عبدالرحمن حسين دوسة: إحداث دارفور: وقفة مع الذات ..

أنطلق من تجربة شخصية عايشتها فى عام 2009، إذ ألتقيت مصادفة مولانا ( توفيق عبدالمجيد) والمشهور بتوفيق لورد …

بقلم: عبدالرحمن حسين دوسة/ مستشار قانونى

أنطلق من تجربة شخصية عايشتها فى عام 2009، إذ ألتقيت مصادفة مولانا ( توفيق عبدالمجيد) والمشهور بتوفيق لورد والذى يعد من أميز أعلام القانون بالسودان علماً وعدالة وأدباَ.
بعد التحية والمجاملة سألنى عن أحوال دارفور الملتهبة وقتئذ، حيث سبق له العمل فيه قاضياَ للمديرية إبان حقبة الستينات من القرن الماضى وتمكن من خلق علاقات مجتمعية واسعة مع مختلف مكونات دارفور وكان شديد الإعتداد والإعجاب يالإرث القانونى المحلى لأهلنا Native/Customary Law وتطبيقاته العرفية أمام المحاكم الأهلية Tribal Courts

إسترسل – على غير عادته – ثم إختتم حديثه قائلاَ, قضيتكم عادلة ومطالبكم مشروعة ولكنكم ضيقتم أمراَ كان من الممكن أن يكون أوسع وأشمل مما كان، وأضاف بأنجليزيته الرصينة:
“Where the law is special: and the reason for it is general. It ought to be taken as general”

إلتقطت الرسالة، إذ أن مولانا توفيق عندما يتكلم يعنى تماما ما يقول، فشرعت منذئذ فى تأمل أحداث دارفور من أفق مغاير ومنظور مختلف وقررت أن أختط نهجاَ يرتكز على تجاوز حالتى الإدانة والرفض المطلق للأحداث كما هى عند الإنقاذ وأهله، وحالة القداسة المطلقة كما فى نظر الحركات وأنصارها، أى تجاوز كل ذلك الى محاولة عقلنة الأمور وبيان مواطن الصواب ومواقع الخطأ فى تجربتنا ومن ثم الإستعداد لقبول ما هو صحيح ورد ما هو خطأ إن كان المنطق ينفيه فالعيب ليس فى تعثرنا ولكن فى عدم القدرة على النهوض بعد التعثر وقديما قال الإمام الشافعى وفى رواية أخرى عبدالله بن معاوية:
فعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدى المساويا

يلزم الإشارة الى هذا النهج شائع ومألوف بإعتباره ممارسة منطقية تهدف الى مراجعة النفس وإعادة إكتشاف الذات وتقويم المسار وهو مفهوم يختلف بطبيعة الحال عن مفهوم النقض الذى يستلزم الهدم بينما نحن هنا ننشد البناء والدعوة لعصف فكرى من خلال قراءة متجددة لتجربتنا وما أفرزتها من نتائج كارثية نجتر علقمها صباحا ومساء.

وإذ أتمنى من الأعماق أن تكون هذه الأحداث بكل مآسيها وأهوالها فصلاَ كئيباَ من التاريخ المقيت فى الذاكرة السودانية، أقول بكل صدق وألم أنه لو أستقبلت من أمرى ما أستدبرت لأعترفت علناَ بثلاث أخطاء قاتلة صاحبت تجربتنا تتمثل فى
أولاَ: لم تكن وسيلة التعبير عن القضية هى الأمثل والأنسب

ثاتياَ: عدم التوفيق فى إنتاج خطاب عقلانى ومتوازن 
ثالثاَ:االفشل فى إدراك أهمية وحدة النسيج الداخلى ودوره الحاسم فى النصر

(1)

فلنبدأ بالخطأ الأول لنقرر أن الإعتقاد السائد عند بداية الأحداث – لا فى دارفور فقط وإنما لدى أوساط المعارضة السودانية بمختلف أطيافها – أن الحديد لا يفله إلا الحديد وأن نظام الإنقاذ لا يمكن إقتلاعه أو تغييره إلا بالعنف، فقد آتى ليلاً على ظهر دبابة ولا يذهب إلا عبر فوهة البندقية، تماما كما قال الزعيم الصينى ماو تسى تونغ "من فوهة البندقية تنبع السلطة السياسية وعبرها تسقط هذه السلطة".
هنا فإن ما يجب الإشارة إليه هو أن النظام نفسه كان مزهواَ بدبابيه ومجاهديه ودائما ما يدعو معارضيه وخصومه لمنازلته عسكرياَ، إذ فى ظل مناخ العنف والعنف المضاد يستطيع تمرير وتمكين مشروعه الحضارى وتقسيم الوطن والشعب ثم أن منهج العنف يتسق مع أيدولوجيته الأصوليه والسلوك التربوى لكوادره الذين يرون بأن "الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" فكانوا يتعمدون إنتاج العنف ويدفعون خصومهم دفعاَ لممارسة العنف منذ أن كنا طلاباَ فى الجامعات.

الشاهد، أن النظام أوقعنا فى الفخ الذى رسمه بعناية وأختار لنا السلاح الذى به ننازله وهو سلاح تشير كل المعطيات أن إستخدامه يخدم المشروع التقسيمى والتدميرى للنظام فهناك بعض الدوائر داخل النظام تود التخلص من دارفور وبعضهم يودون تدمير الأخضر واليابس والشجر والحجر والإنسان ، إلا أننا لم نفطن لذلك فإلتقطنا سيف معاوية لنحارب به معاوية ولكن فوق أرضنا 
خطأ هذه الإستراتيجية – الكفاح المسلح – تؤكده دراسة صادرة حديثاَ من جامعة كولمبيا للكاتبين إريكا شينولث وماريا إستيفن حيث أوردا إحصائية بعدد ونسب نجاح وفشل الثورات العنيفة من جهة والثورات السلمية من جهة أخرى خلال الفترة من عام 1900 وحتى عام 2006 تناولا فيها 323 ثورة أو حركة مقاومة وكانت النتيجة 70% نسبة نجاح للثورات السلمية مقابل 30% للثورات المسلحة، السبب الرئيسى – حسب الدراسة – يعود الى أن الخيارات التكتيكية والإستراتيجية المتاحة أمام اللاعنف أكثر وأوسع من تلك الموجودة فى الثورات المسلحة كما أن المزاج السياسى العام لشعوب العالم وطبيعة الفكر السياسى والقانونى بعد الحرب الباردة وإنهيار الكتلة الإشتراكية قد تغير ولم يعد يستلطف العنف كما كنا نتغنى بتروتسكى وجيفارا ولوممبا وكاسترو 
إذن ما لم ندركه وقتئذ، أن العنف والصراع المسلح نادراَ – ولا اقول يستحيل – إسقاط الأنظمة خاصة الإستبدادية والعسكرية منها بقدر ما يمنحها عمراَ أضافيا ومبرراَ للإستقطاب والقتال والكنكشة، إما النضال السلمى فيعتمد على تعطيل إداة القوة الغاشمة للنظام وتحييد سلاحه وإبطال مفاعيله بالقوة الناعمة عبر إستدراجه الى خيار أو مأزق القتل المباشر للعزل والمدنيين كما حدث فى سبتمبر 2014 وهو مأزق لا يستطيع النظام الإستمرار فيه طويلاَ والنتيجة المؤكدة سقوطه بخسائر أقل من خسائر الكفاح المسلح.

فضلاَ عن ذلك فإن للشعب السودانى إرث تليد وتقاليد راسخة بل وتجارب ناجحة فى النضال السلمى إبرزها تجاربنا فى الإستقلال وأكتوبر وأبريل، إما تجربتنا اليتيمة فى الكفاح المسلح فقد نتجت عنها كارثة الإنفصال وخسارة ثلث الوطن رغم ذلك لم يسقط النظام.

فى تقديرى الشخصى، أن العنف أو النضال المسلح يدمر الوطن ويقسم المجتمع ويجلب المآسى وغالباَ ما يبقى ذات السلطة الدكتاتورية قائمة وحتى إن سقطت فإن فرص إستمرار العنف بوتيرة أكبر وبشكل أعنف أكثر من فرص الإستقرار والحرية والديمقراطية وأمامنا تجارب ليبيا واليمن والصومال وأفغانستان.

(2)

لحظة خروجه من سجن بولسمور فى 12/2/1990 قال الزعيم نلسون مانديلا "أدركت أنه إن لم أترك العنصرية والكراهية خلفى فسأظل سجيناَ"، هذا ما قاله قائد ولد من رحم أبشع عنصرية فى تاريخ الإنسانية، أما الرئيس الهندى الأسود أبوبكر أبوكلام والذى ينحدر من طبقة إجتماعية وضيعة فقد قال "كلما إرتقيت فى أفق الثقافة كلما تحررت من العنصرية، المثقف لا يتعنصر أبداَ والجاهل لا يتحرر منه أبداَ".
واقع الحال، وطوال مسيرة الأحداث – وربما منذ مجئ الإنقاذ – لم أكن مسروراَ ولا راضياَ عن خطابنا السياسى وإن كنت أتفهم دوافعه. أدرك أن العنصرية والتمييز، دينياً أو ثقافياَ أو عرقياَ هى بضاعة الإنقاذ، وهى نتيجة حتمية للإنحطاط الثقافى والفكرى العام الذى كرسه فكر الكيزان علماَ بأنه فكر يتغذى بالجهل ويعيش فى الظلام ويموت عند الضوء. المواطنة فى نظرهم “رباط فاسد” حيث إستبدلوها “بأخوكم فى الله” فكان الله أكبر وساحات الفداء وصيف العبور والميل أربعين وعلى عبدالفتاح وعبيد ختم وقسموا الشعب السودانى الى طيبين وطيبات وخبيثين وخبيثات وبعد إبتلاء المفاصلة رفعوا شعار القبيلة والجهوية، جلابة وغرابة ، زرقة وعرب، أولاد بلد وأولاد ريف وهى تقسيمات لا علاقة للشعب السودانى بها ولاتعنيه من قريب أو بعيد.

رغم ذلك فلقد كان خطابنا أيضا مليئاَ بعنصرية فجة وكان من المتعين علينا أن نكون أكثر حصافة من النظام عبر توحيد خطابنا مع السواد الأعظم ممن نسميه الجلابة والذين هم إيضاَ ضحايا النظام وربما بعضهم تعرض لظلم مماثل أو أكبر مما تعرض له بعضنا. لقد أوقعنا النظام فى فخه للمرة الثانية فركبنا صهوة الخطاب الذى أنتجه النظام بحثاَ عن الشرعية
للأسف خطابنا السياسى لم يقدم تفسيراَ منطقياَ أوعقلانياَ لأزمتنا الوطنية، ثم انه خطاب خطير يرتد لصاحبه عاجلاَ أم آجلاَ (وقد أرتد) إضافة الى أنه خطاب خدم النظام أكثر مما خدمنا لذا ما زال النظام يوظفه لخدمة مصالحه.

رغم المرارات الكامنة فى الصدور وهول المآسى، كان بالإمكان جعل خطابنا أكثر قومية ووطنية وتوازناَ وعقلانية، ونكف عن مجاراة النظام الذى لا يخسر شيئاً من تبنى هذا الخطاب بينما لم نستفد نحن منه شيئاَ، وهنا أستحضر قاعدة قانونية إنجليزية مفادها:
“There is no benefit in expressing what will benefit when unexpressed”

(3)

لعل أمر وحدة وتماسك نسيجنا الإجتماعى الداخلى هو أضعف الحلقات فى مسيرة الأحداث إذ لم تكن لدينا إستراتيجية واضحة فى هذا الشأن بل كان سلوكنا أقرب الى الأنانية القبلية والعشائرية. لم نستفد من تجربة بولاد فى بداية التسعينات حيث كان السبب الرئيسى فى إخمادها سريعاَ، هو إستغلال النظام للتناقضات الداخلية بين مكونات دارفور.

الذى أفهمه أن العمل السياسى خاصة عند العزم على تطويره عسكرياَ، يتطلب العمل الدؤوب والطويل فى أوساط القواعد لإعدادهم نفسياَ وفكرياَ وتوحيد الرؤية عن طريق إمتصاص وتحييد التناقضات الأفقية، وهو أمر يضحى أكثر إلحاحاَ فى مجتمع كمجتمع دارفور حيث تسوده الأمية وتستشرى فيه القبلية على نحو صارخ.

أذكر أن أول جهة دولية أشارت لهذه الثغرة هى منظمة سويسرية تعنى بمسح الأسلحة الصغيرة، أذ إجرت بحثاً مطولاَ وأصدرت فى 2007 دراسة بعنوان "تنازعوا ففشلوا فذهبت ريحهم، إنفراط عقد جماعات المتمردين فى دارفور" وجاء فى الدراسة ما يلى:

"إذا كان المجتمع الدولى جاداَ بشأن إحلال السلام فى دارفور، فيجب أن يتخلى عن تركيزه الحصرى على بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام، وهى مجرد ذريعة لصرف الأنظار، وبدلاَ من ذلك تجعل الجهود طويلة الأمد ضرورية لمساعدة متمردى دارفور المنقسمين يتحركون صوب رؤية سياسية واحدة وتنظيمات سياسية مشتركة وعندما يحقق المتمردون نوعاَ من الوحدة السياسية يمكن الحديث عن السلام والإستقرار"
وفى مسعى لتأكيد أهمية الوحدة ودورها الحاسم أشارت الى أن كل قبيلة أو عشيرة أو حركة تزعم بأنها الأكبر والأقوى ولا غضاضة فى ذلك طالما لا نستطيع تغير قناعاتهم ولكن عليهم أن يدركوا أن اىّ واحدة منهم أقل من الجميع ثم أردفتة قاعدة قانونية أنجليزية قديمة تقول:
“The king is greater than any single person, less than all”

فى بداية الأحداث خسرنا المكون العربى نتيجة أخطاء ذاتية، إستفاد منها طرفان، الحكومة التى رعت مصالح تلك المجموعة ووظفتهم لمحاربة أهلهم، ثم الحركة الشعبية التى إستغلتنا لتحقيق مكاسب فى مفاوضاتها مع الحكومة حتى إذا ما أبرمت إتفاقية نيفاشا فكتنا عكس الهواء.

لم تكن التناقضات بين المكون العربى والأفريقى كبيرة أو عصية، فقط كان هناك سوء تفاهم يمكن إزالته سريعاَ بالحوار كما كان يحدث فى سالف الأزمان بين الرعاة والمزارعين. هذه ليست أول مرة نقاتل بعضنا البعض فقد خضنا عبر التاريخ عدة حروب دامية ولكننا سريعاَ ما نصل لتسويات أهلية يعود بعدها الود والوئام والتعايش.

لكن الجديد فى هذه المرة بروز أربع معطيات فى المشهد، أولاَ طبيعة النظام التى تختلف عن الأنظمة السابقة، ثانياً تدخلات الحركة الشعبية، ثالثاَ إنتهازية حزب أصولى معارض ورابعاَ محدودية أفقنا السياسى مع غياب الرؤية.

أخلص الى أن إى عمل معارض، عسكرياَ كان أم سلمياَ لا يقوم على الوحدة الداخليه مصيره الفشل، لكن الجانب المؤلم فى المشهد أن المجتمع الدارفورى اصبح أكثر إنقساماَ وتفككاَ وضعفاَ من ذى قبل والقول بأن النظام هو المسئول عن ذلك ما هو إلا تهرب خجول عن تحمل نصيبنا من المسئولية فقد كنا شركاء فيما حدث.

 

Welcome

Install
×