عمر قمر الدين إسماعيل: الخروج من القُمْقُم: السودان وجدل العقوبات (1-3)
لا بد من الاعتراف بان القليل جداً من الموضوعات المتعلقة بسياسات الدول قد لاقت رواجاً في الآونة الأخيرة مثلما لاقت العقوبات الأحادية الأميركية …
عمر قمر الدين إسماعيل
تمهيد:
لا بد من الاعتراف بان القليل جداً من الموضوعات المتعلقة بسياسات الدول قد لاقت رواجاً في الآونة الأخيرة مثلما لاقت العقوبات الأحادية الأميركية علي دول بعينها، من بينها السودان. فقد ذهب العارفون والمحللون الي البحث في اثار وتأثير العقوبات على الدولة والسياسة دون إمعان النظر في العقوبات نفسه و وضعها تحت مِبضَعِ التفنيد. ولذلك سنحاول هنا تقعيد أمر العقوبات في مِنصَّةٍ فنية، لننطلق من ثمَّ في توصيف معرفي لماهيتها و موقعها في اتخاذ القرار، و صلة كل ذلك بما نحن عليه الآن في السودان. فبعد تراكم أرتال من العقوبات، وُضِع السودانُ في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وأضافت الولايات المتحدة الأمريكية عقوباتٍ اقتصاديةً أخري علي السودان اشتملت علي "عقوبات مالية علاوة علي حرمان السودان من الاستفادة المادية من التجارة و الاستثمار، بما فيها الاستثمار في قطاع النفط السوداني" كما ورد في إعلان السيدة مادلين أولبرايت، وزير الخارجية الأمريكية في نوفمبر من العام 1977
في مايو 2007 اضاف الرئيس حينها جورج بوش الابن مزيداً من العقوبات الاقتصادية علي السودان. فقد امر الرئيس بوش بإضافة واحد وثلاثين شركة معظمها مملوكة لحكومة السودان الي قائمة سابقة قوامها مائةٌ و ثلاثين شركة كانت في القائمة لنحو عشر سنوات. كان المحرك الاساس لفرض هذه العقوبات الجديدة استمرار العنف غير المسبوق في إقليم دارفور. فقد ذكر الرئيس بوش في معرض تبريره لهذه العقوبات الجديدة انه " و لوقت طويل قد عاني أهل دارفور علي يدي حكومة ضالعة في القصف الجوي والقتل والاغتصاب ضد مدنيين أبرياء " و أضاف " إن إدارتي قد وصفت هذه الأفعال بوصفها الحقيقي: الإبادة الجماعية".
ولكن قصة العقوبات الاقتصادية علي السودان يعود تاريخها لما قبل مجئ حكومة الإنقاذ بقليل. ففي كتابها الموسوم ب "العقوبات الذكية "، ذكرت البروفيسور ميغان اوسوليفان انها بدات في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري في ديسمبر من العام 1984 حينما "عطلت" الولايات المتحدة اتفاق العون الاقتصادي الثنائي مع السودان الي حين اتفاقه مع صندوق النقد الدولي علي (برنامج) الإصلاح الاقتصادي في البلاد. و بحسب اوسوليفان، فان عقوبات إضافية قد تم فرضها علي السودان في ديسمبر من عام 1988. غير ان العقوبات في عهد الإنقاذ قد بدات منذ بواكير وصولها للسلطة. إذ ان البداية قد كانت في 28 فبراير من العام 1990 حين تم تطبيق الفقرة 513 من قانون العمليات الخارجية بتدعيم العقوبات القائمة علي السودان ك"رد فعل علي انقلاب الثلاثين من يونيو والذي اطاح بحكومة السيد الصادق المهدي المنتخبة ديموقراطياً"؛ كما ورد في حواشي القرار. و كرت المسبحة من حينها كما سنري في تفصيلات العقوبات التي طالت السودان علي مدي ما يزيد عن ثلاثة عقود. غير ان الفاحص للعقوبات التي طالت السودان طوال هذه المدة، لا يني ان يلحظ انها قد تراكمت وازدادت سطوتها مع إهمال الحكومة لها في بعض الأحيان، و السخرية منها في احايين اخر. فقد درجت حكومة الأمر الواقع هذه علي سك تعبيرات من المخيال الشعبي تجابه به اشد الأشياء جدية بسخرية هي من يدفع ثمن عوارضها في الآخر، وليت الأمر انتهي عندهاهي وحسب، و لكن يؤدي سوء تقديرها للأمور الي عواقب تطال اوزارٌها البلادَ و العباد.
تفصيل العقوبات:
عرفت العلاقات السودانية الأمريكية عبر الزمن بانها تمر في العادة بمراحل مختلفة في حقبٍ تواترت فيها بين علاقة متوازنة منذعهد الرئيس عبود والديموقراطية التي تلت ذلك، الي علاقةٍ اكثرُ حميميةً في عهد النميري. فقد تأرجحت هذه العلاقات بين قطعها من جانب السودان في أواخر الستينات بعد اتهام الولايات المتحدة بدعم إسرائيل في حربها ضد العرب، الي تجميد الولايات المتحدة معوناتها للسودان في العام1984 اعتماداً علي القانون الامريكي القاضي بذلك التجميد علي خلفية عدم توصل السودان لتسوية مع صندوق النقد الدولي حول الإصلاح الاقتصادي في السودان (). وعلي الرغم من احتفاظها بعلاقات جيدة، الا ان الولايات المتحدة الأمريكية فرضت عقوبات علي السودان في ديسمبر 1988 وذلك لتخلف السودان عن دفع ديون مستحقة للولايات المتحدة. الا ان عهد الإنقاذ قد شهد نصيب الأسد من العقوبات المفروضة علي البلاد مع ازدياد سوء العلاقات الدبلوماسية والتي قاربت القطيعة في بعض المراحل. ففي فبراير و نوفمبر من العام 1990 أقدمت الولايات المتحدة علي فرض عقوبات علي السودان بناءً علي القانون 513 والذي يحرم التعامل مع نظام استولى علي الحكم عن طريق الانقلاب العسكري وقانون "تعديل بروك" والقاضي بوقف التعاون في مجالات عدة من بينها وقف المعونات العسكرية. توالت العقوبات علي السودان من بعد من الولايات المتحدة و من نظيراتها من الدول عبر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. فعلي صعيد الولايات المتحدة كانت أكبرخسارات السودان متمثلةً في وضع البلاد علي قائمة الدول الراعية للإرهاب في أغسطس من عام 1993. وبموجب هذا لقرار، ترتب علي الحكومة السودانية اثبات براءتها من هذه التهمة و تم تقييد حركة الدبلوماسيين السودانيين داخل الولايات المتحدة مع حرمان السودان من حق التمتع بإلغاء الديون والتي تراكمت بشكل فاضح الي ان بلغت الأربعين مليارا من الدولارات أو يزيد. كما ان التعاون العسكري و التكنولوجي قد تم تقييده علي نحو بلغ به درجة تقرب من الصفر. بيد ان المشكل الأكبر كان في حرمان السودان من تلقّي القروض و المنح من المؤسسات المالية العالمية، والتي بدورها قد أدت الي ضمور الاستثمارات الأجنبية في السودان في بلد يعاني اقتصاده من فقر دمٍ مزمن و تشوّهات هيكلية فاقم من مفعولها سياسات التمكين البلهاء و فقدان السودان الموهوبين من مواطنيه الذين دٌفِعوا لهجرةٍ قسرية لم يعرف التاريخ لها مثيلا. ومن الآثار الكارثية لهذا القرار، اصبح المواطن السوداني متهماً خارج حدود الوطن الي ان يثبت العكس، وأضحي الجوازالسوداني وثيقة ذلك الاتهام عِوَضَ ان يصير دليل فخارٍ و شارةَ انتماء. و في نوفمبر 1997 زاد الرئيس كلينتون الأمر ضغثاً علي إبالة بقراره الرئاسي رقم 13067 و القاضي بوقف الصادرات الي، والواردات من، السودان مع تجميد الأرصدة السودانية في الولايات المتحدة و انهاء التعاملات المالية مع السودان. غير ان المكتب في وزارة الخزانة الأمريكية و المخول له السيطرة علي الأصول الأجنبية في الولايات المتحدة "اوفاك" في تنفيذه لقرار كلينتون المذكور، قد فتح كوة للضوء بإصداره قراراً باستثناء الصمغ العربي من الحظر علي الاستيراد من السودان، علي ان تقدم الشركات الأمريكية لرخصةٍ لذات الغرض. وفي ابريل من عام 1999، أعلن الرئيس كلينتون عن رفع الحظر علي الصادرات الأمريكية عن معظم المنتوجات الزراعية الأمريكية و الدواء و المعدات الطبية المصدرة الي ايران وليبيا والسودان. مما يجدر ذكره هنا ان بعض محللي السياسات في الولايات المتحدة قد أفادوا بان مبعث هذا القرار كان قد انطوي علي تداعيات أزمة قطاع الزراعة في الولايات المتحدة و تحرك الكونغرس نحو تقييم جدوي العقوبات، علاوةً علي الخوف من التأثير السلبي للعقوبات علي الوضع الانساني في السودان. أي ان الأمر برمته لم يكن عطفاً علي السودان بقدر ما هو عوامل داخلية تخص التفاعل السياسي في الولايات المتحدة. ومن الإجراءات التي لم تكن من ضمن العقوبات ولكن ساعدت في تعقيدها قرار الكونغرس في أكتوبر 1998 والموسوم بقرار الحرية الدينية، والذي خَوَّل للرئيس الامريكي إصدار ما يراه مناسباً من قرارات لمراقبة حالة الحرية الدينية، إضافةً لتكليف الخارجية الأمريكية بإصدار تقرير سنوي عن هذه الرقابة.
في أغسطس من العام 1998 و بُعَيْد الانفجارات التي دكت سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي و دارللسلام، هاجمت الولايات المتحدة أهدافاً في أفغانستان والسودان مما ادي لتحطيم مصنع الشفاء للأدوية باعثاً لمزيد من الضغط الدبلوماسي علي السودان، بوضعه في خط المواجهة مع الولايات المتحدة. و علي الرغم من حالة الخوف من مواجهات عسكرية محتملة، إلا ان الأوساط الاستخبارية في الولايات المتحدة ادركت أنه ربما كان قرار الهجوم الصاروخي علي السودان قد اعتمد علي معلومات شابها الشك، و ربما كانت تعوزها الدقة. غير ان الولايات المتحدة واصلت في ضغطها علي السودان و ما تصريحات وزير الخارجية مادلين أولبرايت في كمبالا في العام 1997، وزياره مسئولة افريقيا في الخارجيه الامريكيه سوزان رايس في خريف عام 2000 الي جنوب السودان دون إذنٍ من الخرطوم، الا جزءً من ذلك التصعيد. ظلت العلاقات الأمريكية السودانية في توتر و ترقُبٍ قَلِق في ما بقي من ولاية كلينتون ولمدة قصيرة في عهد خليفته جورج بوش الابن. فبعد استقراره في البيت الأبيض، اعلن جورج بوش نيته في أن "يستمر في القول والعمل طالما استمر القهر وانتهاك الحقوق في السودان". في إشارةٍ واضحة لنظام الخرطوم بعدم صمت الولايات المتحدة علي تجاوزاته. إلا ان أحداث سبتمير 2001 قد غيره من سياسات بوش والذي فضل أن يستفيد من ضعف نظام الخرطوم في حربه علي الإرهاب بقبول عرض الخرطوم بالانضمام لركب الدول التي انضمت لقائمة طويلة لمد أمريكا بمعلومات استخبارية لشبكات الإسلام السياسي وأذرعها المتشابكة حول العالم. فعلي عكس ما تشيع الخرطوم داخلياً من كرهها لأميركا "التي دنا عذابها" الا أنها ليست بدعاً في ممارسة عادة الديكتاتوريات السرية بالانبطاح للدول الكبري في حين أن آلتها الإعلامية تضلل الشعب بالشعارات الزائفة و البطولات المٌدَّعاة. فقد ذكرت تقارير عديدة في واشنطن ان الرئيس بوش قد كان علي أهبة الاستعداد لمواجهة الخرطوم عسكرياً، ضارباً عرض الحائط بتوصيات جنرالاته الذين كانوا علي النقيض. وبدلاً عن ذلك، قرر بوش البناء علي نجاحات القس و السيناتور السابق جون دانفورث المحدودة في وقف الحرب و توصيل المعونات الإنسانية لجبال النوبة و توسيع دائرة السلام لتشمل جنوب السودان مستفيداً من ضغط العقوبات علي نظام الخرطوم. فقد أثمرت تلك الجهود التوقيع علي بروتوكولات مشاكوس و التي عبّدت الطريق للوصول الي اتفاقية السلام الشامل تمهيداً لفصل جنوب السودان فيما بعد. وقد قيل وقتها أنه لولا العقوبات التي تراكمت علي السودان، و ربما التصعيد الذي كان سيقود الي المواجهة، إضافة للوضع العالمي بعد أحداث سبتمبر، لما أصبح التحول في موقف نظام الخرطوم ممكناً، مما يدل علي ان سلاح العقوبات، رغم بطء تاثيره، لا مناص منه للتعاطي مع نظام كنظام الخرطوم الذي لا يعرف التعامل مع العالم بسياسات واضحة المعالم و لكنه يستجيب للضغوط.
في أكتوبر من العام 2002، وقَّع الرئيس جورج بوش علي قانون سلام السودان و الذي كان قد أجازه الكونغرس الامريكي، والذي قضي بان تقوم الإدارة الأمريكية بتقديم تقرير شبه سنوي للكونغرس عمَّا اذا كان كلاًّ من حكومة الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان يواصلان مفاوضات السلام ب"نوايا حسنة"، وتطالب بتوقيع عقوباتٍ اذا رأي الرئيس بوش ان الأمر ليس كذلك. ومن ضمن خيارات العقوبات المقترحة ان يأمر الرئيس المدراءَ التنفيذيين الامريكان للمؤسسات المالية العالمية ـ كالبنك الدولي ـ ان يصوتوا ضد رغبة السودان في الحصول علي القروض و الهبات والضمانات من هذه المؤسسات. كما ان من حزمة الخيارات هذه؛ حرمانُ السودان من تحويل عائدات النفط، و خفض التمثيل الدبلوماسي، علاوةً علي السعي الحثيث لاستصدار قراراتٍ من مجلس الأمن الدولي لحظر مبيعاتِ السلاحِ للسودان. ويُرجِّحُ مراقبون في واشنطن أنه لولا قانون سلام السودان و تهديده بروافع من ضمنها الحرمان من مداخيل النفط و احتمالات فرض الحظر علي بيع السلاح للسودان، لما أمكن الوصول لاتفاقية السلام الشامل، و لربما تواصل النزاع الدَّامي في السودان الي مدىً أطول، وبتكلفةٍ أنسانيةِ باهظة. في أكتوبر من العام 2006، وقَّع الرئيس بوش علي قانون سلام دارفور والذي طالب فيه الكونغرس الرئيس بالحجر علي ممتلكات ورفض المعاملات مع أفراد و مؤسسات لها علاقة بحكومة السودان. وقد اصدر الرئيس بوش القرار الرئاسي رقم 13412 لتنفيذ قرار الحظر علي الأصول الثابتة و علي السيولة ان وجدت، تنفيذاً لقرار التشريع المذكور. كما نص القانون علي استثناء مناطق من جنوب السودان من هذا الحظر، شريطةَ الاّ تكون ذات صلة بحكومة السودان. وقد شهد عهد الرئيس جورج بوش توقيع اتفاقية السلام الشامل لإنهاء الحرب في جنوب السودان، وإعلان الولايات المتحدة بان ما يجري في دارفور هو إبادةٌ جماعية، اضافةً الي إدانة الرئيس البشير بارتكاب جرائم الحرب و الإبادة وجرائم ضد الإنسانية لدى المحكمة الجنائية الدولية. وقد لعبت الولايات المتحدة دوراً محورياً في تحويل القضية للمحكمة الدولية بواسطة مجلس الأمن حين امتنعت عن استعمال حق النقض حتي يمر القرار و الذي لم تصوت فيه الولايات المتحدة سلباً أو ايجابا. وبنهاية عهد بوش وقدوم الرئيس باراك اوباما الي البيت الأبيض، أعلنت الولايات المتحد عن سياسات جديدة تجاه السودان. ففي أكتوبر من العام 2009، اعلن اوباما عن حزمة سياسات جديدة تخص السودان من بينها تفاصيل عن كيف يمكن ان تُرفَع العقوبات عن السودان، بما فيها رفعه من قائمة الدول الراعية للإرهاب. و من ضمن ما ورد في سياق هذه التفاصيل: اولاً؛ التطبيق الكامل لبنود اتفاقية السلام الشامل مع الحركة الشعبية لتحرير السودان. ثانياً؛ إنهاء الصراع المسلح في دارفور، و ثالثاً؛ التأكيد علي ان السودان سيعمل علي الاَّ يجعل من اراضيه مهارب آمنة و وَكْرَاً للجماعات الإرهابية. ولكن كما سنري لاحقاً، استنفذ السودان كل الفرص التي لاحت له لرفع العقوبات، و سَدَرَ في غَيِّه المعهود الي أن أتاه اليقين.