فتحي الضَّو: ما لن يُقْال في سِيرة الوزير المُقْال
سألني أحد الأصدقاء إلحاحاً، ما إذا كان لدي رأياً أبديه في سيرة الوزير المُقال إبراهيم غندور، فأجبته بالنفي. لأنه يعلم أنني لا أحفل …
فتحي الضَّو
سألني أحد الأصدقاء إلحاحاً، ما إذا كان لدي رأياً أبديه في سيرة الوزير المُقال إبراهيم غندور، فأجبته بالنفي. لأنه يعلم أنني لا أحفل بمثل تلك الأعاجيب والألاعيب في سيرة العصبة ذوي البأس طيلة الثلاثة عقود زمنية التي قضوها في سدة السلطة. فقد درجوا وفق الثفافة السياسية الغربية المستحدثة على قذف قطعة اللحم الحمراء Red meat أي النيئة التي تقطر دماً، لمتلقيها بين الفينة والأخرى، لكي يستمروا في مضغها دون أن يفتتوا عضدها إلى حين أن تلحقهم بأخرى. وبمقاربة اجتهادية مني في ثقافتنا السودانية، فقطعة اللحم الحمراء تلك هي مزعة (السنكيت) في لحم البقر والتي تمضغها الأفواه بلا هوادة، فتعجز الأسنان عن ترويضها وتفتيت عضدها، وعندما يعيل صبر الآكل يقوم بابتلاعها على أمل أن تقوم بقية الأعضاء الهضمية بإكمال المهمة المستحيلة. فتلك الظاهرة تعد من سفاسف حكم العصبة على مدى سنواتها في السلطة، هدفت بها تطويل سنوات عمرها في الحكم بجلاوزة حواة يعرفون كيف يشغلون الناس بالنوافل دون الفروض، فينصرفوا عنها سفسطةً وهوهوةً وتباكياً على اللبن المسكوب!
(2)
إزاء إلحاح صديقي برغم الذي ذكرت، قلت له: سأجيبك بمنطق واحد، وهو أن الذي جال بخاطري وتيقنت منه بأسانيد ودلائل وبراهين لم يخطر على قلب بشر من الذين ملأوا الأسافير غثاً وثميناً، سوى غندور نفسه. ذلك أن ما بين غندور و(غردون) أمور متشابهات. فكليهما أخطأ التوقعات وارتجى مطراً دون غيم. فإبراهيم غندور حتى لحظة الإدلاء بقوله في منصه المجلس (الوطني) لم يكن يعلم بل لم يكن يتخيل أن ما أدلى به سيقذف به إلى قارعة الطريق، بل وأزيد أنه حتى بعد أن ألقى ببيانه وغادر تلك المنصة وذهب إلى مكتبه أو بيته آمناً مطمئناً، كانت النشوة تملأ جوانحه، ولم يكن يعلم أنه زلزل الأرض تحت أقدام عصبته. وعلى العكس تماماً كان يظن أن ما أدلى به سيرفعه درجات فوق درجات، وليس الزج به نحو أسفل سافلين. وذلك يا صديقي بالطبع يجافي بل يدحض قول الذين أسبغوا على غندور من صفات الذكاء والكياسة واللباقة، حتى كاد السامع أن يقول (صلى الله عليه وسلم)!
(3)
تحفز الصديق كمن وجد ضالته بعد لأيٍ حتى كادت عيونه أن تخرج من محاجرها، وقال لي إذن هات ما عندك تفسيراً. قلت له: السبب يا صديقي العزيز ثلاث نساء وفي رواية أخرى هن أربع نساء، يرفلن في حلل السعادة الدنيوية في كنف المذكور، ولربما لو كان هناك المزيد لما توانى، ولا شك أن الله حباه من زيجاته تلك بالبنين والبنات، ولا شك أيضاً أنه أسبغ عليهم من نعيم السلطة سخاءً رخاءً وتمتعاً. والرجل لم يأت ببدعة فذلك شأن عصبته الذين ابتذلوا مؤسسة الزواج بانتقاء ما يتوافق وهواهم من القرآن، رغم أن القرآن نفسه فيه ما يشير إلى الاستحالة في العدل بينهن (ولن تَستَطِيعُوا أن تعْدِلُوا بين النِّسَاء وَلَو حَرَصتُم) النساء/ 129، زد على ذلك أن الأمر نفسه لا يتناسب ومتطلبات العصر، ناهيك عن أنه لا يتناسب مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية السودانية التي خلخلوها برغائبهم النزقة. وعليه فإن إبراهيم غندور لم تغب عن باله في تلك اللحظة بل في كل اللحظات الذي قضاها متمرغاً في رفاه السلطة ونعيمها، تلك الكيفية التي يحافظ بها على استمرارية السدر المخضود والطلح المنضود والظل الممدود!
(4)
أردف صديقي الذي كاد أن يضيق ذرعاً وما تزال بقايا الدهشة تعتلي هامته، ولكن ما دخل هذا بذاك؟ قلت له مهلا وصبراً (يبل الآبري) ونحن مقدمون على شهر فضيل. فمن كان في عصمته أربع نساء من العصبة فإنه لن يجرؤ على إدعاء بطولة زائفة، بتسجيل موقف يؤدي إلى فطامه من المناصب التي أخذ بعضها برقاب بعض منذ الانقلاب المشئوم. فقد جاء في الأثر (إن الزواج مجبنة الرجال) وفي حديث رواه أحمد وابن ماجة (إن الولد مبخلة مجبنة) فمن هو المخبول الذي يعتقد أن البروفسير غندور ينعي النظام ليقال بتلك الطريقة المهينة، وهو يحمل على كاهله مسؤولية أربعة أُسر، في زمن أصبح فيه حتى القادرين الذين في عصمتهم زيجة وحدة يشكون مر الشكوى من الحياة وضيقها. وهل يستطيع غندور أن يذهب لوظيفته السابقة كأستاذ جامعي ليعيل أسره الأربع؟ بل هب أنه أراد الاغتراب فما هي هذه الدولة التي توظفه وفي معيته أربع نساء؟
(5)
بات صديقي قاب قوسين أو أدنى من الاقتناع، ولكن ما زلت ألمح في عينيه بقايا تساؤلات عزمت على مواصلة إزالتها، وقلت له: لو أن غندور أراد فراق عصبته كما زعم البعض، فإنه كان سيعمد إلى اتباع وسيلة واحدة من ثلاث وسائل تعارفت عصبته على بعضها، وغاب عنها بعض آخر طيلة سنوات القحط والجفاف. الأولى أن يقدم استقالة من منصب وزير الخارجية، وتلك من المستحيلات التي لم يسجل التاريخ لها سبقاً في عصبته من قبل. والثانية أن يطلب من رئيس العصبة أن يحيله إلى وظيفة أخرى، يواصل فيها تقديم آيات الولاء والطاعة وهو العرف السائد فيما بينهم. أما الثالثة وهي منهجهم، فهي تعديل وزاري تأخذ فيه بعض الوجوه (استراحة محارب) يوكل لهم خلالها وظائف (ماسونية) لا ترى بالعين المجردة. وعليه إن اتبع غندور واحدة من الطرق الثلاثة سيضمن بها استمرارية حياة الدعة والرفاهية له وأسره الأربع، وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا كما تقول الأعراب.
(5)
حتى أبدد الدهشة نهائياً من وجه صديقي، قلت له إنني أوردت كل هذه الأسباب لكي أوكد إن إبراهيم غندور برغم ذكائه وكل الصفات التي أسبغها عليه معجبوه لم يكن يتصور أن حديثه ذاك سيثير عاصفة تقذف به إلى خارج الحلبة. ولكن هب أن افتراضاتي هذه خاطئة، ودعنا نذهب في الاتجاه المعاكس الذي رأى أن غندور قال قوله ذاك وهو يعلم بأن نصيبه سيكون الإقالة. ففي هذه الحالة نحن سنكون في مواجهة ثلاثة احتمالات:
أولاً: أنه قصد أن ينعى عصبته بعد أن تفانى في خدمتها، وهو يعلم أن جزاءه سيكون كما جزاء سنمار، وهو ما حدث ولكن إلى حين. هذا الافتراض يحتم أن غندور تحصَّن من غوائل الدهر بثروة تدرأ عنه الفاقة والفقر وتضمن لأسره الأربعة استمرارية حياة القصور ببذخها الوافر. علماً بأن مورد الفساد هذا نهلت منه كل العصبة، فمنهم من قضى وطره وانزوى ومنهم من ينتظر وما يزال ظامئاً للمزيد.
ثانياً: إن غندور قال قولته تلك متعمداً، ولكنه كان يستيقن أنها لن تثير غضبة رئيس العصبة باعتباره ابن الحركة الإسلاموية المدلل، وبالتالي فهو ضامن للاستمرارية في وزارة الخارجية، وعندئذ لا خوف منه ولا عليه على الأسر من انقطاع موارد العيش الرغيد.
ثالثاً: وهذه تفترض أن غندور أصبحت لديه تطلعات يبتغي أن ترفعه مكاناً علياً في ظل (الدولة السايبة) والتي أضحت سيناريوهاتها المثيرة للدهشة تتقاطع بصورة جنونية في الوقت الراهن. وبالتالي هذا سبيل سيضمن له استمرارية نعيم العيش له ومن والاه. لكن لعل غندور يعلم ما نعلمه نحن وهو أن النظام أصبح عبارة عن جزر ليس بينها رابط سياسي أو إداري أو حتى أيديولوجي سوى فقه المصلحة، وهو المناخ الذي طفقت فيه رؤوس عصبته تشرئب طمعاً في إفقار الدولة المنهوبة، ولكن ذلك لن يطول أمده!
(6)
صفوة القول على الذين شطحوا في تصوراتهم واعتقدوا أن غندور أراد تسجيل موقف يدرأ عنه شبهات الصمت طيلة السنوات الكالحات هم مخطئون، لأن الديكتاتورية لا تتجزأ بطريقة (الجملة والقطاعي) التي يمارسها التجار. فعندما يُوصف نظام بأنه شمولي ديكتاتوري، فذلك يعني أن لا استثناء فيه لأحد من جلاوزته، فممارساته ليس فرض كفاية يقوم بها البعض وتسقط عن آخرين. فأين كان إبراهيم غندور وشلالات الدم غطت كل بقاع السودان طيلة العقود الثلاثة؟ أليس غندور هذا هو شريك في (أم الجرائم) التي قام بها النظام وهي الفصل التعسفي، أي قطع الأرزاق؟ أليس غندور هو من حمل معوله وقام بتحطيم النقابات والاتحادات المهنية وابتداع قانون المنشأة القميء؟ وهل هناك أكثر من احتقار لعقولنا وغندور يستميت في قناة الجزيرة الفضائية لينفي فساد سارت به الركبان؟ على غندور وعصبته أن يفصحوا عن الإرث الذي توارثوه من آبائهم وجعلهم يعيشون حياة تعددت فيها الزيجات وتنوعت فيها الملذات وهرب الفقر؟.
(7)
لعل أكثر ما يثير غرائز الضحك في النفس قول بعض الأغرار إن غندور (كشف حال البلد) وأن رئيس العصبة أحزنه هذا الأمر الفاضح، فعمد على إقالته من قبل أن يعود للبلاد. إن خطل مثل هذه الترهات تفترض ما لا عين رأت ولا أذن سمعت من الرئيس وعصبته وهو الوالغ في ساقط القول وأكذبه. فالذي أدمن الناس سماعه وهم مرغمون، تباريهم في إهانة الشعب السوداني بكل الألفاظ التي تحط من قدره. وأنهم لم يكتفوا بالفساد الذي أزكم الأنوف، ولا بالدماء التي أهرقت ولا بالدموع التي انهمرت مدراراً. ولكن حتى يكتمل المشهد المأساوي، قاموا ولمزيد من الإهانة، بإدخال ذخيرة من لغة (مواخير المدن) في قاموس السياسة السودانية، وتنافسوا فيها حتى ظننا أن بيننا وبينهم ثأر عظيم, فضاعت هيبة الدولة، وتوارت المثل والقيم خجلاً، وتلاشت الأخلاق المتوارثة كابراً عن كابر… وهوى الوطن إلى درك سحيق!!
آخر الكلام: لابد من الديمقراطية والمحاسبة ولو طال السفر!