خالد التيجاني النور: مأزق الاقتصاد السياسي لـ (التمكين) : الجذور والحلول (الحلقة الأولى)

هوامش على دعوة رئيس الوزراء لـ (مدرسة اقتصادية جديدة) : مأزق الاقتصاد السياسي لـ (التمكين) : الجذور والحلول (الحلقة الأولى)…

هوامش على دعوة رئيس الوزراء لـ (مدرسة اقتصادية جديدة) : مأزق الاقتصاد السياسي لـ (التمكين) : الجذور والحلول (الحلقة الأولى)

خالد التيجاني النور

(1)

عبرة النتائج في أرض الواقع للأداء الاقتصادي المتواضع للدولة السودانية في عهد الحكم الحالي هي التي أوصلت السيد رئيس مجلس الوزراء القومي إلى التصريح أـمام المجلس الوطني الأسبوع الماضي بأن “الحالة واقفة”، وأن هناك حاجة ل”مدرسة اقتصادية جديدة” بعد فشل الوصفات المتتالية التي اتخذتها الحكومة على مدار السنوات الثلاثين الماضية للعبور بالاقتصاد الوطني إلى المكانة التي يستحقها بين الاقتصادات العالمية بحكم الموارد الضخمة التي يتمتع بها، في وقت نجحت العديد من الدول التي لا تملك من ذلك شيئاً لأن تزاحم في ريادة الاقتصادات الجديدة.

(2)

يستحق السيد بكري حسن صالح التهنئة على هذه الإفادة القيمة، ولعلها من بين مرات نادرة في العقود الثلاثة الماضية يستمع المواطنون إلى مسؤول رفيع يقول جملة مفيدة يمكن أن يكون لها ما بعدها إذا أخذت بحقها، فقد سئم سواد الناس تصريحات حكومية مستفزة تحاول عبثاً إقناعهم بأن اليوتوبيا التي تتقلب الطبقة الحاكمة في نعيمها هي شأن أهل السودان جميعاً في حين أن أقدار غمار الناس في هبوط ومسغبة وترذل أحوالهم في كل عام لأنه ليس هناك سلطة تستشعر مسؤولية معاناتهم المتفاقمة.

(3)

صحيح لم يكن حديث السيّد بكري اكتشافاً جديداً، فهو عين ما يكابده الناس شظفاً ويعايشون مرارته لسنوات عجاف، ولئن تحدث عنه بعض المسؤولين عنه أحياناً فهو حديث للاستهلاك السياسي بلا روح ولا جدية ولا عمل، ذلك أن الإجراءات الحكومية المتعاقبة التي تتخذ في كل مرة تحت مزاعم الإصلاح لا يدفع ثمنها سوى هؤلاء المكتوون بنارها، وتنجو الطبقة الحاكمة من غوائلها لأنها تعيش في أبراج عاجية خارج حزام معاناة العامة. وكنت أشرت في هذه الزاوية ذات مرة أن هناك اقتصادان، اقتصاد المواطن الذي يدفع ثمن الإدارة الحكومية العاجزة للاقتصاد، واقتصاد الحكومة التي تحدثهم عن أرقام نمو الدخل القومي الإجمالي الذي لا يلمسه الناس في واقع حياتهم.

(4)

وإفادة السيد رئيس الوزراء ليست اكتشافاً جديداً لأن أصوات العديد من الخبراء والمهتمين بالشأن الاقتصادي قد بحت وقد أنفقوا سنوات طويلة يشخصون الأزمات ويضعون أصابعهم على مواقع الخلل ويقترحون البدائل، لكن لا أحد هناك في الطبقة الحاكمة كان مستعداً ليسمع شيئاً أو لينتصح لأحد، ولذلك تراكمت الأخطاء حتى تحولت إلى خطايا، وتفاقمت الأزمات حتى وصلت إلى حد لم يجد السيد بكري بداً، عن معايشة لصيقة من موقع المسؤولية، من الخروج إلى العلن ليصل إلى التشخيص نفسه الذي طالما حذر الحادبون من وقوعه.

(5)

وأهمية حديث السيد بكري أنها المرة الأولى التي يستمع فيها الناس إلى مسؤول رفيع في مقامه ولا يزال في موقع المسؤول التي يقر فيها بالحاجة الملّحة إلى مقاربة جديدة لتغيير نهج وإدارة الاقتصاد السوداني من واقع النتائج الفاشلة، وهذه محمدة نادرة، فقد عهد الناس كبار المسؤولين في الحكومة خاصة أولئك الذين تسنّموا مواقع مهمة للغاية لا سيما في الحقائب الاقتصادية ما أن يغادرون مناصبهم حتى يتحولوا إلى حكماء ناصحين، بل وأيضاً منتقدين للسياسات الحكومية، وما علم الناس لهم سعياً للإصلاح عندما كان في مقدورهم ذلك، بل في الواقع لعبوا أدواراً مؤسفة في تعميق الأزمات، وهو سلوك يكشف بلا شك مدى تدني سقف الاستقامة الأخلاقية لبعض من تولوا مناصب عامة، وما علم الناس أن أحدهم بادر للاستقالة لأنه عجز عن القيام بواجبه.

(7)

ودعوة النائب الأول إلى البحث عن “مدرسة اقتصادية جديدة” على حد تعبيره يمكن أن تمثّل نقلة كبيرة في التفكير الحكومي، بمعنى الإقرار بأن الإدارة الحكومية الراهنة للشأن الاقتصادي على مدار الحقبة الماضية وصلت إلى طريق مسدود، وأن هناك حاجة ملّحة للبحث عن طريق جديد، وهي تصلح بلا شك كعنوان عريض للبحث عن مخرج ممكن من المأزق الراهن، ولكن لكي تأخذ هذه الدعوة مداها إلى فتح آفاق جديدة فإن ثمة استحقاقات لا بد من الأخذ بها للتعاطي بجدية مع هذا النمط من التفكير المطلوب بشدة أن يكون خارج الصندوق، وحتى لا تتحول هذه الفرصة السانحة لتصبح مجرد تعليق عابر، تحت ضغط الواقع العاري الذي فشلت كل المساحيق في تجميله، سرعان ما تطويها الأحداث والأيام في عالم النسيان. أو أن تتحول إلى مادة للاستهلاك السياسي والجدل غير المنتج.

(8)

وأول هذه الاستحقاقات للبحث بجدية في الدعوة للخروج من المأزق الراهن هو أن تتم عملية تشخيص مؤسسية ومنهجية مدروسة علمياً لتحديد الأسباب الحقيقية التي أدت للفشل في إدارة الاقتصاد السوداني مع كل الفرص المتاحة له، فما تحدث عنه السيد رئيس الوزراء هو نتيجة موضوعية لذلك، ولا يمكن الاكتفاء بالإشارة إلى هذا العجز وأثاره، ثم الدعوة مباشرة للانتقال إلى “مدرسة جديدة” لإدارة الاقتصاد دون أن نتبين لماذا حدث ما حدث، وكيف، ومن هو المسؤول، لأن تلك هي الطريقة الوحيدة الناجعة لوصف دواء فعّال لمعالجة هذه الأزمة المتطاولة. وهذا يقتضي أن يعهد رئيس الوزراء إلى فريق من الخبراء والمختصين ذوي الكفاءة والدراية والمعرفة والخبرة المتراكمة الذي نهلوا من معارف وتجارب ثرة سواء على الصعيد الوطني أو الإقليمي أو الدولي للعكوف على هذه المراجعة الجذرية التاريخية والحاضرة للأسباب التي أدت إلى هذا الفشل.

(9)

سينبري البعض للحديث عن أن قضايا الاقتصاد السوداني قتلت بحثاً ونقاشاً وأن الحلول معروفة وأن المشكلة في التطبيق، وأن المؤتمرات والورش ما غادرت من متردم، وأن لا حاجة للمزيد منها، وأقول بكل ووضوح أن هذا النوع من الكلام تحديداً هو واحد من أسس البلاء الذي نعيشه، ذلك أن معظم هذه الأنشطة فشلت بامتياز لأنها ببساطة لم تكن سوى عملية إعادة تدوير لنفايات فشل الإجراءات” المتعاقبة التي نفذت باسم الإصلاح الاقتصادي، ومعلوم بالبديهة أن الذهنية التي أنتجت الأزمة هي آخر من تصلح للبحث عن مخرج منها، لقد لبث الاقتصاد السوداني لثلاثة عقود تحت رحمة فريق واحد يتبادل المواقع، ولم تنجح كل تجاربه الفاشلة من أن تزحزحه من قبضته الخانقة على البلاد والعباد، لقد كانت تصريحات النائب الأول غير المسبوقة وبهذه الصراحة والوضوح كافية لأن يتقدموا باستقالات جماعية من المواقع التي يتشبثون بها في الأجهزة التنفيذية والحزبية والمؤسسات الاقتصادية المختلفة، لقد كان مزرياً تدثرهم بالصمت وكأن الأمر لا يعنيهم، من الواضح أن تضامن شبكة المصالح والمكاسب والامتيازات هي أقوى بكثير من القبول بدفع استحقاقات الفشل وفسح الطريق لنهج جديد وقدرات جديدة.

(10)

يذخر السودان بالكثير من الكفاءات المتميزة، علماً وكفاءة وخبرة واستقامة، تحفل بهم العديد من المؤسسات الاقتصادية المرموقة دولياً وتستعين الكثير من الدول الناهضة بهم، ولكنهم للأسف الشديد آخر من يستعين بهم وطنهم، على أريحية الكثيرين منهم واستعدادهم لبذل معارفهم وتجاربهم في إقالة عثرات الاقتصاد السوداني، ولكن أنَى لهم ذلك في ظل سيادة واحتكار اقتصاد التمكين”. بوسع السيد بكري الاستعانة بطائفة من الوجوه الجديدة التي تحمل أفكاراً ورؤى جديدة قادرة على استشراف المستقبل وفرصه الواعدة أمام بلد بإمكانات السودان وثرواته المتجددة، بما يتجاوز بسنوات ضوئية الذهنية السائدة المعتقلة داخل صندوق الأزمة الحالية، سيكون لدعوة رئيس الوزراء معنى وآفاقاً مستقبلية إن بادر بجرأة إلى الاستعانة بمثل هذه العقول المستنيرة وإتاحة الفرصة لها لإطلاق العنان لتفكير طليق بعيداً عن ساحات التهريج السياسي وزفّات مؤتمرات الزينة التي يُحشر لها الناس ضحى لتعيد في كل مرة إنتاج الأزمة.

(11)

واستحقاق ثالث لفت نظري إليه ما سمعته من السيد رئيس الوزراء في مؤتمره الصحافي بالأمس وهو يقول إن “المدرسة الاقتصادية الجديدة” ستكون في إطار استراتيجية الدولة تحت سقف “سياسة التحرير الاقتصادي”، وأقف هنا لأقول بصراحة أنني أختلف مع هذا الكلام جملة وتفصيلاً، وأعتقد أنه ببساطة كمن يريد إعادة اكتشاف العجلة أو الدوران من جديد في متاهة الحلقة المفرغة، وأسوق أسبابي في ذلك، أولها أن هناك “وهم كبير” تعيش الحكومة في فقاعته إذ تعتبر أن هناك بالفعل ما يمكن أن يطلق عليه “استراتيجية الدولة”، صحيح أن هناك وثائق تحمل هذه الصفة ولكن ليس لها من الاستراتيجية إلا اسمها، ولو كانت هناك استراتيجية فعلياً أصلاً ، من أي نوع، لما أحتاج رئيس الوزراء ابتداءً للجهر برأيه أمام المجلس الوطني عن قناعته ببؤس الحصاد نتيجة فشل وصفات إدارة الاقتصاد السابقة، ودعوته للبحث عن مدرسة جديدة.

(12)

أقصى ما يمكن قوله في شأن هذه “الاستراتيجية المتوهمة” أنها لا تعدو إلا أن تكون تعبيراً عن مجرد نيّات أو تمنيات، ولكنها لا تمت بصلة لا للتفكير ولا التخطيط الاستراتيجي الحق، وإلا لكانت ثمارها قد ظهرت، وقد تسنى لي أن أتابع عن قرب وبشكل حثيث بحكم الاهتمام الشخصي والعمل الصحافي والاطلاع عن كثب لبعض التجارب الخارجية في هذا الخصوص، محاولات وضع استراتيجية سودانية والعديد من البرامج لإنهاض بعض القطاعات، وقد أيقنت عدم جديتنا وأنا أرى كيف “تُسلق” الأهداف في هذه الوثائق، وكيف “تُنجر” تقارير الأداء ويخرج الجميع من الاجتماعات المطولة “مبسوطين ومصدقين” أن الدولة السودانية تملك فعلاً برامج استراتيجية.

(13)

ولا يحتاج الأمر إلى مجرد تجربة شخصية للحكم على ذلك، لقد كان أكبر دليل على عشعشة هذا الوهم في أذهان الرسميين عقابيل تقسيم السودان وانفصال الجنوب، وكم يبدو مثيراً للسخرية عندما تسمع كبار المسؤولين وهم ينحون باللائمة في الأوضاع الاقتصادية المتردية على ما يسمونه “صدمة الانفصال، أو عندما يتباهون بالنجاح في تجاوز هذه الصدمة، وهذا مثال بيّن يكشف زيف التخطيط الاستراتيجي” للدولة السودانية، يتحدثون عن صدمة مزعومة وكأنها حدثت فجأة ومن غير سابق ميعاد ولا إنذار، كيف يتفاجأ من له “استراتيجيةوقد كان الانفصال احتمالا قائماً على الأقل بنسبة خمسين بالمائة قبل عشر سنوات من وقوعه، عندما أقرت الحكومة في اتفاق مجاكوس الاطاري في يونيو 2002 بحق تقرير مصير، والذي تم التأكيد عليه في اتفاقية السلام الشامل باستفتاء يجري بعد فترة انتقالية ست سنوات.

(14)

لقد كانت قمة المفارقة أن الاستراتيجية القومية ربع القرنية تم تبنيها مع بداية الفترة الانتقالية، فكيف تفاجأ السلطة بعد ست سنوات دعك من ربع قرن بتطور كان التزاماً دستورياً حاضراً بقوة ومحروس بإرادة دولية، لم تفعل هذه الاستراتيجية الربع قرنية ولا الخطة الخمسية الأولى 2007 – 2012 شيئاً تحسباً، ومع كل ريع العائدات النفطية التي كانت في أوجها استباقاً لفقدان مورد النفط، وما أن انفصل الجنوب وذهب بريع النفط حتى بانت كل عورات الأزمة الاقتصادية بعد انهيار فقاعة النفط، وقد سجلت في الأثناء برامج النفرة الزراعية ثم النهضة الزراعية فشلاً ذريعاً، وجيئ بالبرنامج الإسعافي الثلاثي بعد التقسيم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ثم لحقه البرنامج الخماسي، اللذان وصفهما مسؤول رفيع في الحكومة الحالية ذات مرة بأن نتائج الأول صفر” والثاني “صفر كبير”. وسنأتي إن شاء الله في الحلقة القادمة في هذا الإطار على تشريح الفرية الكبرى التي تسمى “سياسة التحرير الاقتصادي”.

(15)

اكتفي في هذه المقالة بهذه الهوامش على دعوة رئيس الوزراء لمدرسة اقتصادية جديدة، لنواصل في سلسلة حلقات قادمة بإذن الله تشخيص أسس ما تبدو أعراضه وكأنه أزمة اقتصادية، وما هي في الواقع إلا نتاجا موضوعياً لمشكلة أعمق وهي اختلال الإطار السياسي المنشئ لهذا المأزق، أو ما أسميه اصطلاحاً “مأزق الاقتصاد السياسي للتمكين”.

Welcome

Install
×