ياسر عرمان: على مشارف مائة عام من ثورة 1924م – السودانوية ترياق العنصرية – نحو آفاق جديدة للبناء الوطني (1-3)
نهض الماظ، نفض غبار الموت عن بزته، ووضع ضمادة على جرحه، وخرج من المبنى الذي انهار على جسده، فارع الطول، شاباً مثلما كان ولا يزال، منذ …
ياسر عرمان
نهض الماظ، نفض غبار الموت عن بزته، ووضع ضمادة على جرحه، وخرج من المبنى الذي انهار على جسده، فارع الطول، شاباً مثلما كان ولا يزال، منذ لحظة استشهاده وهو إبن (28) عاماً أمضى منها (25) عاماً في السودان بعد أن عاد مع والديه من مصر، حيث ولد، ولم يتجاوز الثالثة من عمره، عاد مع جيش كتشنر وبعد (25) عاماً تعلم كيف يصوِّب سلاحه نحو ذاك الجيش. لم يكن فارع الطول فحسب بل فارع الوطنية أيضاً، خرج من ذلك المبنى بعد أن عزف مقطوعات البسالة من مدفعه ولم يجد البريطانيون طريقة لاسكاته الا بهدم المستشفى.
بعد أن نفض الغبار عن بزته دلف خارجاً من بوابة مستشفى النهر الي شارع النيل، اوقفه شرطي سأله عن هويته فأعطاه بطاقة قوة دفاع السودان مكتوباً عليها (الشهيد ملازم اول عبد الفضيل الماظ عيسى) قال له الشرطي إن بطاقة هويته غير صالحة إذ لا تحمل الرقم الوطني، وأشار له ان يذهب الي مبنى وزارة الداخلية، الي قسم الجوازات والهجرة، لاستخراج بطاقة من بطاقات الأجانب، بعد أن يدفع رسوم الإقامة، وقف الماظ امام ضابط الجوازات ولا زال دمه ينزف تحت ضمادته التي ربطها بعناية تحت بزته الأنيقة مثل وطنيته الاكثر اناقة، كتب ضابط الجوازات على طاولته في المكتب يافطة تقول (هي لله لا للسلطة ولا للجاه) سأله ضابط الجوازات دون إكتراث ما إسمك؟ فأجاب عبدالفضيل الماظ عيسى، ساله الي أي القبائل تنتمي؟ اجابه في زماننا كنا نقول لا يهمنا ان ننتمي إلى هذه القبيلة أو تلك، إنما نحن سودانيون. كرر ضابط الجوازات السؤال، ولكن رفض الماظ الإجابة، أعطاه نسخة من كتاب الأستاذ حسن نجيلة ( ملامح من المجتمع السوداني) تصفحها ضابط الجوازات دون إهتمام، وقعت عينه على صفحة مكتوب عليها شهيد الوطنية الملازم اول عبدالفضيل الماظ، قرأ بسرعة ثم قال له أنت ولدت بمصر، وأمك من المورو، ووالدك من النوير، هذه ليست بلدك، علينا ترحيلك الي جوبا، لاسيما وانك لم تدفع الرسوم منذ عام 1924م – وكانت الرسوم في نظره اغلى من دماء الماظ – فهناك في جوبا ربما اعطوك جوازاً أو أرسلوك الي مصر، وإن لم تجد من يعترف بهويتك في مصر فإن المراكب يمكن أن تقلك عبر المتوسط الي بلاد الله الواسعة، فإستشاط الماظ غضباً فقال له ان هذه البلاد تحتاج لمعركة النهر الثالثة ومن كآفة شعوبها، وأخذ ورقة وقلم من جيبه وكتب بخط أنيق (أخرجوا أنتم من بلادنا) وتركها على منضدة ضابط الجوازات.
خرج الماظ من مكتب الجوازات وترك سؤالاً خلفه الي أي البلاد ينتمي عبد الفضيل الماظ عيسى؟
كان الماظ حزيناً وسرعان ما ترك الحزن خلفه وقال لابد من فعل شيئٍ كما هي عادته، وعرج الي المحطة الوسطى جلس في احدى المقاهي، كان المقهى خالياً من الزبائن، وحينما جلس اتاه صاحب المقهى وحياه وتعرف فوراً عليه، وقال له إن الناس ينتظرون عودتك منذ زمن، وها انت تعود، أتى الشهداء من كل البلاد الي المقهى حتى امتلأت الطاولات والكراسي ولا زالت افواجهم تنداح نحو المقهى، وسرعان ما تفتقت الصلات بينهم وبين زعيم الشهداء عبد الفضيل الماظ عيسى، حكوا له ذكريات إستشهادهم في دارفور وفي الجنوب والخرطوم وبورتسودان وكجبار ومدني، في جبال النوبة وجبل مرة، في النيل الأزرق، سجل الماظ رواياتهم حتى إمتلأ دفتره، وحينما هم بالخروج جاءته مجموعة جديدة كلها من الشباب، وقد فاضت شوارع المحطة الوسطى بالشهداء، أراد صاحب المقهى أن يغلق مقهاه خوفاً من العسس وشرطة النظام العام. طلب منه الماظ مهلة ليلتقي بمجموعة الشهداء الشباب الجديدة، بكى الماظ حينما تعرف على دكتورة سارة عبدالباقي، وربت على كتف السنهوري ومحي الدين، وقبل جبين هزاع، خرج الماظ والليل ارخى سدوله وهو على موعد مع الشهداء في أن يعودوا جميعهم مرة أخري، ولا زال الناس ينتظرون عودة الماظ الأكيدة.
نحن على مشارف مائة عام من ثورة 1924م، آن الآوان وحان الوقت لإزالة آثار السنين وعدوانها على ثورة 1924م، ومحو ما علق بها من شوائب، معظمها مقصود ومتعمد. إن بلادنا اليوم كم تحتاج لروح ونموذج وجوهر وفكرة ثورة 1924م التي تجسد لحظة من لحظات انبثاق الوعي الوطني، والبناء القومي بآفاق جديدة.
اليوم تواجه بلادنا تحديات غير مسبوقة، تستهدف وجودها نفسه لاسيما بعد إنفصال الجنوب، وجرائم الحرب الواسعة، وإنهيار أسس الدولة القديمة، وإنحدار القيم، وتمزق النسيج الاجتماعي، والافقار والتهميش لفئات واسعة على راسها النساء والشباب، وسقوط المشروع الوطني القديم وأسوأ نسخه المتمثّلة في المشروع الحضاري، وإختفاء الطبقة الوسطى رويدا رويدا، وترييف المدن والحكم بالإعدام على الريف، وانهيار المشاريع المنتجة، إن بلادنا تتطلع الي رؤية جديدة.
إننا نحتاج اليوم لتقييم سديد لثورة 1924م ووضعها في الاطار التاريخي اللائق بها في سياق تاريخ بلادنا الذي يمتد الي سبعة الف عام او يزيد، في وجه التعديات المستمرة على ذاكرتنا الوطنية.
ثورة 1924م هي ثورة من ثورات الشباب فكل قادتها وشهدائها من الشباب، كانوا في ريعان شبابهم ومثلهم أيضا كانت رؤيتهم شابة، وقد فشلت كآفة محاولات قبر هذه الثورة، وما تبقى من وهجها لازال يضئ بعدما يقارب المائة عام، فهي تجذب الأنظار وتمثل لحظة من لحظات الزهو والتلاقي الوطني، وفي انصافها انصاف لانفسنا، وان نتزود (بزوادة) من صنع شعبنا وايدينا وهي ترياق ضد محاولات تقسيم مجتمعنا على أسس اثنية وقبلية واستعادة روحها الوثابة امر تحتاجه بلادنا، وقد استلهم العم العبقري إبراهيم العبادي الذي خرج من معطف ثورة 1924م تلك الروح حينما قال:
جعلي ودنقلاوي وشايقي ايش فايداني
غير خلقت خلاف خلت اخوي عاداني
نبقى أولاد رجل يسري نبانا للبعيد والداني
يكفي النيل ابونا والجنس سوداني- فالسودانوية والنيل ماركة مسجلة لثورة 1924م.
تأتي هذه المقالات للدعوة للاحتفاء على مدى الست سنوات القادمة بالذكري المئوية لثورة 1924م، في مؤسساتنا الشعبية والرسمية وعلى شبابنا ان يحتفي ويخلد شباب ذاك الزمان، الذين اجترحوا دروب التضحية والفداء وعلينا رد الاعتبار لثورة 1924 (الما زين اليسد الدين ) وعلى المبدعين والفنانين ان يضعوا ثورة 1924م في المجرى الرئيسي لتاريخ بلادنا الحديث، ففي 1924 خاض السودانيون ثورتين، واحدة معلومة لنا ضد الاستعمار البريطاني والثانية وربما كانت هي الأهم لاسيما في واقع اليوم، هي ثورة السودانوية في وجه العنصرية التي تحدت محاولات تقسيم مجتمعنا اثنياً، والذين يقولون اليوم إن سفننا لا مرسى لها في نضالنا الوطني من اجل مجتمع لا عنصري ومواطنة بلا تمييز فان في تاريخنا كثير من المراسي التي يمكن ان نربط فيها سفننا، وضمنها ثورة 1924م، اعلى درجات انتصارنا الحديث على محددات القبلية والاصل الاجتماعي والاثنية، ولنا ان نحتفي بطموحات وشجاعة وتصميم وابداع ثوار 1924م الذين مثلوا شعب السودان كله.
في اختيار علي عبداللطيف قائداً وزعيما لثورة 1924م، تجاوز قادة الثورة ارث تجارة الرقيق وثقافتها، وانتصروا لانسانيتهم ورفعوا رايات السودانوية عالية في منصات الزمن.
الجناح العسكري لثورة 1924م قاده خمسة ضباط على راسهم عبد الفضيل الماظ عيسى الذي ينحدر ابوه من قبيلة النوير في أعالي النيل، وامه من قبيلة المورو في غرب الاستوائية، استشهد الماظ واعدم ثابت عبدالرحيم وحسن فضل المولى وسليمان محمد وتمكن سيد فرح من النجاة من الإعدام بأعجوبة، وكانت تلك لوحة زاهية سنتطرق لها وللآخرين الذين شملتهم السجون من الجناح العسكري، وقد مثل الجناح العسكري عروة وثقى لا انفصام لعراها في قلب نسيجنا الوطني وقد وحد الموت القبائل بتنوعها والأرض والتاريخ.
خرجت ثورة 1924م من (فلنكات) خط السكة حديد الذي بناه كتشنر ، ومن الورش ووابورات النقل النهري، وبدايات الصناعة والمؤسسات الحديثة، البوستة والتلغراف والكلية الحربية وقوة دفاع السودان والمدارس والمستشفيات والمشاريع الزراعية الحديثة والموظفين والمعلمين، وانتعاش التجارة والمدن التي ضمت اقوام متنوعة المشارب، وضحايا تجارة الرقيق، وكانت الطبقة الوسطى تحبوا، ومن كل هذه البانوراما الحديثة وفي وسطها نبتت أفكار ثورة 1924م، فالمدينة والمؤسسات الحديثة ضميرها الوطني أوسع من احذية القبائل، وحدودها ابعد من حدود الاثنيات، ومن بذرة أجهزة الدولة الحديثة والقوى الاجتماعية الجديدة، نهضت أفكار ورؤى جديدة تسعى لإحداث قواسم مشتركة من التنوع فسطعت فكرة السودانوية على نحو جنيني، وتحت هذه الراية وظلها نمت شجرة السودانوية التي هي اليوم مدرسة رئيسية من مدارس السياسة السودانية لاسيما بعد ان قدم الدكتور جون قرنق دي مبيور أطروحته (رؤية السودان الجديد).
سحرتني مدينة واو بتنوع سكانها من البانتو والنيليين وتجار من شمال السودان واليونايين ومهاجرين ترجع اصولهم الي غرب افريقيا ويشقها مثل الفجر نهر الجور، وتنام في انتظار الفجر ويتحدث العديد من سكانها اكثر من لغة من لغات القبائل، وزرت مدينة واو مرتين، المرة الأخيرة كانت جزء من حملة الامل والتغيير في انتخابات 2010م، والمرة الأولى وهي ما نحن بصددها كانت بدعوة من حاكم الولاية مارك نبوج، وممثلي الولاية في البرلمان القومي وسكرتارية الحركة وفي المرتين اقمنا ندوات ضخمة لسكان المدينة، وهي مدينة متعددة المواهب في فنون النحت من الاخشاب والفلكلور والموسيقى والسياسة ودفعت بسياسيين موهوبين على مستوى السودان في مقدمتهم العم كلمنت امبورو، الذي عمل في مدن عديدة في شمال السودان، وهو اول جنوبي سوداني تولى وزارة سيادة حملته رياح ثورة أكتوبر 1964م على اجنحتها، فتولى وزارة الداخلية، والعم استانسلاوس عبدالله بيساما الذي ترجع اصوله الي دارفور، وحكى قصته الشيقة في مذكراته (من مسترق الي وزير) والاخوان ذوي القامة الشاهقة الاستاذين فرانكو ويل قرنق وجوزيف اوكيل قرنق والأخير هو اول جنوبي درس القانون في جامعة الخرطوم، وإستشهد باختيار ووعي مع قادة اليسار في قلب العاصمة الخرطوم على بعد الاف الاميال من نهر الجور، وكان من اقمار اليسار السامقة، ونهر الجور يعني نهر الغريب وطوبى دوما للغرباء ولمن قال لا في وجه من قالوا نعم.
وجوزيف قرنق اختار ان يكون بالقرب من الماظ وتبادل المواقع مع عبيد حاج الامين، وقال عنه الراحل مدينق دي قرنق مسؤل اعلام الانانيا والذي كان يشرف على اصدار مجلة حزام الحشائش من لندن قال ان نميري باعدامه جوزيف قرنق يكون قد فقد اقوى صوت في جنوب السودان يدعو للوحدة، فطوبى لجوزيف قرنق، هذا الغريب.
وفي حرب الانانيا الأولي أقيمت مجزرة باردة لمثقفي المدينة بتدبير من الخرطوم، ومن نفس المدينة وجوارها أتى جيرفس ياك الجنوبي الذي كان محافظاً للخرطوم وصديق جوزيف قرنق الذي كتب له جوزيف قرنق قبل إعدامه واصفاً الإعدام (لا تحزن يا صديقي فان الامر مثل طائرة تهبط في عرض البحر) ولعل جيرفس ياك هو الجنوبي الأول والأخير الذي كان محافظا للخرطوم، وترك بصمته في حي الصحافة، فهو صاحب الفكرة.
وبمدينة واو تتعايش الكنائس والمساجد، ويمتد تعايشها الي الاسرة الواحدة، وأسرتني مدينة واو وشكرت كل الذين عرضوا علي امتلاك قطعة ارض في الجنوب واعتذرت عنها ولو اخترت لاخترت مدينة واو دون ان نفرق بين مدن وارض الجنوب، ولكن واو تشدني اليها وغير بعيدة عن موطن زوجتي اوار دينق كوال.
إن هنالك شيئاً اخر وفريد في مدينة واو بالإضافة لكل ما ذكرت وهو ما جاء بها الي هذه المقالة، فهي المدينة التي اختارها الانجليز كابعد نقطة من العاصمة الخرطوم يمكن الوصول اليها لاخفاء جرائمهم التي ارتكبوها ضد ثورة 1924م ، وقد ارقهم ان زعماء الثورة لازالوا في ريعان شبابهم، يتطلع لقيادتهم الاف الوطنيين، وسيصبحون رموزاً للنضال الوطني في السجون، فتم ارسالهم الي واو لدفنهم حتى لا يبحروا في الذاكرة الوطنية، ففي عام 1925م ابعد زعماء ثورة 1924م الي سجن مدينة واو، وأهدت تلك الثورة فلذات اكبادها الي واو، وتركت بصماتها وابتساماتها على طول نهر النيل وفروعه، وهي تحفر مجرى جديداً في مشروعنا الوطني وبناء الامة التي تكمن وحدها في تنوعها، وقد وزعت ثورة 1924م شهدائها بعناية واتقان فالزعيم علي عبداللطيف ضمه ثرى القاهرة وهو مدفون في مقبرة الشهداء في القاهرة، وعبد الفضيل الماظ اختار الخرطوم مقراً ابدياً له، وايقونة أخرى من ايقونات ثورة 1924م وواحد من قادتها الافذاذ عبيد حاج الأمين ضمه ثرى مدينة واو، فهو حارس من حراس الضمير الوطني السوداني جنوباً وشمالاً، ففي عام 1932م بعد سبع سنوات أمضاها في سجن واو فاضت روحه الطاهرة في السجن، بعد ان اصابته حمى قاتلة، وكان أنذاك إبن حوالي (34) عاماً فغضّ استشهاده مضجع الانجليز الذين قاموا بترحيل القادة الاخرين الي الخرطوم في 1924م واطلق سراح العديدين بينما احتفظوا بعلي عبداللطيف الذي يخشونه، وقد رحل لاحقاً الي سجون ومصحات مصر، وفي هذا قصة مؤثرة تروى سنستعين في شأنها بالأستاذ حسن نجيلة المحب والمخلص لثورة 1924م، وسنعود مرة أخرى الي الماظ.
في زياراتي لواو تحدثنا عن ثوار 1924م واصولهم الممتدة شمالا وجنوبا وانهم رابط ابدي لمصيرنا المشترك وعنوان لنضالاتنا على مر الزمن، في زيارتي الأولى طلبت من الحاكم ان يضمن برنامجنا زيارة الي سجن واو وأخرى لقبر المناضل الكبير عبيد حاج الأمين، اشترينا (تيران) لإهدائها لنزلاء السجن الذين التقينا بهم، وحدثناهم عن ثورة 1924م واهمية قادتها وعن عبيد حاج الأمين وفي زنزانات السجن ابصرت عيني ما تبقى من أسماء قادة ثورة 1924م وقد قاموا بنحتها بأنفسهم على جدران السجن وسرت القشعريرة في جسدي، ونحن نرى ما تبقى من أسماء على الجدران، علي عبداللطيف، عبيد حاج الأمين، وعبد البخيت، تلك الزنازين التي ضمتهم في ليالي الصيف والشتاء الموحشة الطويلة التي امضوها وهم في ريعان الشباب في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، حيث لا تطبيقات لرسائل الكترونية ولا (فيسبوك) او (واتساب) ينقل الاخبار سريعاً، وقد كانوا باسلين امام جبروت الانجليز، وقد كان ايمانهم بالسودان مثل ايمانهم بالله لا يتزعزع.
سألت عن قبر عبيد حاج الأمين وقيل لنا في المدينة يوجد بها قبر علي عبداللطيف، قلنا لهم انه قبر عبيد حاج الأمين، ففي تقسيم الواجبات عند ثورة 1924م، فإن علي عبداللطيف الذي ينتمي الي الجنوب وجبال النوبة اختار القاهرة مرقداً اخيراً له وعبيد حاج الأمين إبن وسط شمال السودان ضم ضلوعه على جنوب السودان، وعبد الفضيل الماظ إبن الجنوب اعطى قلبه للخرطوم في وسط البلاد، وما اوثق رباطه ثوار 1924م سوف يبقى صلة على مر الحقب والازمان.
ذهبنا الي قبر الزعيم عبيد حاج الأمين نسمنا شذاه وطيب ثراه، وجرى هواه في دمنا والأرض التي رواها عبيد حاج الأمين بدمه تنبت بذوراً صالحات مهما طال الزمن، لقد وجدنا القبر في حالة يرثى لها، فقمنا بتجديده ووضعنا اكليل من الزهور، وأسمعنا صوتنا الي عبيد حاج الأمين، الي روحه التي لا تزال تحلق في بلادنا شمالا وجنوباً، وهو الذي حطم قيد الليالي العصي ومن اجلنا خاضوا المنون، ونشرنا صورة قبره في كل جرائد الصباح في الخرطوم، وتبقى رسالتنا كما هي، ان عبيد حاج الأمين عصي على النسيان، وما تزال وصايانا لكل من نلتقيه من بنات وأبناء واو، أن زوروا قبر عبيد حاج الأمين واحفظوه جيداً واقترحنا اكثر من مرة ان يكرم الجنوبيين والشماليين عبيد حاج الأمين وقادة ثورة 1924م في مهرجان مشترك لبعث الصلات بين كل ارجاء البلاد، وليحتفظ كل شعب بعلمه وبدولته ولنكرم ما هو مشترك في تاريخنا.
نحن نعشق الجنوب ويظل الجنوبي ملح البلاد وبدون الجنوبي يكون الطعام عديم المزاق، ولقد احسن عبيد حاج الأمين الاختيار حينما اغمض عينيه في مدينة واو، ووقع دفتر الحضور الأخير في تلك المدينة الجميلة، فهو رابط أبدي اخر بين الجنوب والشمال، وما ربطه الرب وعبيد حاج الأمين والتاريخ والثقافة والدماء والأرض والنيل لن يتمكن من فضه المستعمرين بزي وطني أو أجنبي.
ونواصل في الحلقة القادمة
+ هذه المقالة استمدت كثير من الوقائع من كتاب الاستاذ حسن نجيلة (ملامح من المجتمع السوداني) وايضا كتاب علي عبد اللطيف وثورة 1924 : بحث فى مصادر الثورة السودانية دكتورة كوريتا يوشيكو ترجمة مجدي النعيم تقديم دكتور محمد سعيد القدال، وافادات مباشرة من اصدقاء ينتمون لأسر ثوار 1924م .
أديس أبابا
يونيو 2018م