د. النور حمد: إسلاميو السودان وتجربة الحزب الواحد ..

درجت كثير من الأنظمة الديكتاتورية، على صنع حزبٍ أوحدٍ، تسخِّر له موارد الدولة، لتشرعن به وجودها، وتبرر به سرقتها للسلطة، واحتكارها …

د. النور حمد(ارشيف)

بقلم: د. النور حمد

 

درجت كثير من الأنظمة الديكتاتورية، على صنع حزبٍ أوحدٍ، تسخِّر له موارد الدولة، لتشرعن به وجودها، وتبرر به سرقتها للسلطة، واحتكارها لها. يتّسم هذا النوع من الأحزاب، بأنه بلا أقدامٍ، يقف عليها، وبلا صوت، سوى صوت من صنعه. فهو لا يؤدي سوى ما يؤديه الديكور، في أيِّ مسرح. والذين يلتحقون، بهذا النوع من الأحزاب، خاصةً الذين يحتلون فيها المواقع القيادية، هم قنّاصو الفرص، الذين يسعون إلى الحصول على السلطة، والجاه، والثروة، بأسهل الطرق. وعادة ما تتضح لا جدوى هذا النوع من الأحزاب، في وقت الأزمات الخانقة. وقد عرفتْ كثيرٌ من أقطار العالم النامي، هذا النوع من الأحزاب، ومن بينها الدول العربية. وقد كانت مصر الناصرية، هي صاحبة الأنموذج، الأم، لهذا النمط من الأحزاب، الذي استند، من حيث البنية المفاهيمية، والهيكل التنظيمي، على الرؤية الماركسية، اللينينية، للحزب الثوري. وسارت عددٌ من الدول العربية، ذات التوجه اليساري، على درب مصر، في هذا المنحى، وهي: سوريا، والعراق، وليبيا، والسودان، والجزائر، واليمن، والصومال.

يلجأ الدكتاتور، خاصة الإديولوج، إلى صناعة حزبٍ يضفي به الشرعية على حكمه، وهذا هو ما حدث في السودان. فاستنادًا على الاعتقاد في أن الوصول إلى السلطة، هو مفتاح كل شيء، وفقًا لقاعدة: "إن الله ليزع بالسلطان، ما لا يزع بالقرآن"، وثب اسلاميو السودان إلى السلطة، بالانقلاب العسكري، ثم أنشأوا، عقب ذلك، الحزب، الذي شرعنوا به الشمولية. وتنذر تجربة إسلاميي السودان التي بلغت ثلاثين عامًا، دون أن تفضي إلى تحول ديمقراطي، إلى خطرٍ داهمٍ، مصدره فلسفة الحكم، والقناعات القاعدية، لدى جماعات الإسلام السياسي، المناقضة، أصلا، لمبادئ الحرية والديمقراطية. يدعم، هذا التخوف، أن طروحات جماعة الإسلام السياسي، وتجاربهم في الحكم، لم تعكس جهدًا نقديًا فارقًا، تجاه أطروحات الآباء المؤسسين. ولم تعكس لدى الممارسة، توجهًا ديمقراطيًا، أصيلاً، صادقًا، وصريحًا. فانشغالهم بالوصول إلى السلطة، وإبقاءها في أيديهم، بقوة الحديد والنار، وبمختلف أساليب تزييف إرادة الشعب، لا يزال أوضح، بكثيرٍ جدًا، من إيمانهم بالحرية، وبالتحول الديموقراطي، وبالإيمان بالتنوع، وترك المجال العام مفتوحًا للنظر العقلي، وللطاقات المجتمعية لتتشكل، وفق إرادتها الحرة.

أنفق الإسلاميون في السودان، على حزبهم، "المؤتمر الوطني"، في العقود الثلاثة الماضية، مئات المليارات من الجنيهات. لكن، حينما بلغت أزمة النظام، في السودان، أحرج منعطفاتها، أثبت هذا الحزب، أنه لا يختلف في قلة الفاعلية، عن حزب الرئيس الأسبق جعفر نميري. لذلك لا غرابة، أن أدار الرئيس البشير ظهره له، ليعود، إلى حضن العسكر، الذي انطلق منه، قبل ثلاثين عاما. فوَّض الرئيس البشير، في خطابه الأخير، سلطاته، في حزب المؤتمر الوطني، لوالي شمال كردفان السابق، أحمد هارون، المطلوب، هو الآخر، للمحكمة الجنائية الدولية، وقال البشير، إنه سيقف على مسافةٍ واحدةٍ من الجميع. وليس واضحًا، حتى الآن، ما الذي سوف يفعله أحمد هارون بهذا الحزب، بعد أن تركه البشير، واحتمى من العاصفة الهابة عليه، بالجيش. كما ليس واضحًا، أيضًا، ما الذي سيفعله الرئيس البشير، نفسه، وهو يقف على مسافة واحدة، من الجميع، كما زعم.

لا تنحصر علل الحزب الواحد، في عدم نفعه، ساعة الجد، وحسب، وإنما تتعدى ذلك، إلى إضراره بمجمل بنية الدولة، وبكامل المجال العام. فعبر شبكته التي تتغلغل إلى الجذور، عن طريق تقديم المال، ومختلف الإغراءات، والفرص، تتشكل مختلف البنيات القاعدية؛ من الحكم المحلي، واللّجان الشعبية، والمنظمات الحزبية، والحكومية، والنقابات المصنوعة، وشبكات المصالح، المعقدة، المترابطة، المتغلغلة عبر هذه التكوينات. في ظل هذا النمط من التنظيم يصبح الفسادَ ممارسةً يومية، تنتظم كل شيء؛ من قمة هرم الحكم إلى أصغر التشعبات الإدارية، القاعدية، في الأقاليم، والأرياف. ويتحول العمل الإداري في أجهزة الدولة، من قمته، إلى قاعدته، إلى مجرد تنافسٍ على الفرص المختلفة؛ في المال، والأراضي، والعقار، وغيرها.

أيضًا تزداد، في مثل هذا النظام، أساليب اختلاس المال العام، وتتنوع أساليب فرض الإتاوات على المواطنين. ويصبح الفساد سرطانًا ينهش كامل جسد الدولة، غذ يصبح فعلاً مؤسسيًا، محميًّا من السلطة، وأجهزتها، من قمتها إلى قاعدتها. فالسلطة، بمجملها، تصبح كتلةً، واحدةً، لا فصل فيها، بين سلطة سيادية، وتشريعية، وتنفيذية، وقضائية. كتلة فالفساد والإفساد، المتحكمة في هذا النظام الكليبتوقراطي، تصبح مانعًا لكل جهود الإصلاح، من قاعدة الهرم، إلى قمته. وهكذا يصبح النظام بقوانينه، وخدمته المدنية، وأجهزة حكمه المحلية، بل، وبجهازه العدلي، واقفًا في مواجهة غالبية الشعب. ولا يبقى أمام الشعب، سوى أن يترك له البلاد، أو يقبل بالموت البطيء، على يديه، أو أن يثور عليه، أو أن يتحالف ضده، مع عسكرٍ جدد، مثلما حدث في مصر.

ما يجعل تجربة الحزب الواحد، في السودان، أكثر سوءًا، من مثيلاتها، أنها جرت باسم الدين. فقد أنام التخدير بالدين العقول، وأذاب الضوابط والكوابح المؤسسية. كما أن الاتساع الكبير، لدائرة النشاطات الاقتصادية الطفيلية، التي دشنها الإسلاميون في السودان، منذ سبعينات القرن الماضي، حين تصالحوا مع الرئيس جعفر نميري، والتي أكملوها، بعد انفرادهم بالسلطة، بما أسموه، "التمكين"، خلق واقعًا اجتماعيًا، جديدا. لم يعد الارتباط العضوي بالسلطة الفاسدة، والحرص على استدامة الأوضاع السيئة، القائمة، منحصرًا في دائرة الطبقة السياسية، ومن هم حولها. وإنما تعدى هذه الفئات، ليشمل قطاعًا واسعًا، من الجمهور غير المسيَّس، الذي أصبح منتفعًا من مناخ الأزمات المعيشية المتتالية، المتصاعدة، ومن الانهيارات الاقتصادية المتتابعة، ومن استشراء الفساد، في كل مرفق، من مرافق الدولة، ومن انقلاب الهرم الاجتماعي، رأسًا على عقب. ولربما يفسِّر ذلك، بصورةٍ جزئية، نقص القابلية للثورة، وبطء الاستجابة لها، وسط القطاع الأعرض من الجمهور السوداني، مما نراه حادثًا الآن.

تمر ثورات الربيع العربي، التي نشط بركانها، الآن، بعد أن خمد، لبضع سنوات، بمرحلةٍ جديدة. فالحراك الجاري، حاليًا، في السودان، وما تبعه مؤخرًا من حراكٍ مماثلٍ في الجزائر، يمثلان بداية لموجةٍ ثانيةٍ، نرجو أن تكون قد وعت دروس الموجة الأولى. فالخوف بأن تلقى هذه الموجة الثانية، ذات المصير، الذي لقيته الموجة الأولى، لا يزال قائمًا، رغم تضاؤل فرص التدخل العسكري الخارجي، الذي سبق أن جرى في سوريا وليبيا، واليمن. من الأخطار القائمة الآن، أن كل بوق من الأبواق الإعلامية، العربية الكبرى، أخذ يعمل لجر الثورات إلى جهته. وتقف من وراء هذه الأبواق، الاستراتيجيات الدولية المختلفة، في الإقليم. يضاف إلى ذلك، أن قوى التغيير داخل أقطار الموجة الثانية، ليست بالقوة، والدربة، والوحدة الكافية. كما أن قوى اللَّبرلة، وقوى اليسار العريض، أصبحت، إلى حدٍّ كبيرٍ، ظواهر صوتية.

أما في السودان، تحديدا، فإننا نجد أن جماعة الإسلام السياسي، بفصائلها، إضافةً إلى الأحزاب الطائفية، لم تُنجز من المراجعات الصادقة ما يجعل الشعوب تثق أن الثورات ستفضي، في هذه المرحلة، إلى وضع الأرجل على طريق تحوِّلٍ ديمقراطي، حقيقي. الشاهد، أن مجمل أوضاع الخريطة السياسية في السودان، وخاصةً تجربة حكم الإسلاميين فيه، لثلاثين عامًا، التي أعادت الأمور، إلى مربع العسكر، من جديد، جديرةٌ بتأمل جميع الأطراف، داخل السودان، وخارجه.

[email protected]

Welcome

Install
×