بروفيسور عبد الرحمن الزاكي صالح: صديق الشهيد القرشي يفتح قلبه لـ دبنقا

القرشي سافر معي إلى ام كدادة باللواري في شتاء عام ١٩٦٢ وقضينا اجازة ممتعة وشارك معنا في فصول التقوية للأساتذة بمدرسة …

اجري الحوار : محمد صالح عبدالله يسين  

 

القرشي سافر معي إلى ام كدادة باللواري في شتاء عام ١٩٦٢ وقضينا اجازة ممتعة وشارك معنا في فصول التقوية للأساتذة بمدرسة أم كدادة الذين كانوا يرغبون في الجلوس لامتحان الشهادة في ذلك العام اذكر من بين المعلمين رجل الاقتصاد  سليمان الشريف محمد الحسين والبروفيسور أحمد الطيب زين العابدين والمحامي عبد الحميد أحمد أمين والدكتور محمد احمد  بدين وكان أن تولي الشهيد القرشي تدريس مادة الرياضيات ومراجعتها مع اولئك الاخوة بينما كان الأخ الصحفي والإذاعي صالح ابوبكر يقوم بمراجعة اللغة الانجليزية والعربية والتي كان مميزا فيها بهذه التقدمة استهل البروفسيور عبد الرحمن الزاكي اخصائي المخ والاعصاب في مقابلة مع راديو دبنقا عبر برنامج  ملفات  سودانية يذاع لاحقا 
يقول البروف  انه تعرف علي الطالب أحمد القرشي طه بمدرسة الفاشر الثانوية التي كانت مؤسسة قومية جمعت الطلاب من مختلف أنحاء السودان وجاء إليها القرشي من مدرسة سنار الثانوية التي افتتحت في الفاشر الثانوية شأنها شأن معظم المدارس التي أنشئت في تلك  الفترة والحديث للبروف قال انه التقى بالقرشي في داخلية دينار وتوطدت علاقتهم بعد ذلك واصفا  احمد القرشي أنه كان واسع الاطلاع  محبا للقراءة وهو من أميز الطلاب أكاديميا وقد دخل جامعة الخرطوم  بنسبةgreat one  وتم قبوله  بكلية العلوم قسم الرياضيات ونفي البروف المزاعم التي تقول ان القرشي  كان بكلية الآداب والاقتصاد وقال ان القرشي كان هادي الطبع اجتماعي من الدرجة الأولى وكثيرا ما كنا نقضي الأوقات معا في الجمعيات الأدبية او في المسرح الذي يتزعمه الاستاذ مكي سنادة والذي كان قد سبقنا الي الفاشر الثانوية بعام واحد
وعن كسوبات الشهيد القرشي المعرفية والثقافية يقول البروف ان القرشي كان من الطلاب المميزين بين اقرانه عرف  بحواراته الهادفة ورؤيته الثاقبة كان مستمعا جيدا لاحاديث الآخرين وديمقراطي لابعد الحدود كان يشكل حضورا دائما  في الندوات وأركان النقاش وكثيرا ما يعطي الفرصة الأولى بعد الندوات ليبتدر النقاش والحوار وكان يهاجم حكومة الفريق عبود بشجاعة وقوة وقد قاد أول مظاهرة بالفاشر ضد حكومة عبود في السادس عشر من العام ١٩٦٣ التي انطلقت من ميدان النقعة بحجر قدوالمعروف وسط مدينة الفاشر  وقد خاطبها القرشي وتم اعتقاله ونقله الى سجن  شالا ولم يطلق سراحه إلا بعد ثلاثة أيام ثم أفرج عنهم وتمت معاقبتهم بالجلد في المدرسة 
يقول البروفيسور عبد الرحمن ان العلاقة بينه والقرشي توطدت خاصة بعض المظاهرات التي لمع فيها نجم القرشي وكانوا ينزلون الي المدينة في نهاية الاسبوع ويقضون اوقاتا جميلة بسوق الفاشر واحيان عند مرورهم بسينما الفاشر الوطنية يراجعون لوحة الاعلانات التي تعرض فيها الافلام الجديدة وغالبا مايحجزون تذاكرهم منذ نهاية الاسبوع ليتمكنوا من دخولها في الاسبوع الذي يليه وعن زيارة القرشي الي امكدادة قال البروف انه هو الذي اقترح للقرشي الذهاب معه ولان الاجازة قصيرة واهله بعيدين من الفاشر فاقترحت عليه قضاء الاجازة معنا ووافق علي الدعوة وصرفت لنا تراحيلنا واول يوم للاجازة حملنا امتعنا وتحركنا الي موقف العربات وتحركنا  من مدينة الفاشر قاصدين ام كدادة في شتاء ١٩٦٢ في شهر ديسمبر مستقلين سيارة ماركة فورد تحركت بنا من ميدان حجر قدو بالفاشر في حوالي الساعة الرابعة مساء ومعي الشهيد القرشي والأستاذ صالح أبو بكر والدكتور أحمد التجاني ركبنا الثلاثة علي ظهر اللوري وأرجلنا خارج الصندوق وظللنا نتجاذب أطراف الحديث ونتسامر واحيانا نلتزم الصمت لنستمع الى صوت اللوري الذي يعلو وينخفض في رمال الطريق الوعرة فقد كان المجري غريقا واحيانا تلامس ارجلنا الرمال ونحن على سطح السيارة ولكم ان تتخيلوا هذا المشهد واحيانا ننزل من السيارة لتنظيف الطريق من الرملة ونتعاون مع المساعدين في قطع فروع الأشجار و نفرشها تحت عجلات السيارة تساعده في الخروج من الوحل وكثيرا ما تخرج السيارة وتبتعد عنا بحيث ان السائق ينتظرنا في مكان بعيد بعد خروجه من الوحل ونصل إليه بارجلنا ونركب ثم نواصل المسير وكنا فرحين بهذه المعاناة خاصة عندما تأخذك شوكة او يلتصق بجسمك شوك الحسكنيت الذي كان يوجد بكثافة في تلك الأيام 
الآن بدأت الشمس تغرب رويدا رويدا والظلام تمتص ضوء المكان وبدأت تظهر نيران بعيدة ومتقطعة تخبو وتظهر علي جنبات الطريق وهي مضارب للرعاة الذين يتجولون بحيواناتهم أو ربما هي نيران القرى التي تسكن علي جنبات الطريق يقول البروف  لم يكن لدينا أي زاد فالطريق لم يكن طويلا يحتاج إلى زاد علاوة علي أنه عامر ومزدحم بالمقاهي التي يتوفر فيها الزاد والمشرب 
وصلنا الى محطة الكومة وهي من المحطات الكبيرة والعامرة وتقع في منتصف الطريق بين الفاشر وأداة وهي ملتقى كبيرا ومعبرا السيارات واللواري التجارية
نزلنا نحن الثلاثة وتسابقنا الي العناقريب التي ننام عليها وتناولنا العشاء ثم رحنا في نوم عميق لم يفق منه إلا بعد سماعنا بوري السيارة الذي أيقظنا ويتأهب لمواصلة الرحلة والمسير استغرقت المسافة ربما ثلاثة ساعات ووصلنا ام كدادة وكان دكان الوالد قريب من موقف السيارات وحملنا أمتعتنا وذهبنا للدكان واستقبلنا الوالد وعرفته بالشهيد القرشي ثم تحركنا الي المنزل الذي كان قريبا واستقبلتنا الوالدة ومعها شقيقي كمال وتناولنا الحمام وجلسنا للفطور ثم رحنا في نوم عميق 
كانت أم كدادة في تلك الأيام مزدهرة وعامرة ومعظم أهالي المدينة يتوجهون إلى ناديه العامر حيث كان ملتقى للمثقفين من معلمين وموظفين اصطحبت القرشي الي النادي وعرفته بعدد من الشخصيات والقيادات وكنا نتطوع في تلك الفترة بالدروس الخاصة لبعض الاخوة المعلمين الذين يرغبون في الجلوس للامتحانات لدخول الجامعة واتذكر جيدا كيف ان الشهيد القرشي يدرس بعض الاخوة المعلمين مادتي الرياضيات والفيزياء التي يتفرد بها ومن ضمن المعلمين الاقتصادي المعروف فيما بعد سليمان الشريف محمد الحسين
كانت أمسياتنا مليئة بالزيارات وأم كدادة لها جبال ساحرة وبها رمال اخاذه كنا نقضي فيها انا والقرشي معظم أمسياتنا وحتى المغيب يدركنا في جبالها ثم نتجه مباشرة بعد ذلك للنادي
الان انتهت الإجازة وعدنا الي الفاشر واستعدينا للامتحانات النهائية امتحانات الشهادة السودانية انتهينا منها وسافر القرشي الي الخرطوم وكان ذلك الوداع الاخير حيث انه تم قبوله بجامعة الخرطوم وانا لم يحالفني الحظ للدخول في تلك السنة ولكن ظللنا علي تواصل حيث اني امتحنت للمرة الثانية وتم قبولي بجامعة الخرطوم والتقيت به وهو في الفصل الثاني وانا بالفصل الأول واستمرت علاقتنا في التطور وكنا نحضر الندوات وأركان النقاش فقد كانت معظم أنشطة الاتحاد وندواته منصبة حول قضية الجنوب التي استخدمت فيها الحكومة العنف والقتل 
ويتابع البروفيسور عبدالرحمن الزاكي حديثه لراديو دبنقا ان الشهيد القرشي كان من أكثر الطلاب تحدثوا عن قضية الجنوب في الندوات والمنابر وحول ملابسات استشهاد القرشي أوضح الزاكي ان الشهيد قبل استشهاده بأسبوع اخبره بأنه مسافر إلى قرية القراصة لمعاودة والدي الذي يشتكي من بعض الآلام وبالفعل سافر إلى القراصة وعاد يوم الاحد ليلا والأوضاع كانت متأزمة حيث خرجت المظاهرات اندلعت في الخرطوم واستمرت الي يوم الثلاثاء حتى أعلن الاتحاد ندوته المشهورة في مساء يوم الأربعاء 21 أكتوبر / تشرين الأول 1964 م، أقام طلاب جامعة الخرطوم ندوة في مجمع داخليات البركس (ثكنات الجيش البريطاني سابقا )، بالحرم الجامعي حول مشكلة جنوب السودان التي كانت قد تفاقمت آنذاك بسبب سياسة القوة التي تبنتها حكومة الرئيس إبراهيم عبود العسكرية للقضاء على التمرد في الجنوب. توافد الطلاب من داخلياتهم المختلفة إلى مكان إنعقاد الندوة في الساحة الواقعة بين داخليتي "القاش" و"كسلا
رفضت الحكومة عقد الندوة وقامت قوة من الشرطة بمحاصرة الحرم الجامعي ثم أمر أحد الضباط بفض الندوة ، لكن الطلاب أصروا على الاستمرار في عقد الندوة وواصلوا اجتماعهم غير عابئين بأمر الضابط، ومن ثم بدأت الشرطة في استخدام القوة لفضّ الإجتماع وألقت القنابل المسيلة للدموع.
وحدث صدام عنيف بين الشرطة والطلبة الذين بدأوا في التراجع نحو مباني داخليته وانهالوا على الشرطة بالحجارة وقطع الأثاث الصغيرة، وكان القرشي ضمن مجموعة الطلبة التي كانت متواجدة بداخلية "السوباط". القريبة من البوابة الرئيسية لمجمع داخليات ( المعروفة لدى الطلاب باسم البركس).
ووفقاً لرواية الدكتور عبدالرحمن كان هناك تجمع لرجال الشرطة على بعد 60 قدماً تقريباُ من مجمع البركس وقد اختبأ عدد من الطلاب وراء الممر الذي يربط مبنى داخلية السوباط بمبنى الحمامات التابعة لها وحدث كر وفر بيننا ورجال الشرطة وكنت اتحدث مع القرشي الذي كان يهتف بأعلى صوته ولم تمر لحظات حتى فتحت الشرطة النار وانسحاب الطلاب الي الداخليات بصعوبة بالغة حيث كان الميدان مغرقا بالماء والوحل كان الشهيد بين الحمامات والداخليات يراقب تحركات الشرطة 
وحينئذ سٌمع دوي طلق ناري سقط على إثره القرشي على الأرض وقد اخترقت طلقة رأسه قرب حاجبه الأيمن وخرجت من مؤخرة جمجمته.حملناه إلى الممر ثم إلى غرفة في مبنى الداخلية. وكان ينزف من مؤخرة جمجمته وسال دم من فمه ثم حول إلى المستشفى وتوفي في الطريق  .توفي القرشي وسجي جثمانه بمشرحة مستشفى الخرطوم وتجمهر الطلاب وغيرهم من المواطنين وأرادوا نقل الجثمان إلى الجامعة ، إلا أن الشرطة منعتهم من ذلك ، وتدخل رئيس الجامعة آنذاك بروفيسور النذير دفع الله (وزير تربية لاحقاً) لدى السلطات وتمكن من تسلم الجثمان مع مجموعة من أساتذة الجامعة والأطباء وغيرهم وحملوه في موكب مر شارع الاسبتالية أمام المستشفى حتى كوبري الحرية وتوجهوا به إلى ساحة ميدان عبد المنعم بالخرطوم جنوب حيث تمت الصلاة عليه بحضور شخصيات سياسية معارضة لنظام عبود آنذاك من بينها الصادق المهدي زعيم حزب الأمة المنحل آنذاك و الذي أم المصلين، والدكتور حسن الترابي عميد كلية القانون بجامعة الخرطوم حينئذ، وعبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي ومجموعة من المحامين والقضاة والطلاب وغيرهم من المواطنين.  دفن رفات القرشي في مقبرة قريته القراصة  
أعلنت السلطات اغلاق الجامعة وكنت مذهولا ومرتعا من الذي حدث لم اكن استوعب استشهاد القرشي وكان يدور في عقلي المشاهد والمناظر التي عشناها سويا في الفاشر والخرطوم كنت اتصور موقف أسرته وكيف كان القرشي ذهب لوداع والده الذي كان مريضا ما مصير أسرته الصغيرة وماذا يخبئ لهم المستقبل والايام كل هذه الخواطر تزاحمت في عقلي وأنا في القطار المتجه الي مدينة الابيض التي وصلناها عصرا ووجدنا المظاهرات والمسيرات قد انطلقت فيها تندد بحكم العسكر وعصابة نوفمبر
يقول البروف انه وصل الى امكداه ووجد والده الحاج الزاكي صالح وبقية الأسرة كانوا جميعا قلقين عليه خاصة وقد علمت باستشهاد القرشي وانقطعت اخباره عنهم وعندما استقبلوني عزوني في الأخ الشهيد القرشي وبكوا بكاء مرا علي فراقه  .وفي معرض رده عن توجهات القرشي السياسية قال البروفيسور عبد الرحمن ان  القرشي كان شيوعيا ملتزما منذ الثانوي وكان معروفا بتوجهاته الديمقراطية واكد ان هناك جهات سعت لتسويق القرشي بأنه مستقل ليس له أي انتماء بغية طمس مساهمات اليسار السوداني في ثورة أكتوبر وقال الزاكي في خاتمة حديثه انه ما كان يدري ان صديقه أحمد القرشي طه سيتحول إلى أيقونة للنضال الوطني ورمزا من رموز النضال الإفريقي ويخلد اسمه مثل لومومبا وكينياتا ومانديلا وبن بيلا ويصطف خلودا مع الآباء المؤسسين لنضالات افريقيا واسيا واوربا فقد خلده شعراء السودان ووضعت صورته في الطوابع البريدية والاواني المنزلية وقال ان  الشعب السوداني مازال قادر ويستطيع أن ينجز ثورة أخرى مثل أكتوبر ومثلة

 

Welcome

Install
×