍ يقفل باب الحوار الوطني فمن شاء أن يحضره فليحضر ومن غاب عنه سقط دوره في الحوار الوطني. أي أن النظام سوف يكتفي بحواره الداخلي وسوف يتنصل مما وقع عليه من حوار خريطة الطريق.
كان النظام منذ مارس 2016م يحث قوى نداء السودان وآخرين أن يوقعوا على خريطة الطريق. ولكن بعد هذا التوقيع في أغسطس ظن النظام السوداني أن تطورات داخلية وخارجية دعمت موقفه أغنته عن أجندة خريطة الطريق. أهم هذه التطورات في نظره خمسة:
1. أنه قد حسم الحرب الأهلية في دارفور لصالحه.
2. أن تدهور أوضاع دولة الجنوب السوداني جردت الحركة الشعبية لتحرير السودان (شمال) من أهم مناصريها.
3. أن قوى الأسرة الدولية المهتمة بالشأن السوداني أي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قد نشأت لها أولويات، هي ضبط حركة الهجرات غير القانونية والتصدي للإرهاب، جعلتها حريصة على التفاهم مع نظم الحكم في البلدان المعنية والنظام السوداني منها فحرصت على كسبه لمساعدتها.
4. أن مشاركة النظام السوداني في عاصفة الحزم الخليجية فتحت للنظام فرصة لصفقة المشاركة في العاصفة مقابل الدعم ما يساهم في فك أزمته الاقتصادية وعزلته الدولية في هذا المجال.
5. أن تحسن علاقات النظام مع بعض دول الجوار خاصة يوغندا سوف يساعده على إجراء حوارات ثنائية مع مكونات قوى نداء السودان لكي تقبل الانخراط في حوار الداخل الذي سوف يكتمل في العاشر من أكتوبر.
وفي اجتماع نداء السودان في أواخر سبتمبر 2016م تأكد الآتي:
1. أن قوى نداء السودان والقوى السياسية المتحالفة معها موحدة في موقفها وترفض الانخراط في حوار النظام وحلفائه المزمع إنهاؤه في أكتوبر 2016م.
2. أن الحوار الوطني الذي تلتزم به هو الحوار الشامل عبر خريطة الطريق وإشراف الآلية الأفريقية العالية.
3. إذا تمترس النظام حول موقفه وتخلى عن التزامه بخريطة الطريق فإن القوى السياسية التي لم تشارك في حوار الداخل سوف تعتبر أن النظام قد أجهض الحوار الوطني ولذلك فإن واجبها الوطني إزاء استمرار النظام في استبداده وفساده هو العمل على إسقاط النظام بالوسائل المدنية الخالية من العنف وحصر موقف فصائلها المسلحة في الدفاع عن النفس.
هكذا تكتمل عوامل الاستقطاب الحاد وتفوت على الوطن فرصة تاريخية لأن ظنون النظام جعلته يتنمر.
ولكنه نمر من ورق للأسباب الآتية:
1. نعم أصاب بعض القوى المسلحة المضادة للنظام ضعف ولكن هذا لا يبرر للنظام أنه حقق استقراراً في دارفور بل زاد الاقتتال القبلي بصورة غير مسبوقة أدت إلى زيادة كبيرة في أعداد النازحين واللاجئين حتى تجاوز عددهم ثلاثة ملايين وهؤلاء مع الزمن صاروا قوى سياسية هائلة ومعارضة للنظام بشراسة.
لقد أجرت منظمة راند الدراسية الأمريكية دارسة حول كل حركات المقاومة المسلحة في العالم للفترة ما بين 1983م و2008م شملت 648 حركة، وتوصلت لاستنتاج أنه مهما تقلبت ظروف المواجهة العسكرية فلا يمكن إنهاء هذه المواجهات المسلحة غير المتكافئة إلا عن طريق اتفاق سياسي.
وحتى ما حظي به النظام من موقف عسكري فقد دخل فيه عاملان يسلبان جدواه هما:
الأول: استخدام أسلحة محرمة دولياً وثقتها منظمة العفو الدولية، وسيكون لها ما بعدها من إدانات للنظام. أسلحة كيمائية وقنابل عنقودية محرمة لكثرة ضحاياها من المدنيين والأبرياء.
الثاني: استخدام قوى غير نظامية عقيدتها القتالية تجعلها خطراً على الأمن القومي فما تحقق من انتصارات سوف تكون على حساب الأمن القومي السوداني.
2. منذ الفترة الانتقالية بعد عام 2005م اكتسبت قوى الحركة الشعبية (شمال) كينونة ذاتية زادت عندما أبرمت الحركة الشعبية الأم اتفاقية السلام وعلقت مطالب فرعها الشمالي ببرتوكولين.
لذلك ولا سيما منذ انفصال الجنوب تكرست كينونة الحركة الشعبية (شمال) السياسية والعسكرية ما جعلها مستقلة عن دولة الجنوب.
لقد احتفى النظام السوداني ببيانات منظمة "سنتري" التي أسسها بالاشتراك الممثل الشهير جورج كلوني عن حسابات قيادات الحركة الشعبية قادة جنوب السودان. ومهما كانت صحة هذه البيانات فإن الجزء القادم منها يتناول قيادات النظام السوداني ويقال إن أرقامهم مذهلة.
فعلام يأنفُ لاعبٌ من لاعبٍ
وكلاهُما عضوٌ بنفس النادي؟!
(أحمد مطر)
3. نعم سوف يستخدم استعداد النظام لمساعدة الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي في مهمة شرطية، ولكن لهذا التعاون حدوده، ولا يمكن أن يحدث تطبيع مع النظام لأن القرار في هذه الدول ليس محصوراً في الجهاز التنفيذي بل لأجهزتهم التشريعية والرأي العام دور مهم في القرار. ما يحول دون التطبيع أن النظام في قائمة رعاية الإرهاب وعليه عقوبات اقتصادية وضده 63 قرار مجلس أمن أغلبها بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهم جميعاً ملتزمون بنظام روما وبالتالي بملاحقات المحكمة الجنائية الدولية، ولا يمكن أن يجري أي تطبيع مع النظام السوداني إلا عبر اتفاقية سلام مجدية وتحول ديمقراطي حقيقي. ومن جانبنا سوف نقوم بحملة قوية لربط المنافع المطلوبة للبلاد بتحقيق الأجندة الوطنية: أجندة السلام والتحول الديمقراطي، لكيلا تؤدي أية تطورات إلى تمكين النظام السوداني من مزيد من البطش بالشعب السوداني.
4. نعم النظام السوداني غير جلده بصورة انتهازية للمشاركة في عاصفة الحزم ولكن قيادات عاصفة الحزم تدرك أن النظام السوداني متقلب ولذلك سوف تعطيه أجرة بقدر ثقتها المحدودة فيه، ما لا يبلغ حجم الدعم المادي والسياسي الذي يتطلع إليه النظام. وعاصفة الحزم نفسها تسعى الآن للسكون، ما يقفل الباب أمام المتهافتين عليها.
5. نعم اجتهد النظام السوداني لتحقيق اتفاقات ثنائية مع بعض فصائل نداء السودان عبر وساطة بعض دول الجوار خاصة يوغندا ودولة جنوب السودان. ولكن هذه المساعي غير مجدية في محاولة إلحاق تلك الفصائل بالحوار الذي سوف يكتمل بين الحزب الحاكم وحلفائه في العاشر من أكتوبر القادم. ولكن:
من ليس يفتح للضياء عيونه هيهات يوماً واحداً أن يبصرا
أقول:
يمكن للنظام السوداني التخلي عن الخطة التي سوف تقفل باب الحوار الوطني وتؤدي للاستقطاب الحاد والمنازلة الحتمية التي يدخلها بموقف اقتصادي منهار، وموقف أمني يكلفه الاعتماد على قوى هي نفسها خطر على الأمن القومي.. موقف أمني يكلفه لقمع معارضيه في اليوم ما يساوي دخله في شهر، وموقف دولي مهما دخلت فيه من تفاهمات محدودة لن يسعفه في فك حصار المحكمة الجنائية ولا حصار 63 قرار لمجلس الأمن، ولا تحقيق المنافع الممكنة للسودان بإلغاء الدين الخارجي، ورفع العقوبات الاقتصادية وغيرها، وهي منافع لا يمكن تحقيقها إلا عبر السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي.
أمام النظام السوداني إذا هداه الله أن يفتح باباً مقنعاً للوفاق إذا:
· أقدم على إبرام اتفاقية وقف العدائيات وبسط الاغاثات الإنسانية.
· اعتمد ما يرى من قرارات في اجتماعه في العاشر من أكتوبر القادم واعتبر أن تلك القرارات ملزمة لمن شاركوا فيها، وجدد التزامه بخريطة الطريق الأفريقية لتمكين آلية الوساطة الرفيعة من ترتيب اللقاء بموجب تلك الخريطة.
ختاماً: إن التصريحات المتغطرسة التي تطفل لها بعض المحسوبين على النظام وحلفائه سوف تعزز ما تستحق من إدانة بل ومن حدة مضادة. مساجلات الطريق للمواجهة. إنا من الذين يتبعون هداية الكتاب: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)[1] وهداية السنة: "مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَأْثَمْ "[2] وحكمة الحكيم:
ملكتُ بحلمي فرصةً ما استرقَّها من الدهر مفتولُ الذراعينِ أَغْلَبُ
ولكن إذا استكبر النظام فالمضطر يركب الصعب وسوف يجدنا المشاهدون: من معشر كَثيرُ الرَزايا عِندَهُم قَليلُ.
[1] سورة النساء الآية (128)
[2] صحيح البخاري
[2] صحيح البخاري