د. سعاد مصطفي الحاج موسي: قافلة دارفور الثورية … الأمل والحزن النبيل!! ..

ازدانت شوارع ام درمان والخرطوم يوم 30 أبريل 2019 بقدوم القافلة الثورية لأبناء وبنات دارفور المنطلقة من مدن وقري وفيافي …

د. سعاد مصطفى الحاج موسى(وكالات)

بقلم: الدكتورة سعاد مصطفي الحاج موسي

 

ازدانت شوارع ام درمان والخرطوم يوم 30 أبريل 2019 بقدوم القافلة الثورية لأبناء وبنات دارفور المنطلقة من مدن وقري وفيافي الاقليمالفاشر، نيالا، زالنجي، الضعين، كبكابية، كتم، عديلة، وأُخريات، ومن الجنينة نُمُوْلِي جمهورية السودان التي وصفها أهل الفن تنديا وتطريباً بأنها جدٌ لبعيدة عن مركز السودان ووسطه النيلي. حل اؤلئك الشباب وكأنهم فيوض من نور يسبقهم صدي تغريداتهم الثورية التي قاومت رهق المسافة وغبرة الطريق وقتراته ، وعلي الطرق تواثب وتكاثر المستقبلون منشرحين ومباركين في ود ومودة بينما ارتسمت الدهشة علي وجوه لم تكن لتصدق همساتٍ سبقت بأن موكباً للبشائر يسارع خطاهُ مهرولاً وسط الرمال والحصي توقاً ولهفة، قادمٌ من ربوع دارفور التي تفصلها ما يزيد علي الألف ومائتي كيلو متراً عن مركز الاعتصام، ففغروا فاهاً بينما غمرت الفرحة صدورهم والثناء، آملين في أن يكون عضداً لبنيان الثورة وأن يزيدها بريقاً فتُعَجِّل بغاياتها وصولا. قَدِمَ أُؤلئك الشباب لمناصرة اخوتهم الثوار ولإكمال وربط أطراف الثورة ليفيدوا ويبرهنوا للمجلس العسكري بأنّ السودان الآن قد إلتأم شمله واستحكمت حلقاته الثورية وأنه قد آن للعسكريين أن يترجلوا من علي ظهور العناد ومشاكسة الثورة والثوار.

لسان حال القادمين يقول بأنهم ها هنا مع المعتصمين في الضراء مكافحين وللسراء هم عماد المبادرين والصانعين فهلم بنا نُوْسِع دائرة الإقامة الثورية لنضيف لساحة القيادة كل شوارع العاصمة المثلثة وساحاتها، نزرع بذور الإيمان والأمل وننثر شذاهما علي ميادين الثورة لتخضر خطاوي الغد الجميل الذي أعلن لأهل البطولات والتضحيات الناظرين دنو هبوطه آمناً من سماوات الانقاذيين المكفهرة بغيوم وسحب القهر والبؤس. هلم لنرسلها رسالةَ نُبلٍ وسُموٍ أخلاقي مسطرةً علي عرش وطن نفسه عافت الجُرْم والجريمة والانهزام والهزيمة. رسالتنا مغمورة للثمالة في أشواقنا للحرية والسلام والعدالة ومنبسطة في حبور علي عراض طموحنا وآمالنا الوطنية لتنبه وتوقظ العسكريين الذين هم قد بانوا للناس مجرد استنساخٍ للاسلاميين بما يقولون وما يفعلون. فقد برهن البرهانيون أنهم لا يزالون يتخندقون تحت بقايا حطام قلعة الانقاذ وتعليمات وتعاليم منسوبيها، وكلما حاولوا تنسم هواء الحرية والاستقلالية في تبني صوت الحق والعدالة بما يتماشي مع مطالب الثوار، سرعان ما يجدوا أنفسهم ويجدهم الثوار واقعين تحت براثن الخوف من أسيادهم المتخفيين، فيرتدون علي أعقابهم مترددين متذبذبين لا يلوون علي شئ واضعين أنفسهم في مكان لا يحسدون عليه بل يشفق عليهم منه الثوار علي حتمية مصيره المندثر.

قافلة دارفور هي تذكرة للناس أجمعين بأن الرائد لا يكذب أهله – فهي تذكرنا بتاريخ سلطنة الفور الرائدة والسباقة في ارسال القواقل الخيرية في زمن لا يعرف الناس فيه معني أن تشد الرحال طوعاً وتختبر وتطوي المسافات ركضاً وغوصاً في رمال الصحاري المقفرة، تشق عتمة الأحراش والكواسر تكمن لك في كل فجوةٍ وحفرة، والأعداء من بني البشر يتربصون بك وقد يفاجئوك في هدوء الليل وسكينته بما قد لا يخطر لك علي بال. في ذلك الزمان المحفوف بالمخاطر والمهالك من كل حدب وصوب، تقدمت قوافل دارفور بمحمل الكساء للكعبة وهو تقليد سنوي يعتبر من أهم مظاهر التبجيل والتشريف لبيت الله الحرام. ذلك السلطان الذي بالرغم من التوترات الأمنية وتدهور علاقاته مع جيرانه التي شابت معظم فترة حكمه (1898-1916)، خاصة مع مملكة وداي بغرب المملكة، نجح بإنبهار في حفر آبار علي، تلكم الآبار التي لا تزال الي اليوم قائمةً تسقي الحجيج الذين يظنون بأن علياً هذا هو لابد راجعٌ الي علي بن أبي طالب ولم ينبرِ أحد من حكام المملكة السعودية بتصيح تلكم المعلومة الي يومنا هذا! مبادرة أبناء دارفور هذه والتي أدهشت الضمائر والبصائر والعيون مجموعةً، قصد بها إهالة التراب علي ماضي الوطن القمئ وتبديل كساءه المهترئ والمتقاصر بثوبٍ جديدٍ واسعٍ سعة أرضه ونفوس أهله، يغطي ويضُم جميع أطرافه ومكوناته الإجتماعية والثقافية، يحمل توقيعاتهم وتوقعاتهم، ويرسم ملامحهم البسيطة وهي تضئ بإشراقة الأمل في المستقبل. ذلك يعني ويرمز ويدعو الي اقامة تمثالٍ للحرية والكرامة، تمثالاً يرمزُ للوحدة والعدالة وقوة الارادةِ والتصميم يُنْصَبُ علي ساحات الفداء في كل مدن السودان!

أتي الثوار من دارفور وفي جوفهم عطش شديد الي سودان جديد يحمي كل طفلٍ وطفلة في كل شبرٍ فيه وكل رجلٍ وإمرأة، عطشٌ الي وطنٍ يشعُ حريةً وينضح سلاماً يغمر قراه وحواضره. جاءوا مشاركين ومصافحين لإخوة الوطن وايضاً ليعلنوا لهم بصوت داوٍ بأنهم قد احتملوا من قوافل الحيف والطغيان منذ استقلال السودان ما أرعدت لها السماء وارتجت لها الأرض، وتحولت تلكم القوافل في عهد الانقاذ الي منظومةٍ سحقت انسانيتهم وآدميتهم، لم ينجُ منها انسانٌ ولا حيوان ولا زرع ولا مزرعة، ولا بيت ولا مشفي، ولا سوق ولا مجمع رسمي كان أم شعبيٍ، وأن مجتمعاتهم قد أُذِلَت بالإغتصاب والضرب والطرد من قراهم التي أُحرِقَتْ رجماً ببراميل االمسامير الحارقة فهاموا علي وجوههم خائفين مشردين ونازحين يترصدهم الانقاذيون الاسلاميين في ضراوة وعنف طاغي أينما تولوا لأكثر من عقدٍ من الزمان. مُورِسَت عليهم كل تلكم البشاعة ولم يجدوا تعاطفاً أو عطفاً أو كلمة مواساةٍ ممن يفترض أن يهبوا الي نجدتهم بحكم رباط الوطن الواحد وفطرة الانسانية السليمة. إلاّ إنهم الآن يؤكدون جازمون بأنه بالرغم من ذلك الاحساس المرير وخيبة الأمل في الأخاء الوطني، إلاّ انهم لن يتبنوا الملامةَ إذ يكفي أن حضورهم يسرد قصةً صامتةً لمأساة الوطن والمواطنة تحت حكم النخب والاسلاميين الانقاذيين علي وجه الأخص. وما تطوع به الأخ الاستاذ علاّم في رسالته المسجلة التي بثها علي صفحات التواصل الاجتماعي في بدايات استهلال الثورة، وهو ينتحب إعتذاراً وأسفاً في ملامة لنفسه وللآخرين من أبناء الوطن علي تقصيرهم في حق اخوتهم من أهل دارفور، لهو محاولة صادقة لنفضِ الغبار الذي تراكم فغطّي وغَلّفَ الضمير وأعْلّه، معترفاً بأنهم لم يستدركوا ما مر به أهل دارفور من كمِ العناء والمحن علي يد اسلاميِ الانقاذ، ولم يتعاطفوا معهم قولا ولا فعلا، ولم يهبوا الي نجدتهم ومساندتهم كما كان يفترض أن يقوم به أبناء الوطن الواحد.

وتبعاً لما أقر ّبه الأخ الفاضل علاّم وهو بلا شك محق فيما ذهب اليه، فقد كان لغياب أخوان الوطن أثراً دامياً في نفوس أهل دارفور حيث بحثوا عنهم وقت الحاجة ولم يجدوهم وتركوهم لكلاب الانقاذ تنهش أجسادهم وتمص دماءهم. وأمام ناظري طفلةُ مسجيةً علي بقايا لحافٍ فُرِدَ علي الأرض وقد احترق كامل جسدها بمسامير الإنقاذ الحارقة التي قذفتها طائرات الانتنوف علي قريتهم بعد أن إلتجا الأطفال والنساء والمسنون الي القطاطي تحت الأسِرّةِ ظناً منهم انهم في مأمن من آلة الموت التي برع وتلذذ في استخدامها جنود الانقاذ الاسلامويين، ولكن هيهات. قاست الطفلة، كما الآخرين، آلاماً فوق ما يحتمل جسدها الصغير الهش، وتعذبت لشهورٍ متوالية وهي تغالب النفس باحثةً عن فُرْجَةٍ بين شفتيها المطبقتين تماماً لتخاطب أُمّها المكلومة التي تَرَمّلتْ بفعل قتل الإنقاذ لزوجها، والتي جلست القرصاء علي الأرض بجانب طفلتها ويكاد لا يتبينها الرائي وقد برزت عظامها من شدة الجوع والوهن، وتحجرت مقلتاها من كثرة البكاء والنحيب والشجن. الطفلة تصارع الألم وتبحث عن إبتسامة حبٍ ووفاء لتخفف عن امها ما ارتكبتها أيادي البشير والاسلاميين الآثمة لتقول لها عبرها أن "شكرا يا أُماه، لا تحزني، فليباركك الرب." ولكن تكسرت ابتسامتها الطفولية الملائكية علي شاطئ شهقتها الأخيرة ولعل ملاك الموت نفسه كان حزيناً ورؤوفاً أيضاً وهو ينظر الي تلك الام في حالتها الاحتضارية ومن ثم يتقدم لإسدال الستار علي الجثتين الهامدتين، وليجمع بين الطفلةِ وأُمها علي بُراقِ الرحمة المتجه صوب منصة لقائهما الأبدي بالقرب من ملكوت الرحمن بإذن رب موسي وأخاه هارون.

وهكذا من عمق الأنين جاءت القافلة لتمسح دموع علاّم وآخرين، وليقولوا لهم بأن ليس عليهم جُنْحَة ولا جُناح فيما اقترف الانقاذ ورهطه بالرغم من أن ما أختبروه وما عانوه سيبقي متمترساً في الحنايا والضلوع ما بقي قلبٌ ينبض في ساحات القري وأرياف دارفور الي أن ينتصر صوت العدالة ويُرْهَنْ ويُؤخَذْ كل امرئٍ بما كسبت يداه. وأيضاً هم يقولون للثوار في كل أرجاء الوطن أن تعالوا لنزرع الأرض معا ونفرشها محبة وتصالح، نبني فيها مستقبلاً مُزْهِراً يزهو به الصغار والكبار. لقد رأي أحد الاخوة في القافلة مثلا للتصالح المجتمعي فافترض أن شخصاً قد قد قريباً عزيزاً له فحزن عليه حزنا شديدا ولكن أحد جيرانه قد عمد الي التغافل عنه ولم يذهب ليعزيه في فقده الجلل. وبعد وهلةٍ أقام الجارُ المعني حفل عُرْسٍ بهيج فجاء جاره المكلوم وهو يحمل هداياه مباركاً ومبشرا بالرغم من أنه لم تقدم له الدعوة ولكنه أتي من باب الالتزام بما جُبِلَ عليه من طيب الخلق وحسن المعشر. الأخ يقترح في هذه الحالة علي صاحب العُرْسْ ألّا يعتذر بالقول بل أن يقوم بإحتضان جاره الحزين القلب بشدة ويبكي بحرقة خجلاً من تصرفه وأسفاً علي عدم مبالاته، فالدموع كما يقول تغسل الكثير من الأحزان وتزيح غمائم النفوس. وهكذا تتصالح وتتقارب القلوب.

ولا تزال بوابات الحزن مشرعةً علي مصراعيها في دارفور، فهنالك يرتع صقر قريش، ينكأ الجراح ويفترش الأجساد ولا يريد لسيل الدماء أن يقف رغم تقدم الثورة خطوات في حماية الثوار. فعندما خرج الثوار في مدن دارفور يوم 11 إبريل 2019 للاحتفال عقب الإسقاط الأول للنظام يوم 10 ابريل، قابلهم العسكر بالرصاص الحي فأردي منهم العشرات بين قتيلٍ وجريحٍ وذلك بكل من كتم وزالنجي في الوقت الذي ادّعَي فيه المجلس العسكري وقوفه مع الثورة والتزامه بحماية الثوار وأن قوات الدعم السريع ستكون في حماية الشعب والثورة وسوف لن تتصدي للثوار أو تقوم بقتلهم، وذلك بشهادة قائدهم الفريق حمدان حميدتي أحد أبناء دارفور والهامش! تلكم الحوادث المميتة أيضا لم تجد ما تستحق وسط إعلام قوي الحرية والتغيير والمهنيين ضمن ما ذُكِر من أحداث وقتها! يعلم ذلك القادمون من ربوع دارفور الي ساحة الثورة علم اليقين، ولكنهم آثروا الصمت وقد أضافوها الي خزينة حزنهم النبيل مستمسكين بوجهة هدفهم الوطني ومتجاوزين مشاعر الغبن واللا مبالاة في حقهم وهم يمدون يد المحبة والتسامح ويهتفون بأن كل الوطن دارفور. ولكن سيبقي مطلبُهم أن الدم بالدم مشيرين للعسكر وقوي الحرية والتغيير والمهنيين، ولمن سيولد مباركاً من رحم الثورة، ومشددين ومذكرين ومؤكدين بأن الطلقة ما بتكتل بكتل سكات الزول، وأن أرواح الشهداء في كل بقاع السودان لن تذهب هدراً، وأن الحرية والسلام والعدالة والطمأنينة لن تتم إلاّ بالقصاص العادل من جميع مرتكبي الجرائم ومنتهكي حقوق الانسان علي امتداد أرض الوطن كما تنص القوانين الدولية لمحاربة الجريمة. ذلك هو المطلب الشريف والكريم والعادل، المطلب الركن في حق ضحايا الانقاذ والذي تتسامي النفوس عن التنازل عنه.

ولا نامت اعين الجبناء
وثورة حتي النصر …….
سعاد مصطفي الحاج موسي
[email protected]

Welcome

Install
×