د. عشاري أحمد محمود خليل: قيادة تجمع المهنيين السودانيين ..

يريد تجمع المهنيين السودانيين اختزال جميع مكونات المعارضة في كيانه، ومن هذه المكونات “الشباب الفقراء” الذين كنت حددتهم على أنهم كانوا فَعَلةَ “الحدث” …

عشاري احمد محمد محمود(ارشيف)

بقلم: د. عشاري أحمد محمود خليل

 

السياق وانتقاد قيادة تجمع المهنيين السودانيين

يريد تجمع المهنيين السودانيين اختزال جميع مكونات المعارضة في كيانه، ومن هذه المكونات "الشباب الفقراء" الذين كنت حددتهم على أنهم كانوا فَعَلةَ "الحدث" الكبير الذي قلب لفترة زمنية قصيرة لعدة أيام فقط موازين القوة، وزرعوا الخوف والفزع والرعب والرهبة في قلوب جميع الإسلاميين، ومثقفيهم، والسياسيين المعارضين المحترفين، والحركات المسلحة وتلك المسلحة بدون سلاح، وكذا في قلوب عدد مقدر من المهنيين الذين لا مصلحة لهم في التغيير المحوره "الشباب"، خاصة الشباب الفقراء.

فهذا مقال في انتقاد قيادة اتحاد المهنيين السودانيين.

أميز بين حراك تجمع المهنيين، من جهة، وحراك الهبة الشبابية الأولية، من جهة أخرى. وهذه الأخيرة هي التي ابتدرها ونفذها أولئك "الشباب الفقراء" غير المعروفة لهم أسماء إلا بين أقرانهم وأهلهم في مجتمعاتهم المحلية الصغيرة في مدن وقرى السودان المختلفة.

وعلى مستوى آخر، يتكثر استخدام تعبير "الشباب" حتى انسهكت الكلمة لم يعد لها من محتوى موضوعي، فحتى الصادق المهدي وقادة الأحزاب الهاربة من مركب الإنقاذ بدأوا يحشرون عبارة "الشباب" تحشيرا في خطابهم، والشباب براء من مراء هؤلاء السياسيين المحترفين.

ومن ثم يتعين الإمساك بمحمولات العبارة التي تم تثبيت معانيها في الهبة الشبابية الأصلية، وهو موضوع مقال قادم مخصص لمسألة الشباب.

فأريد في هذا المقال تبيين خطورة الانجراف وراء سراب ما أراه "تجمع المهنيين السودانيين"، قبل أن يكشف هذا الكيان عن ماهيته، أو هوية قياداته.

وأرى أنه لا يمكن لتجمع المهنيين أن يتعلل بما قد يسميه مقتضيات "السرية"، أو الظروف الأمنية "في الداخل"، كأسباب لاختفائية قيادته.

خاصة وأن جهاز الأمن لا بد يعرف عن هذا الكيان وقيادته وعضويته أكثر مما يعرفه السودانيون مجتمعين الذين يدعي الكيان أنه يتحدث باسمهم، في "إعلان الحرية والتغيير" الذي جاء في ديباجته:

"نحن شعب السودان في المدن والقرى، شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ووسطاً، بكافة قوانا الشعبية والسياسية والاجتماعية والنقابية والمدنية وأصحاب المطالب، نؤكد عبر هذا الإعلان …"

….

وأقدم في هذا المقال الأسباب التي تثير تحفظات أعتمدها إزاء تجمع المهنيين السودانيين.

وفي ذلك أنطلق من فهم محدد، وهو أنه لا مجال لقبول أي غش أو خداع أو كذب أو تزوير من قبل أي شخص يتصدى للعمل العام بدعوى إسقاط نظام الإنقاذ.

إذ لا يمكن بناء السودان بذات طريقة السياسة القديمة، مما عرفناه من الصادق المهدي، والميرغني، ومن ياسر عرمان، طريقة السرية والغش والكذب على الجماهير، بادعاء أن ذلك ضروري أحيانا، ومن فنيات السياسة.

فموقفي الثابت ظل مع لزوم الشفافية الكاملة، بالتركيز على الكاملة، ولزوم اعتماد الأخلاقية والمبدئية في السياسة العامة. وهو أصلا موقف المثقف العام، ألا يدخل في صفقات تفاهماتية من وراء ظهر الجماهير الشبابية، بدعوى فهمه الخاص لحساسية الموقف، خاصة وأن الجماهير لم تختره قائدا لها.

إذ يكيف السياسيون جموع الشباب بأنها مجرد باكقراوند، خلفية، كورَس للهتاف، أو حتى عَلفا لآلة التقتيل الإسلامية الوحشية. ويتم تكييف الشباب عند السياسيين على أنهم مجموعة ديمغرافية لا تعرف أصول اللعبة السياسية أو خباياها.

ومن ثم قصر السياسيون دور الشباب في الخروج إلى الشارع لملاقاة الموت، ثم العودة المستكينة إن تيسر لهم ذلك، بينما الدهاقنة السياسيون متخندقون في بيوتهم أو مخابئهم أو هم في ظروف اعتقال معلن عنه فآمن، ينتظرون على أحر الجمر أي اتفاق، نجاح صفقة، انقلاب، حتى لو حميدتي.

ومن ثم لا أرى دوري التصفيق للسياسيين أو لأي أحد، وأنا بعيد في المنفي الإجباري لا أستطيع حتى ركوب البص دون خوف من تسآل عن أين جواز سفرك. فأتابع أوضاع السودان يوميا على مدى ساعات، قبل العمل وخلاله وبعده، وأفكر وأتأمل، وأكتب.

وقد حددتُ دوري المحدود في أن يكون الانتقاد، كعمل بناء للإسهام المحدود أيضا في كشف الاحتيال في السلطة القضائية وامتدادات هذا الاحتيال في مناحي العمل العام، منها مجال السياسة.

وليست لدي أية أوهام عن دور لي في تغيير مسار الأحداث السارية.

فأعرض هنا لما أراه عملية خداع وغش من قبل قيادة تجمع المهنيين السودانيين.

كنت في مقالي السابق عن "لزوم الحذر …" حذَّرت من القضائية، والجيش، وجهاز الأمن، والشرطة، ومن المثقفين، لأسباب مادية بَيَّنْتُها في المقال، وبينتُها قبل ذلك في أكثر من سبعين مقالا طويلا في سودانايل.

فلا يمكنني أن أصمت على ما أراه، من موقعي، الغشَّ والخداع والتزوير في سلوك قيادة تجمع المهنيين السودانيين.

ولا يمكنني المداهنة، لأسباب تسمى "سياسية"، فيما أعتقد أنه الحقيقة، مثل أن كتابتي الخطيرة قد تأتي بنتائج وخيمة على "الشعب السوداني" في هذي أيام هبته ضد نظام الإنقاذ، أو أن كتابتي الانتقادية ستطيل من عمر الإنقاذ، أو أنها ستثبط الهمة في مقاومة الإسلاميين، أو أن البعض سيحسبني بمثل هذي كتابتي أعمل لصالح الإنقاذ إن أنا تعرضت لما أعتقد، لأسباب قوية لها أساس مادي في الوقائع، أنه ممارسة احتيال على الهبة الشبابية الأولية وعلى جموع الشعب السوداني التي تتحدث قيادة تجمع المهنيين باسمها.

وإن كانت لتجمع المهنيين مصداقية حقيقية أساسها في صدقية قيادتها، فلن يؤثر فيها مقال أكتبه وأنا في المنفى الإجباري بعيدا عن موقع الأحداث في السودان، حيث أعيش في مدينة سياتيل البعيدة في أمريكا.

وكذا بوسع قيادة تجمع المهنيين أن تدحض ما أدعيه، وأن توضح ملابسات ما أسميه تزويرا، وما قد تسميه هي بالطريقة التي تراها.

وللجمهور السوداني أن يفصل في الأمر، كذلك بالطريقة التي يراها.

 

التزوير في فيديو "إعلان الحرية والتغيير"

فأقدم في هذا المقال خلاصة ما توصلت إليه، بالقراءة المتمعِّنة في كامل خطاب تجمع المهنيين السودانيين، وبالتحديد بعد إجرائي تحقيقا في مدى صدقية نص "إعلان الحرية والتغيير" في الفيديو المنشور في موقع تجمع المهنيين السودانيين في الفيسبوك، وفي رابط نشرته سودانايل، بتاريخ 31 ديسمبر 2018/1 يناير 2019.

https://www.facebook.com/SdnProAssociation/videos/292191584770732/

أركز بالتفصيل على هذا الفيديو، بالتحديد، الفيديو بالتحديد، وأعتمد النص المكتوب من أدلة الإثبات الخارجية على الفيديو.

إذ تَبين لي أن هذا الفيديو جرى فيه تزوير خطير ذو دلالات سياسية. ولا يكون التزوير إلا متعمدا، وإلا لسبب ذي أهمية للمُزَوِّر.

وتمثل التزوير الذي أدعيه في حذف هذا النص المحدد: "اولاً: التنحي الفوري للبشير"، من الفقرة الكاملة في إعلان الحرية والتغيير التي كان أصلا جاء فيها: "أولاً، التنحي الفوري للبشير ونظامه من حكم البلاد دون قيد أو شرط."   (الدقيقة 3:50)

وباختصار، فقد مسحت قيادة تجمع المهنيين السودانيين من الفيديو الجزء الأهم من الهدف الأول، وهو الجزء الخاص بلزوم تنحي عمر البشير ذاته، وليس تنحي نظامه فقط.

فالفيديو يتحدث عن نفسه ليقول إنه قراءة صحيحة لنص مكتوب تتم القراءة منه، هو نص "إعلان التحرير والتغيير".

فبعد أن اكتملت في الفيديو القراءةُ صحيحةً من النص المكتوب، تدخَّل المُزورُ ليمسح من النص تلك العبارة المحورية التي أشرت إليها: "أولا، التنحي الفوري للبشير"، وهي كانت أهم عبارة في الإعلان، في الهدف الأول، وشعارا في المظاهرتين بقيادة التجمع.

 

تعريف التزوير

أُعَرِّفُ "التزوير" بأنه إدخال تغيير في مستندٍ، هنا نص الفيديو المسموع، بحيث يكذب المستند عن نفسه، مدعيا ما هو غير صحيح عن ذاته المنشورة.

وأنظر إلى التزوير على أنه فعل الانحراف من معايير الصدقية والأمانة والأخلاقية، وكذا من المعايير القانونية. وهذا "الانحراف" من مكونات مفهوم "الاحتيال"، فالتزوير ضرب من ضروب الاحتيال. ومن مكونات الاحتيال مفهوما "الخداع" و"التدليس".

وأعتمد التزوير هنا في هذا الفيديو من أفعال منظومة "الخداع"، في معية الكذب، والغش، وفبركة الوقائع، أو طمسها، أو تشويهها، أو إخفائها.

ويتداخل التزوير مع مفهوم "التدليس"، من حيث إن المزور يجتهد لإخفاء معالم فعلته التي يدرك أنها احتيالية وغير أخلاقية، ويتم التدليس بأفعال المغالطة، والإنكار، والتصنع، وتصعير الخد، وتكثير النضم، وبث الهراء.

ولا يحدث التزوير إلا قصدا، بنية شريرة تدفع اليد الشريرة للمزور. وكذا لا يحدث التزوير ذو الشأن كفعل احتيالي إلا في سياق اتفاق جنائي مع آخرين، وحين يتم كشف التزوير يسعى المزور إلى التغطية على جريمته بشتى الوسائل، لكنه يفشل.

 

التعامل مع السياسيين بالصرامة اللازمة

نقطتي هي أنا إذا كنا حقيقة نريد سودانا غير سودان الإنقاذ الإسلامي، سيتعين علينا أن نتعامل مع أي شكل من أشكال الاحتيال، ومهما بدا صغيرا أو هامشيا، بالصرامة اللزومية، وألا نندرج في التبرير بالمغالطة وكأنا إسلاميون ومن ذات طينة الإسلامي الثابت لنا احتياله.

عليه، يصبح الموضوع الأساس هنا هو إخضاع قيادة تجمع المهنيين لذات المعايير الصارمة التي ننتقد بها الإسلاميين، فيما يتعلق بالمصداقية، وربما نتشدد أكثر مع غير الإسلاميين.

ومن ثم، لا أترك قيادة تجمع المهنيين تفلت من المحاسبية، قبل أن تقدم التوضيح، وتشرح السبب الحقيقي الذي جعلها تنفذ هذا التزوير المخادع، وأن تعتذر عنه صراحة، وأن تَعِد الشباب أنها من الآن وصاعدا لن تكذب ولن تزور ولن تتصنع.

فهذا هو السودان الوحيد، بهذي خصائص المحاسبية المعتمِدة للأخلاقية والمبدئية، الذي يستحق أن يُقدم شاب في مقتبل عمره أو في سن المراهقة حياته ثمنا له.

ولا قيمة لأي تغيير في السودان يقوم على تثبيت ثقافة الخداع والغش والتزوير، أو الضحك على الجماهير الشبابية من وراء ظهرها وفق تفاهمات أو صفقات.

 

كيف تم تنفيذ عملية التزوير

قَبلَ التزوير، كان "إعلان التحرير والتغيير" صدر صحيحا، وهو موقع عليه ومنشور.

بعد ذلك، تم تسجيل شريط فيديو لعضو سكرتارية التجمع يقدم للإعلان، ثم يقرأه من نصه المكتوب، ثم يعلق عليه. وكان التسجيل فيما أرى كاملا وصحيحا.

بعد ذلك تسجيل شريط الفيديو صحيحا، صدر قرار بحذف أهم عبارة فيه، عن "التنحي الفوري لعمر البشير"، ثم تم رفع الفيديو في الموقع الشبكي لتجمع المهنيين ونشره على نطاق واسع. دون أية إشارة إلى الحذف، ودون توضيح لسبب حذف تلك العبارة المحورية، وتصنعت قيادة التجمع أنه لم يحدث أي تغيير في الإعلان، لذا أسميه تزويرا.

جرى تنفيذ عملية التزوير ذاتها في الفيديو على النحو التالي:

أولا، استحضرَ المُزوِّرُ في قيادة تجمع المهنيين نصا سبقيا من الديباجة، وهو: "حتى يتم الخلاص من نظام الإنقاذ الشمولي"، لاستخدام هذا النص في تركيب النص المراد تقديمه مزوَّرا، في فقرة مختلفة.

ثانيا، أجرى المُزوِّرُ قَصَّا رقميا، digital cutting ، باستخدام برنامجٍ لتحرير الفيديو، واستهدف القَصُّ الوحيد هذه العبارة المحورية "أولا: التنحي الفوري للبشير"، ورمي المُزوِّرُ، رميا رقميا أيضا، هذه الجملة المقصوصة في "سلة المهملات" على شاشة برنامج تحرير الفيديو، وعلامة هذه السلة برميل الوساخة المعروف.

(اقرأ من الدقيقة 3:50، في الفيديو، وتابع النص المكتوب، لترى عملية القص واللصق).

ثالثا، ربط المُزوِّرُ العبارةَ المستحضَرة من الديباجة (حتى يتم الخلاص من نظام الإنقاذ الشمولي) مع ما تبقى من النص المستهدف بالقص الرقمي، ذلك بعد قص عبارة "أولا، التنحي الفوري للبشير".

وهكذا أصبحت الفقرة الجديدة، نتاج التزوير، تقرأ على النحو التالي: "حتى يتم الخلاص من نظام الإنقاذ الشمولي ونظامه من حكم البلاد دون قيد أو شرط ".

أي بالشطب النهائي للمطالبة بتنحي البشير، لتصبح المطالبة محصورة في "نظام الإنقاذ الشمولي ونظامه"، ربما نظامه كحكومته وحزبه وبرلمانه، وهو في تقديري من السيناريوهات الممكنة، فعمر البشير لن يقبل تنحيته إطلاقا، بعلة معرفته باشتياق فطومة بنت سودة لزفه إليها في أحضان المحكمة الجنائية الدولية.

ونجد في النص المُزوَّر المرئي والمسموع ركاكةً تفضح التزويرَ ذاته، مثل تكرار "النظام"، وبهدلة معنى الجملة، لكنه كان ثمنا مقبولا لدى قيادة التجمع لإحداث هذا التزوير برِكَّته.

ولأن الأمر فيما يبدو خداع في خداع، لم يكترث المُزوِّرُ كثيرا، متوقعا أن مشاهدي الفيديو لن يلتقطوا هذه الحركة الصغيرة الخبيثة، والمُزْلَقة خلسة في مستند الفيديو.

فهكذا يدور كل احتيال، بمثل هذه الحركات المايكروسكوبية الدقيقة، مما تعلمته من دراستي احتيال القضاة الإسلاميين الفاسدين.

وقد لا يلاحظ مُشاهدُ الفيديو أن المزوِّرَ ترك آثارا إضافية تفضح جرمه، حيث إن صوتَي اللام والياء في نهاية كلمة "الشمولي" لحقهما المقص الرقمي أيضا، وقذف بهما المُزوِّرُ في ذات "سلة المهملات" مع تلك عبارة "أولا التنحي الفوري للبشير".

فبقيت هذه الفعلة الصغيرة عن حذف صوتي اللام والياء، وغير المقصودة بالطبع، فهي كانت بسبب عدم خبرة المُزوِّرُ في أمور التزوير الرقمي، أو لعدم اكتراثه، أو بسبب الإرهاق، فبقيت الحركة الصغيرة دليلا ماديا لإثبات فعل التزوير المقصود، بالطبع مع بينات أخرى مادية وقرائنية. والحركة واضحة بعد الدقيقة 3:50.

وفي جميع الأحوال، يترك المُزوِّرُ آثار فعلته في مسرح جريمته، غصبا عنه. بسبب اللغة.

 

تفسير التزوير

فلأنا لسنا في محكمة من محاكم الإسلاميين حيث تسيطر الحذلقة بخِدع القانون، ولأنا لسنا أغبياء، بل نُعمل الشك في كل شيء، خاصة ونحن نعيش في الدولة الإسلامية القائمة على الكذب والخداع، ولأنا نَتحقق، ونَفهم، ونُفسر،

سأدخلُ في مجال التفسير الاستنتاجي مباشرة، وأترك أغلب تفاصيل عملية التحقيق والإثبات جانبا. فالقارئ قادر على إجراء تحقيقه الخاص في نص الفيديو المنشور ومقارنته مع النص المكتوب لـ "إعلان الحرية والتغيير"، والعملية سهلة، تابع الفيديو مع متابعة النص المكتوب، وركز على النص في الفيديو بعد الدقيقة 3:50 حيث بداية الدخول في فعل التزوير.

ويمكنني تقديم مزيد بينات إضافية لإثبات التزوير في حال نفى قادة تجمع المهنيين وقوع أي تزوير.

والنفي بالهرولة إلى الإنكار والمغالطة هو الاستراتيجية المتسرعة التي يعتمدها كل مُزوِّرٍ يتم القبض عليه متلبسا.

 

 

كيف غيَّرتُ هذا المقال من نسخته الأصلية

كتبت هذا المقال قبل يوم، ثم قررت بعد المشاورة، وبعد ظهور مستجدات مثل برنامج التجمع للمظاهرات القادمة، مراجعة المقال.

فتمخض الأمر عن استنتاج جديد بشأن ما أظل أعتمده تزويرا، رغم المستجدات.

ومفاد الاستنتاج الجديد، لأني سآتي لاحقا لاستنتاجي الأساس، هو أن كتابة "إعلان التحرير والتغيير" عملية دينامية ومتغيرة، وفيها شد وجذب بين الكيانات المختلفة المشارِكة في إعداد البيان.

هنا يصبح سائغا أن يكون "التزوير" الذي أدعيه مجرد نتاج "اتفاق سري"، تم على أساسه مسح الهدف الأول المتعلق بـ "التنحي الفوري للبشير" من نص الفيديو، ربما بقصد مسحه لاحقا من النص المكتوب.

لكن حتى هذا أكثر الاستنتاجات الممكنة كرما، لن يكون كافيا لإعفاء قادة التجمع من إسناد الغش والخداع المتمثلين في الفعل التزويري الثابت إليهم.

وهو يظل تزويرا، بعلة أن قادة التجمع تصنعوا ألا شيء حدث خلف الكواليس، وألا تزوير تم في نص البيان.

وكانت أسوأ أفعال قيادة التجمع مواصلتها بث انطباع مخادع للجماهير، مفاده أن تجمع المهنيين مستمر في المطالبة بالتنحي الفوري للبشير، بينما هم كانوا سبقا في الخفاء اتفقوا فيما بينهم على مسح عبارة "التنحي الفوري للبشير"، منذ اليوم الأول الذي صدر فيه "إعلان التحرير والتغيير".

وكما يقال أحيانا إن أخطر الأشياء، وأكثرها غباء، محاولة التغطية على الفعل المجرم، لا الفعل الأولاني ذاته. فالتغطية تعزز إثبات الجرم وقصده.

عليه، لن يستفيد قادة التجمع من التفسير ذي الكرم والسماح، إلا إذا هم اعترفوا بحدوث التزوير أصلا، واعتذروا عنه، ووعدوا بعدم حدوث أي غش أو خداع في المستقبل، وقبلوا أيضا أن يتم إخضاع أدائهم للمراقبة الداخلية، بطريقة معقولة يمكن لهم تحديدها.

وهذا هو البدأ بإصلاح الذات أولا، قبل الجري وراء إصلاح البلاد.

لا يستفيد قادة التجمع من التفسير ذي الكرم والسماح، لأنهم لم ينفذوا أيا من أعلاه، وبالعكس قرروا ذلك إعمال أمور التغطية على التزوير، بعد أن علموا بأمر هذا المقال.

وكانت التغطية بإبراز مطالبتهم بتنحية عمر البشير في صدر صفحتهم في الفيسبوك.

ومما يجعل أمرهم أكثر تعقيدا هو أنهم لم يزيلوا التزوير من الفيديو، فلربما لم يتمكنوا من إزالة التزوير، أو صعب عليهم إزالة الفيديو بكامله لأنه أصلا انتشر في الأسافير، الآن إلى الأبد.

وربما كان المزوِّر استخدم برنامجا رخيصا لتحرير الفيديو، ليس فيه أداة الاحتفاظ بالنسخة الأصلية الصحيحة، أو الاحتفاظ بالتغييرات في الأصل لردها على أعقابها.

أو هو المزور كان استخدم أداة للتحرير "تُعدم" من الوجود إمكانية إحياء ما كان تم إعدامه وهو عبارة "أولا، التنحي الفوري للبشير"!

 

كلما اقترف السياسي كذبة حتى صغيرة يصح أن نرميه بكل شيء

فألتفت إلى التفسير القوي، المقصود منه التعامل بجدية مع حركات السياسة بدون مبادئ أو أخلاق، مثل اللجوء إلى التزوير وخدع الجماهير في العمل السياسي.

وهنالك مبدأ ثابت يتعين على قادة تجمع المهنيين أن يعوه، وهو: أنه ما أن تقترف خدعة أو كذبة وحيدة، يصح رميك بكل شيء، أي أنه يمكن لنا أن نتصور ماهيتك بمكل ما يخطر لنا، ولا يحكم تصوراتنا إلا طبيعة السياق، والعِرفة، بمعنى الدراية بكيف تدور الأمور.

وهنا أجدني في خانة خطيرة لا أَزْوَرُّ عن الدخول إليها، بسبب أن التزوير ثابت.

فأقول لقادة التجمع إني كنت أرى في النسخة الأولية من المقال أنه لابد أن لجهاز الأمن أو لكيان إسلامي آخر دورا في عملية التزوير،

أي أن الأستاذ ناجي محمد الأصم يرجح بصورة قوية أنه ربما كان يعمل في أو يتعامل مع جهاز الأمن أو مع كيان سياسي إسلامي تمكن من اختراق تجمع المهنيين، عبر ناجي ذاته.

وذلك بالاستناد على إثبات التزوير، ومعناه، دون أن تكون لدي أية بينات أخرى، وهو معنى خطورة الكذب والخداع في العمل السياسي، لأنه سيظل يلاحق السياسي طيلة حياته، وتصبح الكذبة حتى الوحيدة الصغيرة مصنعا لإنتاج أكاذيب كبرى متخيلة، عبر الزمان، بحسبان أن صاحب الكذبة الوحيدة الأولى التي تعرفنا عليها كان كذاب أصلا، ودائما.

….

وهذا الاستنتاج متحدر من الوقائع المادية الثابتة، وهي التزوير الرقمي، ومن الوقائع الظرفية، وهي الدولة الإسلامية المعروف أمرها، أنه لابد صدرت إلى الأستاذ ناجي محمد الأصم، وهو الرئيس الفعلي لما يسمى "تجمع المهنيين السودانيين"، رغم وصفه نفسَه بإبهامِ القولِ المدفون في الفيديو إنه "عضو سكرتارية التجمع"، ولأنه صاحب الفيديو، صدرت إلى ناجي الأصم توجيهات عليا من أحد كيانات الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة/الإنقاذ،

ويمكن أن نذهب إلى أنه يرجح ترجيحا قويا أن هذا الكيان هو جهاز الأمن، ومنه صدرت التوجيهات بتزوير شريط الفيديو، وتحديدا التزوير باستبعاد ذلك النص المحدد في البند الأول من الإعلان، "أولا، التنحي الفوري لعمر البشير" مما أوردتُه أعلاه.

ولم يتم رفع الفيديو إلى صفحة التجمع في الفيسبوك، ونشره على الملأ، إلا بعد تنفيذ ذلك التزوير فيه.

فلا يلومن ناجي وقادة التجمع إلا أنفسهم. ولست ملزما لأي سبب من الأسباب بالتعتيم على ما أراه أمرا خطيرا يتعلق بالشأن العام. بل إن عتمت على الأمر، سأصبح متواطئا مع فعل الخداع للجماهير، خاصة جماهير الشابة التي يمكنها تجاوز هذه الأزمة وتغيير قيادتها.

 

ملاحظات على التزوير

لا أدري ما إذا كان الأستاذ ناجي الأصم شخصيا هو الذي بيديه وفي حاسوبه زوَّر الفيديو بإجراءات التحرير الرقمي، أم كان جهاز الأمن، أو أي كيان إسلامي آخر، هو الذي نفذ هذا التزوير.

المهم هو أن التزوير ثابت ماديا، وكان تزويرا قاصدا وعن علم. وكان تزويرا خطيرا استهدف أهم بند في "إعلان الحرية والتغيير"، التنحي الفوري لعمر البشير.

فلنُثَبِّت دائما أن ناجي الأصم كان سجل الفيديو صحيحا، من نصه الصحيح المكتوب، وهو النص المكتوب الموقَّع عليه من قبل ناجي نفسه نيابة عن التجمع، ومن ثلاثة كيانات أخرى، وهو النص المنشور في صفحة التجمع في الفيسبوك، وفيه "أولا: التنحي الفوري للبشير …".

وما جرت عملية التزوير في شريط الفيديو إلا بعد التسجيل الصحيح بالفيديو، وقد جرت عملية التزوير بمقص رقمي في ذلك برنامج تحرير الفيديو.

ثم نشر ناجي الفيديو مزوَّرا في موقع التجمع في الفيسبوك، وظل يحتفظ بهذا الفيديو المزور بعلمه منشورا على حالة تزويره،

ثم سكت ناجي وتصنع البراءة.

 

الادعاءات المعاكسة الممكنة

سيفشل كل ادعاء بقولٍ إن الأمرَ كان خطأ غير مقصود، أو إنه حدث بالسهو عند قراءة ناجي الأصم "إعلان الحرية والتحرير" من نصه المكتوب.

وكذا يفشل القول إن سقوط النص المحوري، "أولا، التنحي الفوري للبشير"، كان من نوع انقطاعات الفيديو التي تحدث أحيانا لأسباب غير إجرامية.

أو القول إن الفيديو تعرض للتغيير بسبب قرصنة وقعت على صفحة التجمع بالفيسبوك.

ويفشل كل قول من ناجي إنه لم يقرأ نص إعلان الحرية والتغيير عند التصوير بالفيديو، وإنما هو كان فقط يعلق على الإعلان.

فقد درستُ بعنايةٍ جميعَ هذه الاحتمالات وغيرها، وتوصلت إلى يقين أن ناجي محمد الأصم شخصيا، وهو وجهُ التجمعِ ولسانُه، مُستغرَقٌ إلى أذنيه في هذي عملية الغش والخداع والاحتيال على المجموعات الشبابية التي تراصت وشاركت في المظاهرتين الناجحتين.

وهما المظاهرتان اللتان كان ناجي الأصم دعا إليهما من موقعه في رئاسة تجمع المهنيين السودانيين، وهو يُسمِّي نفسه "عضو السكرتارية".

أعرف بالطبع أن أغلبية المشاركين في المظاهرتين اللتين دعا إليهما الأستاذ ناجي الأصم باسم تجمع المهنيين كانوا صادقين. وأن القيادات المخفية، في حال وجودها، قد تكون صادقة أيضا.

فقد كان هنالك في المظاهرات ضرب بالرصاص الحي، وتم جرح العديدين، وقَتلَ القناصةُ الإسلاميون أحد الشباب المتظاهرين. فالمظاهرات ذاتها لم تكن خداعية، ولم تكن لعبة، حتى إذا كان قصد لها أن تكون مجرد خدعة.

علما أن ناجي الأصم قدم في الفيديو بعض الملاحظات على "إعلان الحرية والتغيير" قبل قراءته، ثم قدم تعليقا في الفيديو بعد قراءة الإعلان.

وتوجد عدة بينات تثبت خداع ناجي في هذه أقواله في الفيديو خارج نص الإعلان الذي قرأه ثم زور نصه. وسأعرض لها إن هو أصر على الإنكار بشأن التزوير.

 

الشباب

يظل الأمل الوحيد للسودان معلقا على الشباب، والدليل الأخير هبتهم التي بها زرعوا الخوف في قلوب جميع الإسلاميين، والمثقفين الانتهازيين، والسياسيين المعارضين المحترفين، والحركات المسلحة وبدون سلاح.

وكما قلت، أميِّزُ بين الشباب الفقراء الذين خرجوا في المظاهرات الأولية المحمولة بانفعالات الشوق الفجائي إلى التغيير، وبين تجمع المهنيين السودانيين بطريقته ذات التخطيط السبقي للمظاهرات والإعلان عنها.

لكني أدرك كما يدرك آخرون كثرٌ أن كثيرا من الكيانات الشبابية المنظمة المطالِبة بالتغيير تميل إلى أن تكون مخترقة بواسطة عملاء جهاز الأمن، في قياداتها، وفي عضويتها.

وظل تقديري دائما أنه يلزم الاعتراف بهذه الحقيقة، فقد ظل الإسلاميون في الحكم ثلاثين عاما، واخترقوا حتى أكثر الكيانات سرية وترابطا، في بعض الحركات المسلحة، وطالت قرصنتهم المجال الإسفيري السوداني بكامله.

واستهدف جهاز الأمن الكيانات الشبابية، وهي كانت الأشد استعصاء على الاختراق، بسبب ابتكارية الشباب وإبداعهم وتقنيات مقاومتهم الخلاقة.

ونجح جهاز الأمن في تجنيد عدد من الشباب، وقد كتبتُ في سودانايل عن مثل بعض هؤلاء الشباب المحتالين المؤاجَرين لدى جهاز الأمن، منهم الذين يتسللون إلى الكيانات الشبابية، أو ينشئون كيانات شبابية خصيصا لنصب الشراك للحركيين الشباب، وهؤلاء الشباب المؤاجرون يفعلون كل ذلك من مواقعهم في جهاز الأمن، أو بتعاونهم مع جهاز الأمن، أو هم ينشئون كياناتهم في البداية صادقين فيأتيهم جهاز الأمن بالهدايا، والبقية معروفة، أو هم أصلا ضباط في جهاز الأمن يتصنعون أنهم معارضون، فقط مشكلتهم فيما يقولون تتلخص في اعتراضهم على "الإسلام السياسي"، أو في حرصهم على مصير السودان.

ومع ذلك، لم يسعف هذا الاستثمار أصحابه في النظام، فقد فشل ذبابهم الالكتروني في إنقاذهم من الضربة الفجائية التي وجهها لهم الشباب، وواضحة الآن محدودية نواتج هذا الاستثمار وفشله.

وبالرغم من هذا فشل الاستثمار، نظل نشهد أمثلة متعددة لهؤلاء الشباب المحتالين في عدد كبير من مواقع في اليوتيوب والفيسبوك والواتساب، ولهم جماهير، ومنهم من يتجرأ ويكتب في سودانايل ذاتها، متصنعا أنه غير ما هو –بينما هي ليس إلا ضابطا مكاتبا لدى جهاز الأمن، موقعه في سلاح الكتابة.

في غبائهم، يحسب هؤلاء الضباط في سلاح الكتابة أنا لا نعرف حقيقتهم، بينما نحن نعرفها بمجرد قراءة ما يكتبون، أو ما يقولونه بالأوديو أو ما ينشرونه بالفيديو.

وأحيانا يتوهمون أنا ربما نسينا، فقط لأنهم وجدونا في هيئة تفاؤلية نعتمد اللطف معهم، وقد نضاحكهم، وقد نتظاهر بالسذاجة.

مساكين، في قلة درايتهم لا يدركون أن حقيقتهم مفضوحة في لغتهم ذاتها، والنص الكاذب يتحدث دائما عن نفسه، بالكذب.

فاستثمار جهاز الأمن في هذه النوعية من الشباب فشل في تحقيق أي عائد، وما عاد أحد يكترث لتجسس جهاز الأمن عليه، فما يفعل جهاز الأمن بالبيانات التي لم توفر للإسلاميين أية حماية فاضطروا إلى الفرار وتهريب أسرهم إلى الخارج؟

 

كيف تكتشف الاحتيال بالكتابة

ولكي تكتشف مثل هذي الاعيب جهاز الأمن المتمثلة في الشباب ضباط سلاح الكتابة، وهم بالطبع أقلية ديمغرافية، فأنت لا تحتاج لمصدر عميق في جهاز الأمن ذاته، من نوع مصادر فتحي الضو، المزعومة، وقد كتبتُ في سودانايل عن مصادر فتحي الضو، وشككت بالبينات وبالحجة القوية في أقواله عن مصادره بشأن الوثيقة السرية، فلم يَرُد فتحي الضو، سكت عمل ما سامع، مما يقوي صحة ادعائي ضده.

فالكاتب الصادق موضوع التشكك في مصداقية كتابته، أو المتهم في شرفه الكتابي، والكتابة ذات شرف، يرد بقوة، مباشرة. وإذا كان صادقا أصلا يمكنه إثبات عدم مصداقية من يتهمه.

لكن ليست قوة الرد بطق الحنك، مثلما فعل خالد موسى حين كشفتُ تزويره لمقال الإيكونيميست، إذ لا تكون قوة الرد إلا بالبينات السليمة المعاكِسة وبالحجة السديدة المعاكِسة.

ولا أنت تحتاج لمصادر الشاب مصعب الضي بشارة، المضحِكة، وسيلته الترويج التهريجي لخدع شتى، مثل أن حميدتي في الطريق سينقذنا من الإنقاذ، ومثل أن في الجيش ضباطا من رتبة عميد وما فوق ليسوا إسلاميين ويعملون الآن للإطاحة بالبشير، وكله كذب شبابي، فبعض الشباب يكذبون بوقاح.

يكفي أيها الشاب أن تجلس في هدوء، وأن تشرع في عملية استشعار لالتقاط علامات الخداع باللغة.

وتذكَّر أن ألاعيب جهاز الأمن تأتيك مزدوجة وملخبطة فيها تناقضات، لتخدعك، ويلعب الجهاز على أوتار ما سيظهر لك "استحالة وقائعية" إن أنت حسِبت أن هذا الكيان أو ذاك الكيان قيادته مخترقة.

إذ سيضحك الناس عليك إن قلت مثل هذا الكلام عن بعض الكيانات ذات المصداقية الظاهرية، و"المؤمن عليه بالظاهر"، سيقولون لك.

لكن، لا تنس أنك، كإنسان، تتميز بالطيبة الأولية، ومن ثم لديك قابلية فطرية مرسومة في الدماغ لتصديق الأكاذيب من كل نوع.

وأنت كبشر لستَ مُركبا بهذا دماغك لاكتشاف الخداع الذي يأتيك مُغلفا في الظواهر تقاربك من كل صوب، أحيانا من أقرب الأقربين.

لكن، بالتفكر والتأمل، وبالتفكيك، وبالفلسفة، وهي الحكمة، ستتمكن لاحقا، بعد وقوع الفأس في الرأس، من سبر غور الحقيقة.

واعلم أن الحقيقة لا تأتي إلا وهي مدفونة مخفية في تلافيف اللغة، تحتاج وقتا لاكتشافها. وليس من وقت كاف لديك للاكتشاف، في سياق تدهمك فيه الأحداث المتكثرة، انظر هؤلاء الاثنين وعشرين حزبا والقنبلة الفشنك التي قالوا إنهم فجروها، فأنت ربما ستنشغل بهم، لتعرف في النهاية أنهم من سلالة السياسيين المحترفين، وأن أدمغتهم مسكونة بعدم الأخلاقية.

فيبقى التحدي أمامكم أيها الشباب هو كيفية تطوير فلسلفة حركية "سَبقية" تستشعر وتطور أدواتها لتتصدى للاحتيال الإسلامي في لحظات دورانه، لايف، في آنية زمانيته.

وذلك دون أن تقعوا في البارانويا فتهلوسون بهذا الكيان الغبي المترهل، جهاز الأمن الإسلامي، وقد عرفتم قصته الكاملة، يخاف من حاجة اسمها "الشباب"، كخوفِه من الموت.

 

"الغافل من ظن الأشياءَ هي الأشياء"

وأنت الآن، أيها الشاب، تحتاج إدراك المعاني العميقة في شعر الفيتوري وأن تتفكر وتتأمل فيها: "الغافل من ظن الأشياءَ هي الأشياء".

ويتعين أن تكون لديك تلك نظرية تفسير الاحتيال التي بينتُها لك في مكوناتها الستة: الانحراف من المعايير، الخداع، التدليس، الاتفاق الجنائي، النية والقصد والدوافع، والتغطية على الجريمة.

وكله تجده عند تفكيك مستند الفيديو المزور. ويحتاج الأمر إلى الصبر على تفكيك النص اللغوي في وسائطه المختلفة.

 

اللغة

واعرف أيها الشاب أن كل محتال يحتاج اللغة أداةً ضرورية لاحتياله، لكن المحتال في غروره لا يدرك أن اللغة تُلَغْوِنُ (فلسلفة هايديجر)، أي أن اللغة تتحدث أصالة عن نفسها، بالرغم من أنف المحتال المتحدث بها، أو هو كاتبها مقالات، أو هو محرر الفيديو الذي يَحملُ هذه اللغة حصان طروادة داخل الفيديو الذي زوره.

وبهذي لغونتها، تفضح اللغةُ كلَّ محتال باللغة.

 

ظاهرة الجزولي دفع الله

فخدعة تزوير الفيديو من قبل قيادة تجمع المهنيين السودانيين شكلٌ مستحدث من أشكال جُمَّاع الاحتيال السياسي مما أسس له في الحياة السياسية السودانية الدكتور الجزولي دفع الله، فيمكننا أن نختار أية نقطة في التاريخ على أنها أساس التحليل، حيث لا مصدر أولي نهائي.

وهو الجزولي الذي تجده حتى يومنا هذا مندسا في إحدى إعلانات المثقفين المعلِنة معارضتها للدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة. فقدرة هذا الجزولي على الضحك على الآخرين غير متناهية.

والجزولي، أيها الشباب، هو الإسلامي الطبيب الذي كان تسلل عبر نقابة المهنيين الأطباء إلى احتلال موقع رئيس وزراء الانتفاضة، قبل ميلادكم، في العام 1985.

وما أن انطلت خدعته على الحالمين الواهمين أساتذة جامعة الخرطوم، وعلى سذج النقابيين، حتى ظهر الجزولي دفع الله بألوانه الحقيقية، إسلاميا يمقت شباب الانتفاضة، ويكره أهل جنوب السودان، ويحتقر النوبة، ويزدري زعيمهم جون قرنق.

ومن موقعه في رئاسة الوزراء كان الجزولي دفع الله يستخدم الخداع والكذب في السياسة، وكان خطابه موغلا في عنصريته.

ويُذكر للجزولي استحواذه بمشاعر الخوف العرقي على أعراض النساء المسلمات العربيات المستهدفات، في خياله، من الذكور النوبة والجنوبيين. وهو كان مؤتمِرا لتنفيذ توجيهات الجبهة الإسلامية، جهاز أمنه كرئيس لوزراء الانتفاضة.

وبسبب نجاح تلك خدعة الجزولي دفع الله في تسلله عبر النقابة إلى رئاسة الوزراء، حوَّل الإسلاميون هذه الخدعة إلى عقيدة أمنية، وإلى تكنولوجيا متكاملة للاحتيال على السودانيين، من منصة جهاز الأمن، وفي كامل المؤسسات الإسلامية، بما فيها القضائية الفاسدة.

وعبر الزمن المتطاول، أصبحت الجزوليدَفَعَلِّيَّة متلازمة إسلامية شطنية، وها هي اليوم بين أيدينا تتحرك في أشكال عددا.

في مقالات ستأتي أناقش موضوع "الشباب". وأخلص إلى أنه لا ينقذ السودان إلا القدرةُ على تخيُّل هذا السودان بصورة مختلفة وراديكالية، تخيله ببداية جديدة، لإنشائه وتركيبه "من أول وجديد"، بواسطة الشباب في المقدمة في محل اتخاذ القرار.

وهذا التدخل بالصرامة اللازمة بشأن الأخلاقية والمبدئية في العمل السياسي مرتبط بشروط إمكانية هذه "البداية الجديدة".

….

 

عشاري أحمد محمود خليل

سياتيل 3/يناير/2018

[email protected]

 

 

Welcome

Install
×