د. سلمان محمد أحمد سلمان: قراءة في اتفاقيات السيد الصادق المهدي مع حكومة الإنقاذ ..

تجدّدَ منذ اندلاع ثورة ديسمبر 2018 المجيدة الجدلُ المطوّلُ حول دور الأحزاب السودانية في دعم نظام الإنقاذ خلال الثلاثين عاماً الماضية. وقد انبرى عددٌ …

د. سلمان محمد أحمد سلمان

د. سلمان محمد أحمد سلمان: قراءة في اتفاقيات السيد الصادق المهدي مع حكومة الإنقاذ ..

1

تجدّدَ منذ اندلاع ثورة ديسمبر 2018 المجيدة الجدلُ المطوّلُ حول دور الأحزاب السودانية في دعم نظام الإنقاذ خلال الثلاثين عاماً الماضية. وقد انبرى عددٌ من القياديين لهذه الأحزاب، كلٌ يشير إلى مواقف حزبه المناهضة للإنقاذ، ويعدّد التحريات والاعتقالات التي شملتْ قيادات حزبه.
وقد ساهم السيد الصادق المهدي بعددٍ كبيرٍ من التصريحات والمقالات التي أورد فيها دوره في معارضة الإنقاذ. ثم نشر السيد الصادق المهدي مقالاً مطولاً يوم الجمعة 17 مايو عام 2019 بعددٍ من الصحف الالكترونية بعنوان "حالنا ومآلنا في السودان … عن الواقع الراهن وقراءة المستقبل." وقد أشار في عدة فقرات من ذلك المقال إلى ما تعرّض له على أيادي رجال أمن الإنقاذ من اعتقالاتٍ وترهيب، ذاكراً "في 2 أكتوبر 1989م أُخذت من سجن كوبر إلى بيت أشباح لأواجه ثلاثة أشخاص باعتبارهم محققين لمحاكمتي محاكمة ميدانية."
وذكر السيد الصادق المهدي أن "كل محاولات المشاركة (في السلطة) قوبلت بالرفض حتى لدى توقيع اتفاقية السلام المسمى شامل." وقد واصلت قيادات حزب الأمة ترديد نفس الادعاء – عدم مشاركة حزب الأمة في سلطة الإنقاذ على الإطلاق.
وتحدّث السيد الصادق المهدي في نفس المقال عن الكتب والمقالات التي كتبها عن السودان تحت نظام الإنقاذ وما تنبأ به من سقوطٍ للإنقاذ، وكيف صحت توقعاته. وواصل في ذلك المقال "ومنذ فترة دعونا لجعل 6 أبريل (إحياء ذكرى الثورة ضد نظام مايو) لموقف ضد النظام."
وواصل السيد الصادق المهدي حديثه عن شرعيته الدستورية بصفته آخر رئيس وزراء منتخب، مضيفاً "بعد هذه المقدمة أدلف لنقاط القراءة للحاضر والمستقبل المتوقع:
بصفتنا حملة الشرعية الدستورية ساهم موقفنا في نزع الشرعية عن النظام."
من أجل المقال كاملاً يمكن مراجعة الربط:
https://www.alrakoba.net/news-action-show-id-320416.htm

2
يُلاحظ أن تصريحات ومقالات السيد الصادق المهدي وقيادات حزب الأمة الآخرين لم تُشِر من قريبٍ أو بعيدٍ إلى الاتفاقيات الثلاثة التي دخل فيها السيد الصادق المهدي مع نظام الإنقاذ. وقد نادتْ هذه الاتفاقيات الثلاثة بالحل السياسي لقضايا السودان، ونبذتْ الثورة (أو الانتفاضة) والعمل المسلح لإسقاط نظام الإنقاذ. كما أن قيادات حزب الأمة ومتعلميه تفادوا تفادياً تاماً مناقشة أو الحديث عن تلك الاتفاقيات ولم يتعرّضوا لها من قريبٍ أو بعيد.
وقد كنتُ أتوقّع أن يعرض السيد الصادق المهدي، في مقاله الذي امتلأ بالنقد والنصح لقيادات ثورة ديسمبر، تجربته من هذه الاتفاقيات لقيادات الثورة بغرض العظة والعبرة منها في تعاملها مع المجلس العسكري، خصوصاً وأن جلَّ المقال كان نصحاً. ومن الضروري أن ينبني النصح على التجربة، وهذا يتطلب بدوره الإفصاح الكامل عن مكونات تلك التجربة، وعن مدى نجاحها أو فشلها، والأسباب لذلك. لكن السيد الصادق المهدي لزم الصمت التام تجاه تلك الاتفاقيات.
وقد رأينا أن نساهم في هذا النقاش بعرض ومناقشة الاتفاقيات الثلاثة بين السيد الصادق المهدي وحكومة الإنقاذ – اتفاق جنيف، واتفاق جيبوتي، واتفاق التراضي الوطني – بغرض التوثيق التام والدقيق والأمين لفترة حكم الإنقاذ. وسوف نثير في هذا المقال مجموعةً من الأسئلة، تشمل:
أولاً: الدوافع والخلفيات لهذه الاتفاقيات، وما تمخّضتْ عنه،
ثانياً: الدور الذي لعبته هذه الاتفاقيات في تقوية أرضية نظام الإنقاذ وإضعاف المعارضة، وفي إعطاء نظام الإنقاذ قدراً، ولو يسير، من الشرعية والزمن،
ثالثاً: دور تلك الاتفاقيات الثلاثة، ومنح وقبول السيد الصادق المهدي لوسام الجمهورية بواسطة الرئيس عمر البشير، في تجريد السيد الصادق المهدي من ادعائه بأنه رئيس الوزراء الشرعي للسودان.

3
كانت قياداتُ التجمّع الوطني الديمقراطي قد فرغتْ من اجتماعٍ تشاوريٍ في أسمرا في التاسع من ديسمبر عام 1996 عندما وصل السيد الصادق المهدي إلى إريتريا قادماً إليها من السودان. كان ذلك الاجتماع هو الأولَ لقيادات التجمع منذ أن أصدر التجمعُ إعلانَ أسمرا – القضايا المصيرية – في شهر يونيو عام 1995. وقد تمَّ في اجتماع اسمرا عام 1995 انتخاب السيد محمد عثمان الميرغني رئيساً للتجمع، والدكتور جون قرنق نائباً للرئيس، والسيد مبارك الفاضل المهدي أميناً عاماً.
كانت رحلة السيد الصادق المهدي لأسمرا في التاسع من ديسمبر عام 1996 هي أول مرةٍ يغادر فيها السيد الصادق المهدي السودان منذ أن أطاح الإسلاميون بحكومته وبمرحلة الحكم المدني الثالثة في السودان في 30 يونيو عام 1989.
صادف وصول السيد الصادق المهدي لمدينة أسمرا تواجد الدكتور جون قرنق هناك، فالتقيا لفترةٍ قصيرة. وقد أكّد السيد الصادق المهدي خلال ذلك اللقاء التزام حزب الأمة بالاتفاقيات التي وقّعها السيدان مبارك الفاضل المهدي وعمر نور الدائم مع الحركة الشعبية نيابةً عن حزب الأمة. وقد فُهِم ذلك الالتزام على أنه إشارةٌ واضحةٌ إلى اتفاقية شقدوم الموقّعة في شهر ديسمبر عام 1994، والتي وافق فيها حزب الأمة على حقِّ تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وأيضاً إلى توقيع حزب الأمة على مقررات أسمرا في يونيو عام 1995، وانتخاب السيد محمد عثمان الميرغني لرئاسة التجمع، والدكتور قرنق نائباً له خلال ذلك الاجتماع.
كان ذلك ثاني لقاء للرجلين – المهدي وقرنق – بعد لقاء أديس أبابا في يوليو عام 1986 الذي دام لحوالي تسع ساعات وانتهى بالفشل التام. لكن اللقاء الثاني الفجائي كان قصيراً، وعلى قصره فقد ساد فيه الصمتُ أكثر من الكلام.

4
بعد أسابيع قليلة من خروجه من السودان التقى السيد الصادق المهدي بالسيد محمد عثمان الميرغني في القاهرة في 31 ديسمبر عام 1996. بات واضحاً بعد ذلك اللقاء أن فصلاً جديداً في تاريخ التجمّع الوطني الديمقراطي، بل والمعارضة لنظام الإنقاذ ككل، قد بدأ على التو، وأن الصراعات القديمة بين السيد الصادق المهدي من جهة، وبين السيد محمد عثمان الميرغني والدكتور جون قرنق من الجهة الأخرى، قد عادت إلى الواجهة، ولكن خارج السودان هذه المرّة.
بدأ السيد الصادق المهدي يشير إلى نفسه بلقب "رئيس الوزراء المُنْتَخب"، وعَقَدَ مؤتمراتٍ صحفية وكَتَبَ مقالاتٍ، وأصدرَ تصريحاتٍ وبياناتٍ تحمل تلك الصفة. ثم بدأ السيد الصادق المهدي جولةً مكوكيةً شملت دولاً عربية وأفريقية وأوروبية تحت مظلة وضعه الدستوري ذاك قبل انقلاب الجبهة القومية الإسلامية في السودان في 30 يونيو عام 1989.
كانت أهم البيانات التي أصدرها السيد الصادق المهدي هي رسالته التي وجّهها إلى القوات المسلحة السودانية في شهر يناير عام 1997، بوصفه رئيس الوزراء المنتخب، وسمّاها نداء الوطن. فقد طالب فيها قيادات الجيش بالانحياز لجانب الشعب والتحرّك للإطاحة بالنظام الفاسد.
وفي مارس عام 1997 أصدر السيد الصادق المهدي نداءه للشباب السوداني، خاصةً شباب حزبه، بالهجرة شرقاً إلى إريتريا لينخرطوا في معسكرات التدريب ويساهموا في مهمة إسقاط النظام، وهو ما عُرِف بـ "نداء الهجرة." ولكن الاستجابة كانت ضعيفةً للغاية للنداء الثاني، بينما لم يعِرْ أحدٌ في القوات المسلحة انتباهاً للنداء الأول.

5
وضح لأعضاء التجمّع وللمراقبين مع بداية عام 1997 أنه قد أصبحت هناك قيادتان للمعارضة خارج السودان، تتنافسان في كل شيء من الإدلاء بالتصريحات الصحفية، وإصدار التوجيهات والنداءات إلى جهاتٍ داخل السودان، واللقاء بالمسئولين الأجانب والتحدّث إليهم باسم المعارضة السودانية. استند السيد محمد عثمان الميرغني والدكتور جون قرنق على شرعية خيار وقرارات أحزاب وتنظيمات المعارضة مجتمعةً، بما فيها حزب الأمة نفسه، في اجتماع أسمرا في يونيو 1995. من الجانب الآخر استند السيد الصادق المهدي على شرعية انتخابه عام 1986 رئيساً للوزراء، وكأنّ لسان حاله يقول "إذا حضر الماء بطل التيمّم."

6
غير أن دعوات وبرامج السيد الصادق المهدي الداعية إلى إسقاط النظام من خلال الثورة أو العمل المسلح سرعان ما تغيّرت وحلَّ مكانها الحديث عن الحل السياسي. من المؤكد أن إهمال القوات المسلحة لندائه، وضعف الاستجابة لنداء الهجرة من أنصاره، كانا من ضمن الأسباب الرئيسية لذلك، رغم أنه حاول أن يعزي ذلك إلى تغييرٍ في نظام الإنقاذ، اثبتتْ الأيام عدم حدوثه.
فقد كتب السيد الصادق المهدي: "في عام 1997م لاحظنا تغيراً في لغة النظام ظهر في قبوله المتأخر بإعلان مبادئ الإيقاد، قبوله بالمواطنة كأساس للحقوق الدستورية، تبنّيه لبعض مقررات أسمرا عام 1995 خاصةً مبدأ تقرير المصير للجنوب، ثم تعيين لجنة قومية للدستور للقيام بكتابة مسودة لدستور يكفل التعددية السياسية. إن توسيع هامش المعارضة السياسية الداخلية، وانكماش فرص العمل العسكري، والمخاوف من أخطار أجندة التدويل الخبيث وخطر البلقنة الداهم، كل ذلك أقنعنا بالتحرك السريع بحثاً عن حلٍ سياسيٍ شامل مهدت له الظروف الجديدة."
وواصل السيد الصادق المهدي سرد الأسباب التي دفعته إلى ذلك التغيير السريع والمفاجئ نحو الحل السياسي، مضيفاً: "لقد رأينا في حزب الأمة، وبدءاً بمايو 1998 والأحداث التي قادت إلى حرب القرن الأفريقي وحرب البحيرات العظمى، أن خارطة إقليمنا الجغسياسي (الجغرافيالسياسي؟) بدأت تتشكّل بصورةٍ جديدة تفتح الباب لتحالفات لم تكن متوقّعة من قبل، وأنذر ذلك حسب تحليلنا بزوال مساحة الدعم العسكري واللوجستي التي كنا نتمتع بها حتى ذلك الوقت." لم يوضّح السيد الصادق المهدي من أين كان يأتي ذلك الدعم، ولماذا توقّف.

7
فجأةً أصبح الحلُّ السياسي، وليس إسقاط نظام الإنقاذ، هو البرنامج الجديد للسيد الصادق المهدي فيما يتعلق بالعلاقة مع حكومة الإنقاذ، وفي زمنٍ وجيزٍ بعد خروج السيد الصادق المهدي من السودان، وبسرعةٍ فائقة.
أما بالنسبة لعلاقة الحزب مع التجمّع الوطني الديمقراطي فقد أوضح السيد الصادق المهدي: "في مارس عام 1997 اقترحنا برنامجاً نفيرياً من عشر نقاط لاستصحاب الإنجازات العسكرية واقترحنا مجموعة عمل لتحقيقه. أقر (التجمّع) برنامج نفيري ولكن دون إقرار مجموعة العمل، والنتيجة: لم يفعل أحد شيئاً. في فبراير 1998 انتقد مؤتمر حزب الأمة الرابع هياكل التجمّع وأداءه. وكتبنا مذكرة موسّعة ساقت إنجازات الماضي وإعاقات الحاضر، واقترحنا برنامجاً إصلاحياً لإعادة هيكلة التنظيم وتوسيعه وتفعيله ولكن بدون جدوى! وبعد عدة محاولات فاشلة لإصلاح التجمّع وتفعيله قرّرنا أن نحرّر أنفسنا من ذلك الموات."

8
كان ذلك "التحرّر من الموات" الذي عناه السيد الصادق المهدي هو اتخاذ ما يراه من القرارات دون الرجوع، أو التقيّد، بقرارات التجمّع الوطني الديمقراطي أو مؤسساته. وقد اكتمل ذلك "التحرّر" مما سماه السيد الصادق المهدي موات التجمع في شهر مايو عام 1999 عندما قرّر حزب الأمة الخروج إلى العلن باتصالاته السرية بحكومة الإنقاذ، والتي شملتْ لقاءً سِرّياً مُطوّلاً في جنيف مع الدكتور غازي العتباني في صيف عام 1998.
فقد التقى السيد الصادق المهدي في الأول والثاني من مايو عام 1999 بالدكتور حسن الترابي، والذي كان حتى ذلك الوقت الحاكم الفعلي والحقيقي والعام للسودان، والوجه الحقيقي لنظام الإنقاذ، في مدينة جنيف في سويسرا. ورغم أن اللقاء دام يومين، إلا أنه لم يصدر أيُّ اتفاقٍ أو بيانٍ مشترك.
أصدر الدكتور عمر نور الدائم، الأمين العام لحزب الأمة، بياناً في الثالث من مايو أكّد فيه اللقاء، وأوضح أن السودان في خطرٍ عظيم، والشعب السوداني يعاني شقاءً لامثيل له، وأن البلاد معرّضةٌ لخطر التمزق والتدويل، مما دفع الحزب إلى البحث عن كل الوسائل وكل الخيارات للأخذ بيد البلاد. أوضح البيان أنه قد جرى حوارٌ صريح أدلى فيه كلٌ من الطرفين برأيه حول القضايا السودانية محل النزاع، وأن نتيجة الحوار السياسي كان العمل للاتفاق على أجندة وآلية بهدف الوصول لاتفاقٍ سياسيٍ سودانيٍ يحسم كافة المسائل الوطنية المتنازع عليها. أشار البيان إلى أن الجانبين التزما بإجراء مشاوراتٍ واسعة لأخذ رأي كل أطراف المعارضة والنظام، واتفقا أن نتيجة تلك المشاورات سوف تحدّد الخطوة التالية.

9
بسبب هذه اللغة الفضفاضة والعموميات فقد اتفق الجميع أن لقاء جنيف كان صفعةً قوية لوحدة التجمّع ولمقررات أسمرا، وانتصاراً كبيراً للإنقاذ التي استطاعت شقَّ صفِّ ووحدة المعارضة وتشتيتها.
كما أن اللقاء مثّل فشلاً ذريعاً للسيد الصادق المهدي الذي لم يخرج من الاجتماع باتفاقٍ مكتوب حتى على هذه العموميات. وقد كرّر السيد الصادق المهدي، وكتب أيضاً، أن اللقاء نتج عنه "اتفاق شفهي في مايو 1999 لعقد مؤتمر جامع يضم النظام والمعارضة لبحث كافة المسائل المتنازع عليها." ولا بُدَّ للقارئ أن يتساءل كيف يمكن لأيِّ سياسيٍ بتجربة السيد الصادق المهدي الاعتماد على اتفاقٍ شفهي؟ ومع من؟ مع الدكتور حسن الترابي الذي خطّط وأشرف على الانقلاب العسكري الذي أطاح بالسيد الصادق المهدي وحكومته؟
كما أن بيان الدكتور عمر نور الدائم وما كتبه السيد الصادق المهدي لم يشيرا من قريبٍ أو بعيد إلى زمان أو مكان أو أجندة المؤتمر الذي تم الاتفاق عليه شفاهةً، ولا إلى من سيحضر ذلك المؤتمر.

10
بالطبع لم ينعقد ذلك المؤتمر على الإطلاق.
غير أن لقاء جنيف هذا قد عبّد الطريق بعد ستة أشهرٍ للقاء السيد الصادق المهدي والرئيس عمر البشير في جيبوتي في 25 نوفمبر عام 1999. رافق السيد الصادق المهدي السيد مبارك الفاضل المهدي، والدكتور صديق بولاد. ورافق الرئيس البشير السادة مصطفى عثمان إسماعيل، ونافع علي نافع، وعبد الباسط سبدرات. وقّع الطرفان في نهاية اليوم الثاني للقاء على اتفاقٍ تمّت تسميته "نداء الوطن" ويُشار إليه أيضاً "باتفاق جيبوتي."
كان اتفاق جيبوتي مليئاً بالعبارات المنتفخة، والكلمات الفضفاضة، والوعود المبهمة. أشار الاتفاق إلى عُدّةِ مبادئ من بينها أن تكون المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات الدستورية، وألّا تنال أيّة مجموعة وطنية امتيازًا بسبب انتمائها الديني أو الثقافي أو العرقي، مع الاعتراف بالتعددية الدينية والثقافية والعرقية في السودان، وأن تُراعى المواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، وتكون مُلْزِمة. كما نصّ الاتفاق على المشاركة العادلة في السلطة بكافة مستوياتها واقتسام عادل للثروة، وإزالة آثار الحرب الأهلية، وبناء الثقة بين أهل السودان بما يفضي للوحدة الطوعية. أشار الاتفاق إلى إكمال هذه الإجراءات في فترةٍ انتقاليةٍ قدرها أربعة أعوام يُسْتفتي جنوب البلاد بحدوده عام 1956 في نهايتها ليختار بين وحدة طوعية بسلطاتٍ لامركزية سيتم الاتفاق عليها، أو الانفصال.
ناشد الطرفان كافة القوى السياسية تأييد ذلك الاتفاق للحل السياسي الشامل والانضمام إليه ودفعه لتحقيق الوحدة والسلام والوفاق. كما ناشد كافة الأشقاء والأصدقاء ودول الجوار دعم وتحقيق الوفاق الوطني السوداني.
وقّع على الاتفاق السيد مبارك الفاضل المهدي الذي كان وقتها أمين العلاقات الخارجية بحزب الأمة، وكان أيضاً الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي، والدكتور مصطفى عثمان إسماعيل وزير الخارجية السوداني. وقد اختُتِم الاتفاق بالشكر لفخامة الرئيس الجيبوتي السيد إسماعيل عمر جيلي على مبادرته الكريمة، وعلى استضافته اللقاء وجهوده المقدرة لإتمام ذاك الوفاق.

11
أهم ما يمكن أن يقال عن اتفاق جيبوتي هو نجاح الإنقاذ في توسيع وتأطير هوّة الانشقاق والانقسامات داخل التجمع، هذه المرة من خلال اتفاقٍ مكتوب وليس اتفاق شفهي، وتأكيد تبنّي السيد الصادق المهدي للحل السياسي ونبذ الثورة أو العمل المسلج للإطاحة بنظام الإنقاذ.
كما لا بُدَّ من إضافة أن اتفاق جيبوتي هو أول اتفاقٍ بين طرفين شماليين يعترف بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. فلا الحركة الشعبية ولا أيّ فصيلٍ من الفصائل المنشقّة عنها كانت طرفاً في ذلك الاتفاق. وقد حدّد الاتفاق الفترة الانتقالية بأربعة أعوام، ونصَّ صراحةً على خياري الوحدة الطوعية والانفصال.
لا بد من التذكير هنا أن السيد الصادق المهدي كان قد قاد الرفض (مع بقية الأحزاب الشمالية) خلال مؤتمر المائدة المستديرة لطلب القيادات الجنوبية منح الجنوب نظام الحكم الفيدرالي. وتنصّل السيد الصادق المهدي من إعلان كوكادام، ولم يتحمّس إطلاقاً لاتفاقية الميرغني قرنق عندما كان رئيساً للوزراء، إن لم نقل أنه قد رفضها وأجهضها. وكان كل ما نادت به تلك الاتفاقية هو تجميد تطبيق قوانين سبتمبر (والتي كانت مجمدةً فعلاً) وعقد مؤتمر دستوري لمناقشة قضايا السودان.
لكن بعد عشرة أعوام نسي السيد الصادق المهدي كل تلك المواقف، ووافق على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. كما أن المؤتمر الدستوري الذي رفضه السيد الصادق المهدي مراراً من قبل أصبح فجأةً المرهمَ السحري الذي سوف يحل مشاكل السودان المتعدّدة والمعقّدة.

12
كانت ردّة فعل بقية أحزاب التجمّع الوطني الديمقراطي لاتفاق جيبوتي سريعةً وغاضبة. فقد عقد قادة التجمّع الآخرون اجتماعاً تشاورياً لهيئة القيادة والمكتب التنفيذي في 28 نوفمبر عام 1999 بدار الحزب الاتحادي الديمقراطي بالقاهرة، بعد ثلاثة أيام من لقاء جيبوتي. وقد أجمع المجتمعون على رفض اتفاق جيبوتي شكلاً ومضموناً باعتباره يُشكِّل خروجاً صريحاً على مواثيق التجمّع الوطني الديمقراطي ومقررات مؤتمر القضايا المصيرية بأسمرا في يونيو عام 1995، ولا سيما فيما يتعلّق بقضية الحرب والسلام، وعلاقة الدين بالسياسة، وتفكيك دولة الحزب الواحد، ومحاسبة النظام في جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان. أضاف البيان الصادر من ذلك الاجتماع أن الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي السيد مبارك الفاضل المهدي لم يعد يمثّل إرادة التجمّع بعد توقيعه على الاتفاق، وأوصوا بتجميد صلاحياته كأمينٍ عام إلى حين انعقاد اجتماع هيئة قيادة التجمّع الذي تقرّر أن يتم في كمبالا في 6 ديسمبر عام 1999.

13
التأم اجتماع هيئة قيادة التجمّع كما كان مقرراً له في كمبالا، واتفق الحاضرون أن "الحد الأدنى من الاتفاق الذي يربط بين أطراف التجمّع هو إزالة نظام حكم الجبهة القومية الإسلامية وإحلال حكومة انتقالية من التجمّع الوطني الديمقراطي لتقود البلاد نحو الديمقراطية والسلام والسودان الجديد." وصف المتحدثون اتفاق جيبوتي بأنه محاولة تحالف واضحة بين حزب الأمة والجبهة القومية الإسلامية في اتجاهٍ عرقيٍ وديني، وسيُحدث مزيداً من الاستقطاب في السودان، وأنه امتدادٌ لمفهوم السلام من الداخل، وقرروا رفضه جملةً وتفصيلاً. أصدرت هيئة القيادة في نهاية اجتماع كمبالا بياناً أعلنت فيه أن الاتفاق المسمّى بنداء الوطن والصادر في جيبوتي في 25 نوفمبر عام 1999 مرفوضٌ لأنه لا يشكّل إطاراً لحلِّ مشاكل السودان، وأنه يُشكِّل خروجاً صريحاً على مواثيق التجمّع الوطني الديمقراطي ومقررات مؤتمر القضايا المصيرية.

14
وقد مثّل اتفاق جيبوتي وقرارات اجتماع كمبالا النهاية العملية لعلاقة حزب الأمة بالتجمّع الوطني الديمقراطي، وأعادا فتح باب الخلافات القديمة بين الحركة الشعبية ورئيسها الدكتور جون قرنق، وحزب الأمة ورئيسه السيد الصادق المهدي. كما انطوت بذلك صفحة التصالح بين حزب الأمة والحركة الشعبية التي قادها السيدان مبارك الفاضل وعمر نور الدائم. وكان ذلك التصالح قد برز في ذروته في زيارتهما مقر الحركة في شقدوم في جنوب السودان، وإقامتهما في ضيافة الحركة لعدّة أيام، وتوقيع اتفاق شقدوم في يوليو عام 1994، ثم توقيع إعلان أسمرا في يونيو عام 1995. انتهت تلك الحقبة التصالحية وبدأت مرحلة عداءٍ جديدة وحادة بين السيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة من جهة، والدكتور جون قرنق والتجمع الوطني الديمقراطي ككل من الجهة الأخرى.

15
بعد ثلاثة أشهرٍ من اجتماع كمبالا أعلن حزب الأمة في 16 مارس عام 2000 انسحابه رسمياً من التجمّع الوطني الديمقراطي. عدّد الحزبُ مجموعةً من الأسباب، شملت ضعف مساهمة فصائل التجمّع الفكرية والسياسية والمالية، واحتكار رئيس التجمّع العمل التنفيذي وتجاوزه مؤسسات التجمّع.
رغم إعلانه الانسحاب من التجمّع فقد أرسل حزب الأمة وفداً لمؤتمر التجمّع الثاني الذي انعقد في مدينة مصوّع الإريترية من 9 وحتى 12 سبتمبر عام 2000. تكوّن وفد حزب الأمة لهذا المؤتمر من السيدين عبد الله عبد الرحمن نقد الله، ونجيب الخير، والأستاذة ساره نقد الله. وقد كان وفد الحزب هذا جزءاً مما سُمِّي "تجمع الداخل." ويبدو أن هذه كانت المحاولة الأخيرة من الحزب للإبقاء على شعرة معاوية مع التجمّع من جهة، ومع بعض الجهات في التجمّع التي كانت تحاول رأب الصدع من الجهة الأخرى.
غير أن انسحاب الوفد من اجتماعات المؤتمر احتجاجاً على الهجوم على حزب الأمة واتفاق جيبوتي من معظم المتحدثين في المؤتمر مثّل النهاية التامة للعلاقة بين الحزب والتجمّع. وقد كان انتخاب السيد باقان أموم أميناً عاماً للتجمع خلفاً للسيد مبارك الفاضل المهدي المسمار الأخير في نعش العلاقات بين الاثنين.

16
في 23 نوفمبر عام 2000، أي بعد ثمانية أشهر من قرار انسحاب حزب الأمة من التجمّع، وبعد شهرين من مؤتمر مصوّع، عاد السيد الصادق المهدي إلى السودان الذي كان قد غادره قبل أربعة أعوام في 9 ديسمبر عام 1996. جاءت عودته بعد عامٍ كاملٍ من توقيع اتفاق جيبوتي (نوفمبر 1999) مما أوضح جلياً أن الاتفاق يواجه صعوباتٍ كبيرة للسيد الصادق المهدي، إن لم نقل إنه وُلِد ميتاً. وقد أكّدتْ الشهورُ القادمة ذلك عندما انشقّ حزب الأمة نفسه وانضم السيد مبارك الفاضل وعددٌ من اتباعه إلى ركب الإنقاذ، وتمّ تعيينه مساعداً لرئيس الجمهورية، وبقي السيد الصادق المهدي في منطقة الشفق، أو المنزلة بين المنزلتين.
غير أن عودة السيد الصادق المهدي للسودان أكّدت نجاح الإنقاذ الكبير في شقِّ التجمع، وشقِّ حزب الأمة نفسه، وفي تحييد السيد الصادق المهدي.
وهكذا انطوت صفحةٌ أخرى من تاريخ النزاع السوداني تاركةً وراءها مزيداً من الانشقاقات والخلافات داخل التجمّع وأحزابه، وداخل حزب الأمة نفسه الذي قاد انقسام التجمّع. وتبادل أبناء العمومة – السيدان الصادق المهدي ومبارك المهدي – الاتهامات الجارحة في الصحف الورقية والالكترونية.

17
في تلك الأثناء، وفي شهر مايو عام 2002، بدأت الجولة الثالثة والأخيرة من المفاوضات بين حكومة الإنقاذ والحركة الشعبية لتحرير السودان تحت مظلّةِ وساطة الإيقاد. وقد نتج عن تلك المفاوضات التوقيع على بروتوكول مشاكوس في 20 يوليو عام 2002، والذي وافقت فيه حكومة الإنقاذ على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. تلى ذلك الاتفاق والتوقيع على البروتوكولات الاخرى، والتي شكّلت معاً اتفاقية السلام الشامل التي تم التوقيع عليها في 9 يناير عام 2005.
واصل السيد الصادق المهدي بقاءه في منطقة الشفق خلال تلك السنوات. غير أن مساعي السيد الصادق المهدي للتصالح مع نظام الإنقاذ تواصلتْ، وتواصلتْ معها محاولاته لوضعِ بصماتِه على اتفاقية السلام الشامل.

18
وقد قادتْ تلك المساعي والمحاولات السيد الصادق المهدي ليوقّع في 20 مايو عام 2008 اتفاقاً ثالثاً مع حكومة الإنقاذ، تمّت تسميته "التراضي الوطني." جاء اتفاق التراضي مطوّلاً ومفصّلاً على عكس اتفاق جيبوتي 1999 (نداء الوطن)، واشتمل على ديباجة، وستة أبواب عن: الثوابت الوطنية، تهيئة المناخ، دارفور، السلام، الانتخابات، والحريات.
أشارت الديباجة إلى المخاطر والتحدّيات والمهدّدات التي تواجه البلاد، وإلى تطلّعات الشعب السوداني في التحوّل الديمقراطي والسلام العادل الشامل عبر جمع الصفِّ الوطني، صوناً للبلاد تراباً وهويةً وإنساناً، وضرورة حشد الطاقات وتكامل القدرات للارتقاء بالوطن نحو آفاق الحرية والديمقراطية والشورى والسلام والعدالة والتنمية والاستقرار والكرامة والرخاء والعيش الكريم. أشار الجزء الرابع من اتفاق التراضي، والخاص بالسلام، إلى اتفاقية السلام الشامل (اتفاقية نيفاشا)، وأوضح (أن اتفاقية السلام الشامل لم تلبي كافة طموحات أيٍ من الطرفين الموقعين عليها.) وأضاف الاتفاق: (أن حزب الامة أعلن ترحيبه بلبنات اتفاقية نيفاشا وبالإنجازات التي تحققت وما تم من استحقاقات وطنية، وأبدي ملاحظات حول بعض بنود الاتفاقية وقضايا أخري أغفلتها وأعلن عنها الحزب في وقتٍ سابق، تستوجب المخاطبة بالجدية والإحاطة المطلوبة تفادياً لثغرات قد تفضي لانتكاسة جديدة. وانطلاقاً من ذلك فإن حزب الأمة القومي يؤكد استعداده للدخول في حوارات وطنية مع طرفي الاتفاقية والقوي السياسية الأخري لدعم ما حوته من إيجابيات ولاستدراك تلك التحفظات لمصلحة الوطن وأمنه واستقراره.)
ويبدو أن الطرفين – السيد الصادق المهدي وحكومة الإنقاذ – قرّرا أن يكون اتفاق التراضي شاملاً وكاملاً بعد أن قام بالمواجهة والتصدّي لقضايا السودان الأساسية والمتعدّدة والمعقّدة. فقد أشارت الفقرة الرابعة من الباب الثاني الخاص بتهيئة المناخ إلى (تكوين لجنة لمراجعة أسماء الشوارع والمنشآت لتعميم الرمزية القومية)!.
وهكذا أكّد اتفاقُ التراضي، للمرة الثالثة، تبنّي السيد الصادق المهدي للحل السياسي مع نظام الإنقاذ، ونبذ الثورة، والتخلي التام عن العمل المسلّح للإطاحة بنظام الإنقاذ.

19
غير أن حظَّ ومصيرَ اتفاق التراضي الوطني لم يختلفا البتّة عن اتفاق جنيف الشفهي واتفاق جيبوتي، رغم التعبئة الإعلامية الضخمة التي صاحبته، ورغم أن التوقيع على الاتفاق تمّ بواسطة الرئيس عمر البشير (رئيس الجمهورية) والسيد الصادق المهدي (رئيس حزب الأمة) بنفسيهما. فقد نسيته، أو تناسته، حكومة الإنقاذ، مثل عشرات الاتفاقيات التي كانت قد وقّعتها مع أطرافٍ معارضةٍ أخرى، وفي وقتٍ وجيز (مثلما نسيتْ أو تناستْ اتفاقي جنيف وجيبوتي نفسيهما). كما أن طرف اتفاق نيفاشا الآخر ،الحركة الشعبية، تجاهلتْ اتفاق التراضي، ولم تكلّف نفسها حتى عناء الردِّ أو التعليق على المواد المتعلّقة باتفاقية السلام الشامل فيه. وبات واضحاً أن محاولات السيد الصادق المهدي الأخيرة للصعود على قطار اتفاقية السلام الشامل، ومحاولة التأثير فيه وعليه، قد تلقّتْ ضربتها النهائية والموجعة والقاتلة.

20
يتضّح من السرد الموجز أعلاه أن السيد الصادق المهدي قد دخل قي ثلاث اتفاقياتٍ مع حكومة الإنقاذ في حوالي عشر سنوات، بين الأعوام 1999 – 2008.
كان اتفاق جنيف الشفهي (كما سماه السيد الصادق المهدي بنفسه) في مايو عام 1999 قد نادى – حسب ما كتب السيد الصادق المهدي – "لعقد مؤتمر جامع يضم النظام والمعارضة لبحث كافة المسائل المتنازع عليها." لم ينعقد ذلك المؤتمر بالطبع.
ثم نادى اتفاق جيبوتي الذي تم التوقيع عليه في 25 نوفمبر عام 1999 إلى أن تكون المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات الدستورية، وألا تنال أيّة مجموعة وطنية امتيازًا بسبب انتمائها الديني أو الثقافي أو العرقي، مع الاعتراف بالتعددية الدينية والثقافية والعرقية في السودان، وأن تُراعى المواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، وتكون مُلْزِمة. كما نصّ الاتفاق على المشاركة العادلة في السلطة بكافة مستوياتها واقتسام عادل للثروة، وإزالة آثار الحرب الأهلية، وبناء الثقة بين أهل السودان بما يفضي للوحدة الطوعية.
لم تقمْ حكومة الإنقاذ بتنفيذ أيٍ من هذه العموميات الفضفاضة سواءٌ فيما يختصُّ بالمواطنة أو حقوق الإنسان أو المشاركة العادلة في السلطة أو السلام.
وجاء اتفاق التراضي الوطني في 20 مايو عام 2008 منادياً بالتحوّل الديمقراطي والسلام العادل الشامل عبر جمع الصفِّ الوطني، وضرورة حشد الطاقات للارتقاء بالوطن نحو آفاق الحرية والديمقراطية والسلام والعدالة والتنمية والاستقرار. لكن حظ هذه العموميات الفضفاضة لم يختلف عن حظ عموميات اتفاق جيبوتي. وكما ذكرنا أعلاه فقد تجاهلت الحركة الشعبية المواد المتعلقة باتفاقية السلام الشامل في اتفاق التراضي، ولم تظهر حكومة الإنقاذ أي التزامٍ أو حماسٍ تجاه تلك المواد أو أي موادٍ أخرى من الاتفاق.
غير أنه من الواضح أن السيد الصادق المهدي قد ساهم مساهمةً كبيرة بموجب تلك الاتفاقيات الثلاثة في تقوية أرضية نظام الإنقاذ وإضعاف المعارضة، وفي إعطاء نظام الإنقاذ قدراً من الشرعية والزمن. كما أن هذه الاتفاقيات أكدت أيضاً تبنّي السيد الصادق المهدي للحل السياسي ونبذ الثورة أو العمل المسلح للإطاحة بنظام الإنقاذ.

21
قبل أن يعقدَ أيُّ طرفين اتفاقاً فإن أول ما يجب أن يشغل بالَ كلٍ من هذين الطرفين هو جدّية ومصداقية الطرف الآخر لتنفيذ الاتفاق، وإلى ماذا ومن سوف يلجأ طرف الاتفاق المتضرّر إذا تقاعس الطرف الآخر عن الوفاء بالتزماته بموجب ذلك الاتفاق. غابتْ هذه المتطلبات المبدئية والأساسية من طرف السيد الصادق المهدي في اتفاقياته الثلاثة – جنيف وجيبوتي والتراضي.
كما أن جدية الاتفاق ومصداقيته تنعكس في تضمينه للآليات والجدول الزمني لتنفيذ ذلك الاتفاق. وقد غابتْ الآليات والجدول الزمني عن كلٍ من هذه الاتفاقيات. كما غابت معها أيّة إمكانياتٍ للسيد الصادق المهدي لإلزام حكومة الإنقاذ بالوفاء بأيٍ من التزاماتها في كلٍ من هذه الاتفاقيات.
ثم ما معنى أن تعقد اتفاقاً ثانياً مع نفس الطرف إذا كان الاتفاق الأول قد طواه النسيان ولم يتم تنفيذ أيٍ من بنوده؟ ثم تعقد اتفاقاً ثالثاً مع نفس الطرف الذي تجاهل وتناسى الالتزام بالاتفاق الثاني والاتفاق الأول؟
لقد ظل السيد الصادق المهدي يكرر أنه رئيس الوزراء الشرعي المُنْتخب. ولا بُدَّ للقارئ، سواءٌ كان قانونياً أم غير قانوني، أن يتساءل عن مغزى ودلالات توقيع السيد الصادق المهدي لاتفاقٍ مع الطرف الآخر الذي يصف نفسه، ويوقّع في نفس الاتفاق، بأنه "رئيس الجمهورية."
ألا يمثّل هذا الاتفاق اعترافاً واضحاً وصريحاً بوضعٍ دستوريٍ جديدٍ حلَّ مكان الوضع الدستوري الذي كان السيد الصادق المهدي يعتمد عليه في "شرعيته" ويتباهى به؟
ثم ماذا عن قبول السيد الصادق المهدي لوسام الجمهورية من الطبقة الأولى، والذي قلّده له رئيس الجمهورية بنفسه في احتفالٍ رسميٍ كبير في 31 ديسمبر عام 2013، نقلته وسائل الإعلام المحلية والإقليمية؟ ألا يعني القبول وحضور الاحتفال والاعتزاز بالوسام الاعتراف التام وغير المشروط بشرعية نظام الإنقاذ ورئيس جمهوريته؟
لا بُدَّ من التذكير أن ذلك الاحتفال تمّت إقامته بعد ثلاثة أشهرٍ فقط من ثورة سبتمبر عام 2013 التي استشهد فيها أكثر من 300 سوداني.
نترك الإجابات على هذه الأسئلة للقراء، ولمقالاتٍ أخرى.

[email protected]
www.salmanmasalman.org

 

 

Welcome

Install
×