بقلم / صلاح شعيب
يبدو التصريح الأخير للبشير في سنار الذي قال فيه إنه يتوق إلى الشهادة، وملاقاة نائبه السابق الزبير وشمس الدين في الجنة، كأنه حدس منه مستبق لأحداث قادمة تنتظر نظامه المهترئ. فعلى ضوء عدم وجود خطة روسية عملية لحماية نظامه الآن، كما طلب من بوتين قبل شهر، لم يبق أمامه من بلد يمكن أن تستقبله في حال سقوط نظامه آن عاجلا أم آجلا. وإذا كان عيدي أمين، وزين العابدين بن علي، ونواز شريف زاده، قد رحبت بهم السعودية، بعد سقوط أنظمتهم، ولكن البشير رغم ارتزاقه بقواته في اليمن الداعمة لعاصفة الحزم فإن المملكة بكل الدلائل تحبذ الآن سقوطه. فإذا كانت السعودية ترغب في استمراره لنجدت منذ حين نظامه الاقتصادي المنهار. ولو قرأنا بعين فاحصة مقال الأستاذ عبد الرحمن الراشد، الكاتب، والصحافي، المقرب من الأسرة الحاكمة فإننا نرى مطالبته الأسبوع الماضي بإقامة حلف إقليمي لإسقاط النظام السوداني بأنه نوع من الرد الخشن على تذبذب نظام البشير بين البقاء ضمن حلف عاصفة الحزم وبين مغازلة إيران وسوريا.
وعلى مستوى الجوار فإن البشير لن يجد مكانا يرحب به إذا طلب كابتن طائرته. لا في يوغندا، أو تشاد، أو أفريقيا الوسطى، ولا في مصر بطبيعة الحال. وعلى ذكر الأخيرة فقد كان الرئيس السيسي ذكيا حين قام بنفسه بتنفيس خطة البشير لإلهاء السودانيين بحرب تقودها مصر، وإريتريا، ضد السودان، ونشروا صورا لوجود رتل من الجنجويد في الجبهة الشرقية. وقد صرح السيسي أنه لن يحارب "أشقاء مصر". ويعني ذلك أن على النظام أن يبحث عن حبكة أخرى لشغل السودانيين، وتحقيق الفتنة بين القاهرة وأديس أبابا في ذات الوقت. وخطت مصر أكثر بأن وجهت الدعوة لرئيس الوزراء الإثيوبي لزيارة القاهرة للإشارة إلى إمكانية حل خلافات البلدين بالحوار، وليس بضخ الحشود العسكرية في الحدود كما كذب إعلام البشير. وكان أفورقي أيضا واعيا بمجريات الأحداث في السودان حين سخر من آلة البشير الإعلامية السودانية التي تسعى لشغل شعبها الذي يعاني صعوبات جمة لإطعام نفسه.
إن الجرائم التي ارتكبها البشير، وطاقمه المكون من قادة الحركة الإسلامية، لا تتيح له، ولهم، مجالا كبيرا لتدبير هروبهم للخارج في حال سقوط نظامهم. فسياف المحكمة الجنائية الدولية سوف يطوق عنقهم، ويصعب عليهم اللجوء لأي قطر ضمن المنظومة الدولية. وإذا كان رهانهم على قطر باعتبار أنها تتعاطف معهم فإنها مهما رحبت بهم فستظل من الدول الأسيرة للضغوطات الدولية. وقد لاحظنا مؤخرا أنها طلبت من عدد من الإسلاميين المصريين مغادرة أراضيها، ومن ضمنهم وجدي غنيم. وكذلك تخلت في السابق عن دعم وجود خالد مشعل في أراضيها بعد اشتداد الضغوط الدولية عليها، ولَم يجد إلا تركيا ملاذا.
وبرغم أن البشير قد رشا بعض الرؤساء الأفارقة بمال البترول للوقوف معه ضد المحكمة الدولية فليس هناك ضمان أن يجد قطرا أفريقيا لاستقباله، كما استقبلت السنغال الرئيس التشادي السابق حسين هبري، والذي كان مصيره الوقوف متهما أمام المحكمة الجنائية قبل أعوام قليلة، وحكم عليه بالسجن المؤبد. ولا يعتقد البشير حقا، لا بد، أن الرؤساء الأفارقة أمثال موسفيني، وجاكوب زوما، مؤتمنون لحمايته إذا هرب إليهما رغم أنهما الآن يعدان من أكثر أصدقائه المقربين من رؤساء القارة.
فإذا سقط البشير بعد أسبوع، أو شهر، أو عام، فليس أمامه سوى التسليم بأمر القضاء السوداني المعروف بعدله في الأزمنة الديموقراطية، والذي قد يساوم إذا استحق الإعدام باسترداد مليارات الدولارات التي اتهمت أسرته، ومقربون منه، وأعضاء في تنظيم الحركة الإسلامية بأنهم يدخرونها لتعينهم في حال سقوط النظام.
حين عاد البشير من مخبئه بعد قمع جنجويده لمئات الأرواح التي شاركت في ثورة سبتمبر قال إنه لولا استخدام الخطة "ب" لانهار النظام، أيضاً هدد أثناء خطاب له قبل العصيان المدني الأخير أنه يدخر الخطة "ب" في حال إسقاط نظامه. والآن يأتي استخدام البشير لذات الخطة لقمع التظاهرات السلمية حتى يضمن عدم هروبه من البلاد حين يستنفد حيله في الحفاظ على السلطة. ولكن لا يعتقد المرء أن هناك وصفة سحرية اقتصادية جاهزة أمام البشير من أجل إيقاف الغضب الشعبي الذي عّم كل أرجاء البلاد.
والحقيقة أن كل الديكتاتوريين الذين هربوا من أوطانهم أو حاولوا التخفي داخلها بعد فقدانهم للسلطة خطوا نفس خطوات البشير في الاعتماد على الخطة "ب" التي تعني استخدام السلاح كوسيلة لتحطيم إرادة الشعوب في إحداث التغيير السياسي، وكان آخرهم القذافي. ولكن البشير يدرك تماما أنه ليس من الرجال الذين يتوقون "الاستشهاد" بديلا للهروب من أرض المعركة التي يديرها الآن مع شعبه. فهو آثر بجانب قادة الحركة الإسلامية أن يعيشوا حياة الدعة، والراحة، واستسلموا لملذات السلطة، والدنيا، ولَم يثبتوا تدينا، أو إحسانا في معاملة شعبهم.
إن تصديق البشير لنفسه بأنه سيموت شهيدا في أرض المعركة ضد شعبه المغلوب على أمره لا ينبئ إلا عن ضلاله الأيديولوجي. فذهنه لا يختلف عن ذهن نافع، والسنوسي، إذ دعيا في تصريحات موثقة بأن يكون التعذيب الذي مارسته الإنقاذ ضد معارضيها ثقلا في ميزان حسناتهما. ولذلك لا يرى البشير طيلة رئاسته للبلاد أنه مجرم أهدر الآلاف من الأرواح، وهو بالأحرى يقيم فترته بحساب توطيده لدولة الإسلام المتوهمة، والتي رغم فشلها فإنه يرد الفشل لعوامل خارجية، ولا يتحمل أي مسؤولية دينية، أو أخلاقية، أو وطنية. وهذا هو تصور قادة الحركة الإسلامية، إذ دائماً يجهلون عامل القصور الذاتي لديهم، ولا يعتبرون بحقيقة التحديات الداخلية والإقليمية والدولية، أمام تحقيق مشروعهم الرأسمالي الطفيلي، المصبوغ بشعارات دينية، ويجعلون من مقاومة الآخرين للمشروع الإرهابي مشجبا يعلقون عليهم إخفاقاتهم الأكيدة.
إن العنف الذي واجهت به الحكومة الموكب الملهمي الناجح الذي سيره الحزب الشيوعي، وموكب أمدرمان، ودعمتهما معظم القوى السياسية، لن يسهم في تخويف الجماهير التي آمنت بضرورة إسقاط النظام بوضوح لا لجلجة فيها. وسيتواصل النضال من كل القوى الرافضة لمشروع الحركة الإسلامية حتى ساعة هروب البشير، وزبانيته، من قصره، وعندئذ لا مفر لهم سوى الاستسلام، أو الاختباء.
فالمزيد من المواكب السلمية التي تتوحد عبرها إرادة شعب البلاد ستكون صمام الأمان لإسقاط النظام، واسترداد الديموقراطية، والحفاظ على وحدة السودان، وإنهاء ثلاثة عقود من حكم الطبقة الطفيلية للحركة الإسلامية، والتي وطنت حكم الاستبداد، وأهدرت موارد البلاد، وهجرت الملايين من السودانيين، وقتلت مئات الآلاف من المواطنين، وفصلت الجنوب، وجعلت الفساد السمة البارزة لفترة حكم كالحة.