دكتور الوليد آدم مادبو: سيناريوهات الثورة ومآلات المواجهة السياسية والعسكرية ..

لقد استبانت سبل الخلاص يوم أن أشاح المجلس العسكري عن وجهه الحقيقي، فأصبح استبعاد التفاوض معه لزاما، وبات من الضروري تصويب مدفعية الثورة الشعبية

د. الوليد ادم مادبو

بقلم: دكتور الوليد آدم مادبو

                   

"لا دين لمن لا عهد له"

محمد (صلى الله عليه وسلم)

 لقد استبانت سبل الخلاص يوم أن أشاح المجلس العسكري عن وجهه الحقيقي، فأصبح استبعاد التفاوض معه لزاما، وبات من الضروري تصويب مدفعية الثورة الشعبية والسلمية ضده وضد كل عناصر التخذيل وان تك جزءا أصيلا من مجموعة قوى إعلان الحرية والتغيير (قحت).

إستلهاما لهذه القيم واسترشادا بهذه المبادئ اعتقد أن هنالك ثلاث مآلات رئيسة يمكن ان تنتج عنها هذه المدافعة وهي كالأتي:

١/ مقاومة شعبية واسعة النطاق

بالنظر إلي وتيرة التصعيد الأمني والعسكري، فإن نوايا المجلس العسكري قد وضحت جليا في أنها لم تعمد يوما إلي الانحياز إلي الشعب، إنما إنتهزت الثورة الشعبية فرصة للتخلص من بعض غرمائها او منافسيها في دائرة الفساد والطمع. حتى اذا ما سنحت لها الفرصة لم تتوان عن الإنقضاض على الثورة. وها نحن نشهد حملة اعتقالات واسعة، قد تتطور لتشمل إعدامات واغتيالات لكل من اشتبه به في دعم الحراك طيلة الأشهر الماضية.

إن إمعان الجانجويد ومليشيات الظل وكافة الأجهزة الأمنية في إهانة إنسان السودان ستدفعه نحو التسلح للدفاع عن عرضه وهذا لا ينفي عن الثورة سلميتها، لكنها تؤكد عزم الانسان السوداني للزود عن عرضه وصيانة كرامته التي باتت تمتهن يوميا دونما أدنى محاولة – ولو أن تكون واهية – لتبرير هذه الافعال المشينة.

إذا ما نجحت الانقاذ (٢) في كسر الإرادة السياسية للمقاومة الشعبية، فإنها ستسعى لشرعنة نفسها مستخدمة بعض الشخصيات الرخوة والطامعة من الزعماء الطائفين والمخربين وسماسرة السياسة السودانية الاخرين.

أستبعد نجاح هذا السيناريو، لأن حكومة بهذه الشاكلة لن تستطيع أن تستطيع ان تنال ثقة الجمهور، دعك عن عدم مقدرتها لإحداث إختراق ينهي العزلة السياسية والاقتصادية التي أقعدت السودان ونأت به عن التأثير على مواقع القرار.

٢/ مقاومة عسكرية محدودة الأطر

كلما طال أمد المِحنة كلما تعمقت أثارها وتأججت العواطف محمّلة المؤسسة العسكرية مسؤولية التصدي لهذه المسخرة الإخوانية والمهزلة السوداوية.

إن تاريخ الجيش وتقاليده في البسالة والنجدة ستستحث صغار الضباط إذا لم نقل سترغمه للتحرك لحماية الشعب والاهم الثأر لكرامته التي مرّغها المجلس العسكري – اللجنة الأمنية -على الارض يوم أن وجد أسلحته قد سحبت منه، أو رأي أنه قد جرّد عمليا من صلاحيته في الدفاع عن الوطن والمواطنين بمجرد إشارة من بعض الخونة والمارقين. لكنه، أي الجيش لن يغلب حيلة في الحصول على السلاح، فمن صنع هذه المليشيات قادر على تفكيكها أو السعي لهزيمتها بتسريب الذخيرة والأسلحة لمن يعاديها أو يقو على منازلتها في هذا الطرف العصيب.

تكفي إنطلاقة أول طلقة لتكتشف قوات الدعم السريع أنها قد وقعت في كماشة (مصيدة)، فهي لن تستطيع أن تتجه غربا لأنها لم تترك لنفسها صليح، أو شرقا لأنها ستكتشف أن ما احدثته من تحالفات هو أرهف من شخصية "رجالات القبائل" الذين تم استمالتهم بالمال والعربات، أو شمالا حيث الحاميات، إلي أخره.

إذا ما دارت معركة في الخرطوم فستكون مجزرة لأن مقاتلو الحركة الاسلامية سيفرون لا محالة، فهم من جبنهم وخستهم ما زالوا يتدرقون (يتخذون درقة) بالدعم السريع الذي ستأخذ قيادته العزة بالإثم وستستميت أفراده في مواجهة عدمية مع صف الضباط والجنود الذين ينحدرون من اصول من غرب السودان، خاصة من جبال النوبة ومن الزرقة عامة.

وكأني أناظر ارض المعركة تحت جبال كرري قبل قرن من الزمان حيث التقى البقارة تستدفعهم الحماسة للقتال مع جيش المستعمر الذي كان عماده من الزرقة متمثلة في قوي دفاع السودان التي مثلت من بعد النواة الحقيقية والحيوية للجيش السوداني.

في كل مرة يموت الغلابة ويفوز أصحاب الامتياز. متى يعي أولئك وهؤلاء أن أسس المعترك الميداني تُعد في الغرف التجارية والمعابد الدينية وليس في ساحات الوغى؟

أيها "الغرابة" افيقوا قبل أن تبيدوا أو تُبادوا. إن البسالة القتالية اليوم كما الامس تُجيش لصالح مشروع سلطوي فردي ولا تُدَّخر لصالح مشروع وطني أو إصلاحي. هناك أسر وضيعة وشخصيات بئيسية دوما تسعي لتحقيق مجدها على حساب الأخرين، كما لا يروعها القفز فوق جماجم الأبرياء للوصول إلى مرادها في مجد كاذب. هؤلاء يجب أن يرعوا من الأن فصاعدا.

عليه، فالخير كل الخير في إنحياز الجند كل الجند – معارضة وحكومة، مركز وهامش، جانجويد وتورا بورا – لجانب الشعب والتعاون مع شرائحه كافة لتحقيق مصلحة وطنية جامعة والنأي عن الدعاوى الرجعية، الجهوية منها، الإثنية او القبلية.

٣/ معركة عسكرية واسعة النطاق

هذا القتال بين "الغرابة" ستكون له تداعياته على مستوي الهامش الجغرافي الذي ما زال ينزف ويأن تحت جراح المواجهات التي كانت وما زالت تُهندسها النخب المركزية. وقديما قيل "نار المجرم بتحرق الجيران."

إن الأفق الخفيض لقائد الدعم السريع قد أعجزه عن إنتهاز فرصة الثورة لتبييض صفحته مع الثوار والعمل على إعادة عقد التحالفات التاريخية مع قادة الزرقة الذين مدوا أياديهم له بيضاء، كما إن توجسه من مكونات مجتمعه الأصلي وطمعه قد دفعاه للتماهي مع الكيزان (المنحرفين من الاسلاميين). وها هم يُقَنْطِرُونه بحِرفية عالية، وينتظرون اللحظة التي يعلنون فيها عن إنقلابهم "التصحيحي" بعد أن يكونوا قد نجحوا في فض الإعتصام وتخلصوا من حميتي الذي كان لهم بمثابة شوكة الحوت، وهم إنما يتملقونه هذه الإيام خوفا وطمعا.

أنظر لكتابات الطيب مصطفي، هذا الرويبضة، كما أسماه عبدالله علي إبراهيم، الذي يكتب عن حميتّي وكأنه أبو عبيدة عامر بن الجراح، أمين هذه الأمة. وإذا ما خلا إلي نفسه تحسر من اليوم الذي جعله تحت رحمة هؤلاء "الغرابة"!

لا يعقل أن نقابل عنصرية النخب المركزية بعنصرية مضادة، إذ لم تتورع الطغمة المايوية يوما عن دفن "الغرابة" أحياء ودفنهم في الحزام الأخضر، فهل يعقل أن يتعاون الجانجويد مع كتائب الظل وأعضاء المؤتمر الوطني والأمن الشعبي والأمن الوطني وبعضا من أفراد الشرطة والجيش كي تسوق أبناء الشعب السوداني إلي حتفهم غدرا وترمي بهم في البحر؟ لا كرامة للأحياء ولا حرمة للأموات. أي شرعة هذه؟

بوسع الطغاة تصويب الرصاص نحو صدور المعتصمين لكن ليس بوسعهم اغتيال الوعي الجمعي للسودانيين. هذا الوعي الذي تحصل مؤخرا يقتضي الإعتراف بالإشكالات الهيكلية والبنيوية للنظم السياسية والإقتصادية التي أنتجت هذه الظواهر التي نشاهدها اليوم وعدم الإكتفاء فقط بالتعليل البليد الكسول الذي ينفي الكائنات وراء الحدود أو يلغي الإنحرافات بإعتبارها نشاز عن الحالة السودانية العامة.

لدينا فرصة تاريخية لتقويم هذه الإنحرافات ومحاسبة تلكم الكائنات شريطة أن نكون أمناء وأن نرتكز فكريا ونعمل جماعيا لمعالجة قضايانا الشائكة وعدم الهروب منها إلي الإمام.

ليس في سلوك قيادتنا الميدانية السياسية أو العسكرية ما يدل على تفهمنا لهذه الدروس، على الأقل من وجهة نظري المتواضعة.

إن الإصلاح يبدأ بإبعاد المخزلين والمندسين من منصة (قحت)، حبَّذا الرجوع إلي المنصة الأولى وإعانة تجمع المهنيين (الذي لا يبرأ أيضا من التحيز السياسي) على إسترجاع زمام المبادرة وتصويب الذخيرة المعنوية القادرة على الإطاحة بهذه العصابة المنحرفة، تجسيير الهوة بين النخب المدينية والنخب الريفية – سيما تلكم التي تمثل الريف بعمقه الصوفي والقبلي والتي برأت من الإرتزاق والإتجار في أرواح البشر، والاهم من هذا وذاك إختيار منذ الأن قيادة تنفيذية تمثل السودان ببعده الوجداني وإرثه البطولي، والسيادي غير المتوهم.

بغض النظر عن الحيثيات التفصيلية فإن الخاسر من جراء أي مواجهة ميدانية هو السودان، لا سيما أن إنهيار الجبهة الداخلية سيجعل أراضي البلاد لقمة سائغة للمتربصين من شمال البلاد وشرقها، وحتى غربها فليبيا وتشاد اعينهم لم تفارق التحديق نحو هضبة تيبستي الغنية بالموارد.

ختاما، إن الضغط القاعدي متمثلا في الجماهير، والفوقي متمثلا في المنظومة الدولية التي أحرجتها تصرفات المجلس العسكري الرعناء، سيجعل من الصعب على النظام الاستمرار في هذه الوحشية دون التحسب لغضبة الجماهير وتزايد صرختها المهابة التي باتت تعلو يوما بعد يوما مستنظرة اليوم الذي تُخَلِص فيه نفسها والجماهير من الطواغيت وتستعيد فيه فرحتها التي وئدت دونما حق، فقط ظلما وقهرا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

إن أي وساطة او مساومة في هذه الأثناء هو بمثابة تراجع عن المبادئ وخيانة لأرواح الشهادة. فلتمض أيها الشعب في ثورتك حتى النصر، مستعينا بالله ومستمسكا بالعروة الوثقى.

يقول الله عزّ وجل (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران ١٤٠]

 

دكتور الوليد آدم مادبو

 

٦ يونيو ٢٠١٩

Welcome

Install
×