د. الشفيع خضر سعيد: تحديات أمام ثورة السودان ..

بعد أربعة أشهر من الفعل الثوري المستمر، والمتصاعد والمتنوع، إنتصرت غضبة «الهبباي» في ملحمة تاريخية سُطرت وعُبدت بأرواح الشهداء، وبصمود …

د. الشفيع خضر

بقلم: الشفيع خضر سعيد

بعد أربعة أشهر من الفعل الثوري المستمر، والمتصاعد والمتنوع، إنتصرت غضبة «الهبباي» في ملحمة تاريخية سُطرت وعُبدت بأرواح الشهداء، وبصمود الجماهير وإعتصامها ليل نهار في شوارع مدن السودان، وبإنحياز الجيش السوداني للشارع وخيار الإنتفاضة. لم يأت الإنتصار بغتة أو من فراغ، وإنما جاء ثمرة لتراكم الفعل النضالي المعارض خلال ثلاثة عقود، تناثر خلالها رذاذ الدم في أقبية التعذيب وساحات الحرب الأهلية، وضاقت السجون ومعتقلات بيوت الأشباح بالآلاف من الشرفاء، وشهد السودان، لأول مرة في تاريخه، الخروج الكبير إلى المنافي بحثا عن الأمن والأمان، وأصابت الناس وجعة إنقسام البلاد إلى شطرين، وكل ذلك بسبب طغيان وإستبداد غير مسبوقين في تاريخ السودان الحديث، فرضهما مجرمو الإنقاذ وهم في القيادة يدمرون هذا البلد الأمين حتى أُقتلعوا تصحبهم اللعنات ودعوات الهلاك. فالمجد لهذا الشعب، والخلود لشهدائه، والتحية لصمود قواه السياسية والمدنية، والإنحناءة إجلالا لتجمع المهنيين السودانيين، فهولاء جميعا جعلوا هذا الإنتصار ممكنا.
وملحمة إنتصار غضبة «الهبباي» لا يقتصر إلهامها وتأثيرها على المبدعين وحدهم لتصويرها فنا وشعرا ونثرا، وإنما تمتلك شحنة ثورية بمقدورها أن تفجّر في الإنسان العادي مبدعا ورساما بالريشة والكلمات والموسيقى. ولكن، نحن هنا لسنا بصدد الإسترسال، سباحة في بحر هذه الملحمة، العذبة مياهه، فهناك من يجيد ذلك أكثر منا، كما أن الأولوية القصوى الآن، في نظرنا، هي كيفية تأكيد إنتصار الغضبة والسير به قدما حتى يُلبي طموحات وأمنيات الشعب السوداني في الحرية والسلام والعدالة.
رغم الفرحة بالانتصار، فإننا نراه هشا وجزئيا، نجح فقط في إزالة أحد مستويات الغطاء السياسي لنظام الإنقاذ، بينما المُغطى لا يزال باقيا، مؤسسات وقوانين وشخوص، وفي استطاعته إعادة إنتاج نفسه بغطاء سياسي جديد خادع.
نحن لا نقلل من حجم الإنتصار الباهر الذي إقتلع من كان يدعي أنه زُرع في أرض السودان ليبقى حتى يوم القيامة، وإنما ندعو للحذر واليقظة وضرورة تجسيدهما في فترة إنتقالية وتدابير إنتقالية، بعيدة عن المحاصصات، يقاس نجاها بتنفيذ مهام جوهرية، تنتقل بالإنتصار الجزئي والهش إلى مواقع الرسوخ ومنصة تأسيس الدولة السودانية الحديثة. وفي مقدمة هذه التدابير الإنتقالية:
1 ـ تصفية دولة تحالف الفساد والإستبداد، مؤسسات وقوانين، وإبعاد كل قياداتها من مواقع المسؤولية، ومحاسبة كل من إرتكب جرما في حق الوطن والمواطن، وذلك وفق القانون بعيدا عن التشفي وروح الإنتقام 2 ـ وضع قضية وقف الحرب الأهلية في أول سلم الأولويات. 3 ـ التعامل مع قضية المفصولين سياسيا وللصالح العام من الخدمة المدنية والعسكرية، كأولوية قصوى. 4 ـ تنفيذ كل التدابير التي تحقق قومية أجهزة الدولة وإستعادتها من براثن حزب المؤتمر الوطني. 5 ـ العدالة الإنتقالية. 6 ـ تأسيس وإرساء أسس ودعائم الحكم الملائم الذي يحقق اقتساما عادلا للسلطة بين مختلف المكونات القومية والجهوية في السودان، ويحقق ممارسة سياسية معافاة في ظل نظام ديمقراطي تعددي.
7- تنفيذ برنامج إقتصادي إسعافي لرفع المعاناة عن كاهل المواطن، ووضع لبنات مشروع إقتصادي تنموي لإنقاذ البلاد من الإنهيار الإقتصادي، مع التركيز على البرامج التي تحقق رفع الإجحاف والإهمال عن المناطق المهمشة، مع إعطاء أسبقية لمناطق التوتر العرقي والقومي والاجتماعي. 8- التوافق، بين كل مكونات الطيف السياسي، على الثوابت الواجب تضمينها في الدستور الدائم. 9- العمل على إستعادة توازن علاقات السودان الخارجية.
إن النجاح في تنفيذ هذه المهام الإنتقالية الجوهرية، هو صمام الأمان لتحقيق وتأكيد إنتصار غضبة «الهبباي» كما يضمن تحقيق السلام والحفاظ على وحدة البلاد، بينما الفشل هو أساس الحرب الأهلية وتفتت الوطن. ومشروع قوى الإنتفاضة المنتصرة إذا لم يضع هذه الرؤية نصب عينيه، سيظل مجرد وهم يحرث في البحر، وسينتكس بأجندة التغيير ويخون أرواح الشهداء ويهزم هتافات الشباب في ليالي الاعتصام ونهاراته القائظة. ولضمان النجاح والإنتصار، ومن وحي الواقع الموضوعي وتوازنات القوى الراهن، ندعو للنظر بعين الإعتبار للإقتراح التالي المتعلق بكيفية التعامل مع الحالة الراهنة في جانبها الإجرائي:
نعلن أن الفترة الحالية هي فترة إعدادية، ما قبل الإنتقالية، ومدتها ستة شهور فقط، يقودها المجلس العسكري الإنتقالي ومجلس وزراء مدني مكون من شخصيات مشهود لها بالكفاءة، بعيدا عن المحاصصات السياسية والحزبية والجهوية، ومجمع عليه من قبل القوى السياسية وتجمع المهنيين السودانيين. وتنحصر مهام الفترة ما قبل الإنتقالية في حفظ الأمن وتأكيد وقف إطلاق النار والشروع في الإتصال مع المعارضة المسلحة، وإلغاء كل القوانين المقيدة للحريات، والتحفظ على قادة الإنقاذ ومراجعة وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة عبر تشكيل مفوضيات مختصة، ومراجعة الدستور الإنتقالي الحالي، والتأسيس للفترة التالية، الفترة الإنتقالية المكملة، وفق برنامج مقترح للإجماع الوطني، وغير ذلك من المهام العاجلة والضرورية، مع إستمرارية التشاور والتنسيق مع قيادات تحالف الحرية والتغيير والمكونات السياسية والمدنية الأخرى.
يلي ذلك مباشرة فترة انتقالية تكميلية، مدتها ثلاث سنوات ونصف، يقودها مجلس سيادي مدني يتم إختياره، بالتشاور والتوافق خلال الفترة ما قبل الإنتقالية، من قبل شخصيات وطنية مجمع عليها، ويراعي فيه الإتجاهات السياسية والجهوية المختلفة، مع وجود ممثل للقوات النظامية، ومجلس وزراء مدني مكون من شخصيات مشهود لها بالكفاءة، بعيدا عن المحاصصات السياسية والحزبية والجهوية، ومجمع عليه من قبل القوى السياسية وتجمع المهنيين السودانيين. خلال هذه الفترة، يستكمل تنفيذ المهام المتعلقة بتصفية نظام الإنقاذ والتأسيس للنظام الديمقراطي التعددي وتحقيق السلام الشامل في البلاد، وإعادة هيكلة الدولة السودانية بما يزيل التهميش والإجحاف ويحقق تطلعات المكونات القومية المختلفة في توازن وتناسق، والشروع في صناعة الدستور الدائم على أساس الإجماع، وإعداد قانون انتخابات مجمع عليه، وإجراء إنتخابات على المستوى المحلي لضمان تدفق الخدمات.
إطلاق مبادرة للمصالحة الوطنية بين كل المكونات والتيارات السياسية والاجتماعية.

نقلا عن القدس العربي
/////////////

 

Welcome

Install
×