سيف الدولة حمدنالله: نُحمّل المسئولية لمولانا حيدر دفع الله !! ..

قطع قضاء السودان (والصحيح قضاء الإنقاذ) لسانه بيده لا بيد غيره، ولا يستطيع بعد اليوم أن يرفع أيّ مسئول في القضاء عينه …

بقلم: سيف الدولة حمدنالله

 

قطع قضاء السودان (والصحيح قضاء الإنقاذ) لسانه بيده لا بيد غيره، ولا يستطيع بعد اليوم أن يرفع أيّ مسئول في القضاء عينه في عين من يتهمون القضاء بأنه قد أصبح أحد أجهزة الحزب الحاكم يأتمِر بأمرها ويُنفذ تعليماتها دون إكتراث للضرر الذي يُصيب سمعة وتاريخ القضاء العريق.

معيار إختبار إستقلال ونزاهة القضاء في أي بلد لا يكون بالنظر فيما يُصدره القضاة من أحكام في قضايا إخلاء المنازل أو أحكام النفقة للمُطلّقات أو بصحة ملكية قطعة أرض، فهو يكون من واقع موقف القضاء من القضايا الكبرى والمحورية التي ينتصِر فيها القضاء لمبادئ العدالة والقانون والتي تصطدم فيها تلك المبادئ مع رغبة وإرادة الأجهزة الدستورية المُقابلة (التنفيذية والتشريعية) التي يقصد منها الدستور تطبيق قاعدة توازن السلطات.

وإذا كانت النفس تستكثِر الإستشهاد بمواقف القضاء في الدول التي ترسّخت فيها مبادئ الديمقراطية، مثل الولايات المتحدة التي تابع العالم فيها قبل فترة قصيرة كيف كان الرئيس الأمركي ما إن يأخذ نفسه من إبطال أحد قضاة الإستئناف في ولاية من الولايات للقرار الذي أصدره بحظر دخول رعايا بعض الدول حتى يقوم قاضٍ في ولاية أخرى بإبطال قراره من جديد، فمن حق أبناء هذا الجيل أن يعرفوا أن قضاء السودان – قبل أن تصيبه لعنة الإنقاذ – لم يكن أقل من ذلك في شيئ.

أُسْ إستقلال القضاء يستنِد على الأشخاص الذين يقومون بتنفيذ أحكامه لا بالنصوص التي يضعونها أمامهم، أنظر إلى العبارة التي كتبها رئيس القضاء الأسبق مولانا بابكر عوض الله في إستقالته التي تقدم بها إلى رأس الدولة في يناير 1967 إحتجاجاً على قرار الحكومة – وكان يرأسها الصادق المهدي – برفض تنفيذ الحكم الذي أصدرته المحكمة العليا (القاضي صلاح حسن) ببطلان قرار البرلمان بحل الحزب الشيوعي، جاء في خطاب بابكر عوض الله ما يلي: "إنني عملت مافي وسعي لصيانة إستقلال القضاء منذ أن كان لي شرف تضمين ذلك المبدأ في ميثاق أكتوبر ولا أريد لنفسي أن أبقي علي رأس الجهاز القضائي لأشهد عملية تصفيته وتقطيع أوصاله وكتابة الفصل المحزن الأخير من فصول تأريخه".

وإذا كان المثال الثاني في صلابة وشجاعة القضاة يرجع هو الآخر للرعيل الأول من القضاة وبطله قاضي مديرية الخرطوم مولانا عبدالمجيد إمام الذي أمسك بمكبّر صوت يدوي أثناء مظاهرات أكتوبر 1964 وأمر قوات الشرطة بالإنصراف وعدم التعرّض للمتظاهرين (وقد فعلوا) وكان ذلك بمثابة الشعلة التي إنتهت بنجاح ثورة أكتوبر، فإن تاريخ القضاء الحديث الذي شهدت جيلنا جانباً منه يمتلئ بكثير من هذه الأمثلة، من بينها موقف حدث خلال فترة الديمقرطية الأخيرة، ويتلخّص في أن وزير رئاسة مجلس الوزراء المرحوم صلاح عبدالسلام الخليفة توجه وهو في ثورة من الغضب إلى مكتب رئيس القضاء (مولانا ميرغني مبروك)، ودخل عليه دون إستئذان ليشتكي إليه القاضي (القاضي هو عوض الحسن النور قاضي جنايات الخرطوم شمال في ذلك الوقت ووزير العدل فيما بعد) الذي كان يُشرِف على سير المظاهرة وإشتكى الوزير لرئيس القضاء رفض القاضي طلب قائد قوة الشرطة بإعطاء الأمر بإستخدام القوة في تفريقها، وإعتبر رئيس القضاء ذلك تدخلاً لا يُليق بأعمال السلطة القضائية، وأمر الوزير بالإنصراف من أمامه، وقد فعل. وقد شهد ذلك ردة فعل أيضاً من الجمعية العمومية للقضاة إنتهت بتقديم إعتذار مكتوب من رأس الدولة في خطاب ممهور بتوقيع الأستاذ الكبير ميرغني النصري عضو مجلس رأس الدولة ونقيب المحامين الأسبق.

ثم، ليس هناك مثال أقوى من إضراب قضاة السودان إحتجاجاً على قرار الرئيس نميري بفصل عدد من أعضاء لجنة قضاة السودان في 1983 (كان لكاتب هذه السطور شرف أن يكون واحداً من بينهم)، والأحياء من أبطال تلك الملحمة يتوزعون اليوم بين مكاتب الكفلاء بدول الخليج وقليل منهم يعمل بالمحاماة في السودان، نذكر من بينهم من باب الوفاء مع حفظ الألقاب: حسن ساتي السيد (قطر)، عمر صديق البشير (أبوظبي)، عمر الشيخ سيد أحمد (الشارقة)، أنور عزالدين (مسقط/عمان)، عبدالرحمن فرح سنادة (السودان) عبدالمنعم محمود بشير (توفى لرحمة مولاه).

هذه مقدمة طويلة وفيها إسهاب، ولكنها لازمة وضرورية قبل أن نعرض لموقف القضاء اليوم في واحدة من القضايا الكبرى التي سوف تظل محفورة في ذاكرة التاريخ، وهي عجز القضاء (إن لم نقل تواطؤه) عن تصحيح الأفعال المُتعمّدة التي قامت بها النقابة الحالية للمحامين، لضمان فوز قائمة حزب المؤتمر الوطني بمقاعد النقابة من جديد.

في البداية نقول بأن القضاء هو الذي أوقع نفسه في هذا الموقف، فقد كان الصحيح أن تتشكّل لجنة الإشراف على الإنتخابات – كما جرت العادة وطالب بذلك تجمع المحامين الديمقراطيين – من كبار المحامين المُستقلين على أن يرأسها قاضٍ، ولكن ما حدث أن تشكيل اللجنة جاء من ثلاثة قضاة هم رؤساء الأجهزة القضائية بولاية الخرطوم، وقد وقف هذا الثالوث يتفرّج على كل الحِيَل العلنية (وهي في حقيقتها فهلوة) التي مارستها النقابة من أجل فوز قائمة الإنقاذ، وهي تتضمن حقائق بسيطة لا يحتاج تقرير عوارها وبطلانها لنظر عين رجل قانون.

ضربة البداية (وقد كتب حولها المحامي الكبير نبيل أديب) كانت في تعمّد النقابة المباغتة في الإعلان عن موعد بدء جدول إجراءات الإنتخابات، حتى يُفسَد على الفريق المُنافِس (المحامون الديمقراطيون) فرصة تنظيم صفوف عضويته في الإعداد للإنتخابات، وعند نشر كشوفات العضوية التي يحق لها التصويت، جرى ذلك بلصقها على حائط في الطريق العام ووضعت الأسماء بدون ترتيب الحروف الأبجدية، ويعني ذلك أن يقوم كل عضو بتمرير إبهامه على عشرات الأوراق ليبحث عن إسمه، والهدف من هذا الإجراء ليس تأديب المحامي العضو وهو يبحث عن إسمه فحسب، بل عدم تمكين الفريق المُنافِس من رصد وحصر أسماء الأعضاء الذين لا يحق لهم التصويت وتقديم الطعون بشأنهم.

ثم أن الجدول الزمني للإنتخابات وضِع بطريقة يستحيل معها تحقيق الغرض الذي من أجله توضَع الجداول الزمنية، فقد جُعِل موعد تقديم الطعون في القوائم ينتهي في يومين، وكذا البت في الإستئناف في تلك الطعون، ثم أن فترة التصويت نفسها (في ضوء الإعلان المُباغت بقيامها) ليست كافية لحضور المحامين من مناطق عملهم في الفاشر وبابنوسة والضعين وطوكر وكادوقلي وغيرها من المدن البعيدة.

أما فاكهة هذه البلطجة، فقد جاءت في منح لجنة الإنتخابات نفسها الحق في أن تختار مركز الإقتراع الذي يصوّت فيه العضو، وجرى إختيار ذلك بمعرفتها دون وجود ضابط لذلك، فيجد المحامي إسمه ضمن كشوفات التصويت في مركز بمدينة الثورة، مثلاً، وهو يسكن في بري، ويجد آخر إسمه ضمن كشوفات مركز الخرطوم شرق ومكتبه وسكنه في أمبدة.

لا يعني كل ذلك أن يستسلم الطرف الآخر للهزيمة، فلا نزال نرى ضرورة المُنازلة لا المُقاطعة، كما أن النصر لا يزال مُتاحاً بإصرار المحامين على التغلّب على هذه المطبّات الصناعية، فلا أحد كان يتوقّع أن تجري الإنتخابات في نزاهة وشفافية، وليس هناك أحلى من النصر حينما يتحقق برغم وقوف الحكم مع الفريق الضعيف ومساندته له بضربات جزاء غير صحيحة.

وأخيراً، إذا كان إسم قضاة مثل بابكر عوض الله وعبدالمجيد إمام وصلاح حسن قد خلّدها التاريخ، فسوف يسجّل إسم مولانا حيدر دفع الله ورؤساء أجهزته في الصفحة المقابلة للتاريخ وسوف يتناقل الشعب هذا الحدث العيب جيلاً عن جيل على مرّ العصور.

سيف الدولة حمدناالله
[email protected]

Welcome

Install
×