الباقر العفيف: الشعب- كيفية تنظيم الحراك – الشعب هو الحل (4-4)
في الحلقة الثالثة استعرضت معكم التجربة التركية والتي برهنت برهانا قاطعا، أن الأجهزة الأمنية مهما كانت باطشة ومرعبة يمكن …
الباقر العفيف
في الحلقة الثالثة استعرضت معكم التجربة التركية والتي برهنت برهانا قاطعا، أن الأجهزة الأمنية مهما كانت باطشة ومرعبة يمكن أن تقف عاجزة وحائرة إزاء بعض التحركات والاحتجاجات الشعبية. أما هنا في السودان فقد رأينا بأم أعيننا الرعب الذي أصاب قادة النظام، والحيرة التي أطبقت على أجهزتهم الأمنية، وهم يرون الشوارع خالية من المارَّة والمركبات يوم ٢٧ نوفمبر ٢٠١٦، إبان حملة البقاء في البيوت، والتي أُطلِق عليها اسم "العصيان". كذلك رأيناهم كيف اضطروا لأن يفتعلوا احتفالا بيوم ١٩ ديسمبر ٢٠١٦، لأول مرة في تاريخ حكمهم ليحبطوا التحرك عندما تقرر تجريبه للمرة الثانية في ذلك التاريخ. إذن هذه التجربة كانت تجربة ناجحة، يمكن اعتمادها وتطويرها.
تقييم العصيانين
لم نجر تقييما حقيقيا لتجربة "العصيانين" ولم نستنتج منها الدروس والعبر. وأنا هنا أستخدم تعبير "العصيان" تجاوزا، لأنه عُرِف بهذا الاسم، وإلا فالتعبير الدقيق هو حملة البقاء في البيوت، stay at home campaign. وفيما يلي من أسطر أحاول إجراء تقييم مقتضب لتلك التجربة على ضوء "المعيار التركي" والذي يمكن تلخيصه في عبارة واحدة هي: "تحقيق مائة في المائة من الأهداف مع صفر في المائة من الخسائر".
معيار السلامة الجسدية
حقق "العصيان" درجة كبيرة من الوحدة الشعبية، وزلزل كيان الحكومة، دون أن يُعَرِّض المواطنين لأي مخاطر أو يُكَلِّفَهم خسائر تُذْكر. أولا لم تكن هناك أي مخاطر تتعلق بالسلامة الجسدية للمواطنين، إذ لم يُقَتل أو يُجرَح أو يُعتَقَل أي فرد. ثانيا، يمكن حصر المخاطر في كونها كانت إما مالية، بالنسبة لقطاع من أصحاب العمل اليدوي اليومي (رزق اليوم باليوم) الذين يُفقِدُهُم البقاء في البيوت مصدر رزقهم، أو في جانب الموظفين في المصالح الحكومية والأعمال الخاصة المرتبطة بأهل الحكم، حيث يمكن أن يفقد هؤلاء وظائفهم. وكل هذه المخاطر يمكن التعامل معها وتقليلها أو إزالتها بالكلية كما سنرى فيما بعد.
معيار وضوح الهدف
من الملاحظ أن عصيان نوفمبر كان أكثر صمامة من عصيان ديسمبر وأُعْتُبِر الأكثر نجاحا رغم طول فترته. ولعل ذلك يعود إلى وضوح الهدف Clarity وبساطة الرسالة simplicity. فالهدف هو إلغاء القرارات الاقتصادية. والرسالة للشعب هي "ارفض واحتج"، والتحرك أو الفعل هو "الزم بيتك لثلاثة أيام". أما في ديسمبر فقد اختلف الناس حول الهدف من العصيان وحول عدد أيامه. فهناك من رفع السقف ليصبح الهدف هو "إسقاط النظام"، وهناك من يريد أن يظل الهدف هو "إلغاء القرارات الاقتصادية". فتضاربت الأهداف، وتناقضت الرسائل عندما اختلف الناس في عدد أيام العصيان. فهناك من أراده مفتوحا إلى أن يسقط النظام، وهناك من أراده لأيام معدودة. وهكذا تعددت الرسائل الصادرة من المنظمين وخلقت ضبابا في أذهان المواطنين فضعفت الاستجابة. والدرس المستخلص من هذا هو أن وضوح الهدف في العصيان الأول، ساهم في إنجاحه، وعدم وضوحه في الثاني ساهم في إضعافه.
معيار الملاءمة أو القرب
أشرنا إلى أن الهدف لابد من أن يكون ملائما للمواطن العادي relevant وقريبا منه. أي أن يرتبط' ارتباطا مباشرا بالرسالة والتحرك المطلوب منه القيام به. فالقرارات الاقتصادية تمس الجميع ويشعر بها الكل، لذلك فإن استجابتهم لدعوة مقاومتها كانت أكبر.
معيار المباشرة
أما المباشرة directness فتعني أن الناس يربطون ربطا مباشرا بين السبب والنتيجة دون الحاجة إلى تحليل، أو قفزات أو استنتاجات. فالشعب يربط بين القرارت الاقتصادية أو رفع الدعم عن المحروقات وبين الصعوبات المعيشية التي تواجهه. فالرغيف كان بجنيه واحد وأصبح بجنيهين. فالقرار الحكومي هو سبب الغلاء. والهدف هو إلغاء القرار. فالربط بين الهدف والرسالة هنا إنما هو ربط مباشر.
أما في حالة ارتفاع سقف الهدف ليُصبح "إسقاط النظام"، فسوف ينتفي شرط القرب والمباشرة. لأن الجمهور في عمومه لا يربط ربطا مباشرا بين "نظام الحكم" وبين غلاء الأسعار. لأن الربط هنا غير مباشر، ويحتاج لبعض التحليل السياسي الذي يشرح أن "رفع الدعم" عن المحروقات إنما نتج عن سياسات الحكومة الاقتصادية الخاطئة. وأن هذه السياسات مرتبطة بطبيعة النظام وفلسفة حكمه. وأن إلغاء القرارت لن يحل المشكلة، لأن النظام هو المشكلة، لذلك لابد من أن يذهب. فهذه رسالة معقدة وغير مباشرة ولا تصلح كمحرك للفعل الجماهيري. لأن عموم الناس لا يقوون على التحليل والاستنتاج، ومثلنا الشعبي يقول "أمسك لي وأقطع ليك".
معيار المشجب أو الشنكل
ذكرنا أنه لابد من مشجب أو شنكل Hook يعلق عليه التحرك. وهناك من يستخدم تعبير "الشرارة". والحقيقة هناك شبه شديد بين "المشجب" و"الشرارة". فالشرارة هي الحدث الذي يقدح الغضب العام ويحرك الجماهير بشكل تلقائي وفجائي. ولكن المشجب هو الحدث المرتبط بالفعل الجماهيري الذي يتأخر قليلا عنه، ويجيء نتيجة تفكير وتخطيط وإعداد. والقرينة بينهما هي أن كليهما يمثلان مرتكز الفعل الجماهيري، ولكن الشرارة لا يمكن أن تتحول لمشجب، بل عادة ما تصنع لها مشاجب في الطريق، أثناء استمرار الاحتجاجات. وإذا نظرنا لتاريخنا الحديث، يمكن أن نصنف حادثة مقتل القرشي في أكتوبر ١٩٦٤ كالشرارة، لأن المظاهرات انفجرت لحظة استشهاده، في حين يمكن تصنيف حادث إعدام الأستاذ محمود في يناير ١٩٨٥ كالمشجب، لأن المظاهرات جاءت بعد أكثر من شهرين من استشهاده.
ما العمل الأن؟
إن قيام الحكومة بطباعة كميات مهولة من العملة دون غطاء وكذلك قرارات بنك السودان بشأن تغيير العملة وتقييد أصحاب الأموال وحرمانهم من سحب أرصدتهم من البنوك، يعتبران مشجبا مناسبا يمكن أن نُعَلِّق عليه تحركا يحظى بإجماع المعارضة، وتأييد الجمهور.
عودة للعصيان
أشرت إلى أننا يمكن أن نعود مجددا لفكرة البقاء في البيوت على أن نعدل فيها بحيث نقلل خسائرها على الجمهور. فمثلا يمكن أن نقترح تثبيت يومي الجمعة والسبت من كل اسبوع للبقاء في البيوت. فالجمعة والسبت أصلا إجازة بالنسبة لقطاع كبير من الموظفين والعمال والمدارس إلخ، وهذا يقلل المخاطر بالنسبة لهؤلاء. أما بالنسبة لعمال اليومية فسوف يعني التوقف عن العمل بالنسبة لقطاع كبير منهم ليومين فقط في الأسبوع وهذا ربما يكون محتملا. يمكن حث الجمهور على قضاء حوائجهم وتوفير مستلزماتهم الغذائية يوم الخميس وعدم الخروج يومي الجمعة والسبت إلا لأمر طارئ، على أن يصلي الناس الجمعة في أقرب مسجد في الحي ويعودون منها لمواصلة البقاء في البيوت. الهدف هو "شوارع خالية من المارة ومن المركبات" ليومين من كل أسبوع. في خلال اليومين يطرق الناس على الأواني ليلا في ساعة مُتَّفَق عليها. هذا التحرك يمكن أن نسميه "جمعة الغضب" أو "سبت الغضب". ميزة هذا الفعل أنه قابل للاستمرارية والنمو والتطور.
المقاطعة الاقتصادية
إن علاقة النظام بالشعب هي علاقة استغلال وتَحَكُّم لا غير. فالشعب في نظر النظام له وظيفتين أساسيتين، فهو مصدر دخل للنظام وموضوع للحكم. فالنظام يمتص دم الشعب كما يمتص "القُرَاد" دماء الحيوانات التي يعلق بها، وبصورة تكاد تكون حرفية. وهو يفعل ذلك ليس فقط في شكل الضرائب والجبايات المباشرة وغير المباشرة واحتكار السوق. ولكن أيضا عن طريق السرقة المباشرة، ومصادرة أموال المواطنين، وحرمانهم من سحبها من البنوك.
أشار الأستاذ معتصم الأقرع إلى أن الحكومة طبعت أكثر من ٦٤ ترليون، من الأوراق وأن هذا المبلغ ببساطة يمثل سرقة الحكومة لمال الشعب. وأنه في حقيقة أمره أكبر وأخطر، من حيث أثره المدمر للقوى الشرائية للمواطن، من جميع الضرائب المباشرة وغير المباشرة. فحسب أرقام بنك السودان طبعت الحكومة في عام ٢٠١٧ وحده ٦٤ ترليون جنيه، أي ٦٤ ألف ألف بليون. وأن هذا الفعل اللصوصي رفع حجم الكتلة النقدية بنسبة ٥٣٪، واصفا لها بأنها "نسبة مخيفة للغاية". ولكي ما يُقَرِّب لنا حجم الكتلة النقدية التي طُبِعَت، يقول الأقرع أن ما طُبِع في هذا العام وحده يفوق نصف ما طبعته كل الحكومات السابقة في تاريخ السودان منذ أن عرفت بلادنا النقود. فما الذي يعنيه طباعة هذا الحجم الهائل من النقود؟ يجيب الأقرع قائلا "إن طباعة ٦٤ ترليون هي في حقيقتها تحويل للثروة من جيب المواطن إلى جيب الحكومة، فيما يعرف بضريبة التضخم". ويواصل قائلا: "بطباعة العملة بإفراط وباستمرار يمكن للحكومة أن تسرق وتصادر، سرا، دون رقابة جزءا مهما من ثروة مواطنيها".
والشعب يمول النظام أيضا عبر شراء بضائع وخدمات شركاته ومؤسساته الخدمية. فحين يذهب المرضى لمستشفيات الأمن، أو مستشفى الزيتونة فإنهم يدعمون النظام ماليا. وحين ترسل الأسر المتعلمة ميسورة الحال، ومظنة الوعي، أبناءهم وبناتهم لجامعة مأمون حميدة، هذا الرجل الجشع المتغطرس منزوع الإنسانية، فإنهم يدعمون النظام. إن من الأمور المحيرة حقا أن الأسر ما تزال تغذي جامعة هذا الرجل البغيض بألاف الطلاب والطالبات رغم الكوارث التي تسبب فيها، بتسميم عقول العشرات من الشباب من الجنسين، الذين أرسلهم لداعش، ما أدى لمقتل الكثيرين منهم، وتضييع مستقبل من بقي منهم على قيد الحياة. كان الأحرى أن تقوم حملة مقاطعة كبرى ضد هذا الرجل وجامعاته ومستشفياته وجميع استثماراته. وكذلك كان الأحرى أن تقاضيه الأسر المتضررة والتي أرسلت أولادها وبناتها لجامعته ليحصلوا العلم، فإذا به يحولهم لإرهابيين. إنه "شيلوك" السوداني، الذي تفوق على "شيلوك" اليهودي الذي خلده شكسبير في رائعته "تاجر البندقية" كرمز للجشع والخبث واللا إنسانية.
والنظام يمارس نهب أموال الشعب عن طريق شركات الاتصال مثل سوداتل وزين وغيرها. ينفق الشعب قدرا كبيرا من دخله على شركات الاتصالات وكلها إما مملوكة لجهاز الأمن أو لأركان النظام. يمكن للشعب أن يبرز عضلاته الاقتصادية، وأن يستخدم قوته الشرائية لضرب هذه الشركات في المكان الذي يوجعها حقا، أي في جيبها. يمكن أن نختار مثلا سوداتل كهدف للمقاطعة لمدة أسبوع نسميه "أسبوع إخراج شريحة سوداتل". ثم مقاطعة شركة زين لمدة أسبوع نسميه "اسبوع إخراج شريحة زين". وكشأن كل حملة لابد من أن يكون لها بعدا تعليميا وتثقيفيا يحث الشعب على تعلم عادات جديدة في توفير ماله عن طريق اختصار المكالمات التلفونية واقتصارها على قضاء الضروري من الأعمال، وترك العادات البالية عالية الكلفة مثل "الونسة" في التلفون، والنقاشات المطولة.
لابد للشعب من استخدام قوته الشرائية لمعاقبة الذين أفقروه وأضروا به. بإمكان الاقتصاديين والسياسيين إصدار قائمة بالشركات التي يجب مقاطعتها. وبإمكان المبدعين من مصممين وشعراء وفنانين استخدام مواهبهم في الترويج للمقاطعة.
فإذا نجحنا في إطلاق هذه التحركات حتى تستجمع قوة دفع كبيرة، فسوف تستولد أفعالا وتحركات أخرى مثل الوقوف أمام البيوت ليلا، مع الطرق على الأواني، أو الدفوف. والمظاهرات الليلية في الأحياء، وغيرها من الأنشطة مأمونة العواقب كبيرة العائد.