أحد كبار السن بأحياء وادي حلفا يقف حائرًا بعد أن اجتاحت السيول منزله يفكر عما يمكن فعله ـ مصدر الصورة ـ مواقع التواصل الاجتماعي


أمستردام: 12 أغسطس 2024: راديو دبنقا
لم يسبق أن شهد السودان وتحديدا ولايات دارفور الكبرى والولاية الشمالية وولاية نهر النيل وولايات شرق السودان الثلاث أمطارا وسيولا مثل هذا العام، ويربط الخبراء بظاهرة التغير المناخي في العالم والمرتبط بارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية، أو ما يعرف بظاهرة الاحتباس الحراري.
أدت الأمطار والسيول والفيضانات التي صحبتها لتدمير آلاف المنازل والمنشئات العامة والخاصة، كما تسببت في مقتل العشرات من المواطنين وجرح الآلاف وتشريد مئات الألاف بعد أن غمرت المياه المناطق التي يعيشون فيها.
ويشكو المواطنون من تأخر الجهات المعنية، من حكومية وغيرها، في تقديم المساعدات العاجلة مثل خيم الإيواء وتوفير المساعدات الغذائية والمياه النظيفة بجانب الأدوية والمعينات الطبية لمقابلة الأوضاع الطارئة.
كما يخشى سكان المناطق المتضررة من أن يؤدي تراكم مياه الأمطار لانتشار الأمراض المعدية وخصوصا الكوليرا التي سجلت حالات لها في معسكرات النازحين حول الفاشر وفي ولاية كسلا.

تلوث المياه والأرض
أدت السيول والفيضانات إلى قطع الكثير من الطرق الحيوية ما يحول دون وصول المساعدات الطارئة للمحتاجين في كثير من المناطق، فيما حذرت وحدة الإنذار المبكر بهيئة الإرصاد الجوية من هطول أمطار غزيرة مصحوبة بعواصف رعدية ورياح قوية خلال الأيام القادمة في ولاية البحر الأحمر والأطراف الشمالية لولاية كسلا والمنطق الوسطى بولاية شمال دارفور.

صور فضائية توضح تأثر مواقع التعدين بالأمطار والسيول والفيضانات بالولاية الشمالية المصدر – Sentinel Hub

لكن المخاوف الكبرى لدى سكان بعض من هذه المناطق ترتبط بالتحذيرات التي أطلقها خبراء وناشطون من مخاطر تلوث المياه والتربة بمخلفات التعدين والكيماويات المستخدمة فيها مثل الزئبق الأحمر والسيانييد لمعالجة مخلفات التعدين، والمعروفة باسم “الكرتة”. وكانت مياه الأمطار قد غمرت الأحواض التي تستخدم في معالجة الكرتة مما أدى إلى تسرب المواد الكيميائية إلى التربة، كما أن مياه السيول والفيضانات جرفت في طريقها مخازن المواد الكيميائية وبعثرت محتوياتها على الأراضي السكنية والزراعية قبل أن تلقي بما تبقى في مياه النيل.

ولايات نهر النيل والشمالية نموذجا
وحتى لحظة إعداد هذا التقرير، لم تصدر تقارير رسمية سواء من الحكومة في بورتسودان أو حكومات الولايات المتأثرة عن حجم الأضرار التي خلفتها الأمطار والسيول والفيضانات وتأثيراتها على مناطق التعدين في مختلف أنحاء السودان. وتعوق الأوضاع التي خلفتها الحرب وغياب المؤسسات الحكومية في أجزاء واسعة من البلاد بالإضافة إلى مصاعب التواصل والاتصالات مع مناطق واسعة من السودان إمكانية لحصول على معلومات ذات مصداقية
كما أن الشركة السودانية للموارد المعنية، وهي الجهة الرسمية المسؤولة تحت إشراف وزارة المعادن، لم تصدر بدورها أي تقارير بالرغم من أن ممثلين عنها كانوا أعضاء في اللجان التي تكونت في بعض المناطق لحصر الأضرار.
وعلم راديو دبنقا من مصادر متطابقة أن الشركة السودانية للموارد المعدنية قد أجرت مسحا اوليا للأضرار التي خلفها اجتياح مياه الأمطار والسيول والفيضانات لمناطق التعدين في ولايتي نهر النيل والشمالية، لكنها رفضت الإفصاح عن نتائج المسح أو تسليمها للجان الأهلية التي تتولى عمليات الإغاثة في المناطق المنكوبة.
وتظهر صورة التقطت بالقمر الصناعي بواسطة موقع “قوقل ماب” وجود عدد من مواقع معالجة مخالفات التعدين شمال مدينة أبو حمد، فيما تظهر الصورة الأخرى مجاري المياه والخيران التي تتدفق عبرها مياه الأمطار والسيول في اتجاه المجرى الرئيسي للنيل. وبمقارنة صورتين التقطتا بواسطة موقع “سنتينيل هب” في يومي 4 أغسطس و 9 أغسطس كيف أن مياه الفيضانات قد نفذت إلى داخل مواقع التعدين حيث توجد الأحواض التي تستخدم فيها المواد الكيميائية ما يؤكد صحة المخاوف من احتمالات تلوث التربة والمياه في المنطقة بكاملها.

مواقع التعدين شمال ابو حمد – المصدر – خرائط قوقل

تحذيرات مبكرة
لم يعد سرا أن سكان كثير من المناطق في الولاية الشمالية وولاية نهر النيل سبق أن حذروا، ومنذ وقت طويل، من حدوث هذه الكارثة. قبل سنوات، شكل عدد من أبناء المناطق النوبية في أقصى شمال السودان لجان تقصي حقائق أهلية وبمشاركة خبراء ومختصين في مجالات التعدين، والبيئة، والصحة العامة، وأطباء. وحذر تقرير اللجنة بوضوح من أن انجراف المواد الضارة المستخدمة في تعدين الذهب ومعالجة مخلفاته إلى النيل ستؤدي إلى كارثة بيئية في كل المنطقة في حال حدوث سيول.

وتم الاتفاق مع وزارة المعادن على منح شركات التعدين والمعدنيين الأهليين مهلة لنقل أنشطتهم إلى مناطق تبعد بمسافات “آمنة” عن المناطق السكنية والزراعية. ولم تلتزم الشركات بالاتفاق، كما لم تتحرك السلطات الاتحادية والولائية لإجبارها على تنفيذ الاتفاق. ورغم لجوء المواطنون للعدالة، إلا أن إجراءات البلاغ استغرقت وقتا طويلا واستأنفت واحدة من هذه الشركات، ولم تحسم القضية بعد.
وتعتبر منطقتا أبو حمد وأبو صاره ودلقو ووادي حلفا من أكثر المناطق التي تشهد نشاطا واسعا لتعدين الذهب، كما أن هذه المناطق هي الأكثر تضررا بالأمطار والفيضانات والسيول التي ضربت الولاية الشمالية خلال الأسبوع الماضي. ورصدت مصادر محلية في المنطقة تواصلت معها راديو دبنقا أن السيول جرفت جزءا كبيرا من مخزون مخلفات المواد الكيميائية من مواقع التعدين إلى منطقة أبو صارا لتجد طريقها إلى المجرى الرئيسي لنهر النيل.

تأثير مباشر على الانسان والحيوان والأرض
تأثيرات التعدين ومخلفاته على سكان المناطق المتأثرة لم تبدأ دون شك مع هطول الأمطار والسيول والفيضانات في فصل الخريف الحالي. حيث رصد سكان هذه المناطق خلال السنوات الأخيرة تفشي عدد من الأمراض الخبيثة مثل السرطانات وتساقط جزوع شجر النخيل ونفوق الحيوانات. وجاءت كارثة الخريف الحالي لتظهر التأثيرات الجماعية للتعدين غير المنضبط من تلويث للمياه والتربة الأمر الذي سيترك تأثيراته لسنوات طويلة قادمة عبر تعديل التوازنات البيئية الطبيعية والمعهودة وربما يحيل بعض المناطق إلى مناطق غير صالحة لحياة الإنسان والحيوان والنبات.

وطالع فريق التحقق في راديو دبنقا مقطعي فيديو تم تداولهما على منصات التواصل الاجتماعي وتحقق من صحة تواريخ تصويرها والمواقع الجغرافية التي التقطت فيها. المقطع الأول مدته 2 دقيقة و 21 ثانية ويظهر تدفق مباه السيل نحو مجرى النيل الرئيسي في منطقة وادي السنقير بولاية نهر النيل. مقطع الفيديو الثاني مدته 17 ثانية ويصور اجتياح السيول لمدينة حلفا القديمة في ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ المدينة.

الناشطة صباح كيرا لم تقلل في حديثها لراديو دبنقا من تأثيرات التغيير المناخي والتي تقود إلى هطول الأمطار بشكل غير معهود في الولاية الشمالية، لكنها في نفس الوقت حملت التدخلات البشرية جزءا كبيرا من مسؤولية الدمار الذي يحدث. وتقول صباح كيرا أن “التعدين وما تسبب فيه من حفريات وتراكم كثبان الرمال المستخرجة من هذه الحفريات قادت إلى تغيير مجرى السيول، فبدلا من أن تذهب المياه إلى النيل مباشرة، فقد اجتاحت القرى والأحياء”.
واعتبرت “أن ما حدث في مدينة وادي حلفا من خسائر في الأرواح والممتلكات والبنية التحتية من مدارس ومراكز صحية سببه تغيير مجرى السيل”. وحذرت الناشطة صباح كيرا من أن “مياه السيول ستخلط مياه التعدين بما تحتويه من مواد ضارة بالإنسان والحيوان مثل مادة السيانييد “السامة” والزئبق مع مياه النيل”، وطالبت الحكومة بالإسراع بنجدة أهالي القرى النوبية وتخفيف معاناتهم.

من جهته، حذر تجمع أبناء السكوت والمحس في تعميم اطلع عليه راديو دبنقا من “وقوع كارثة بيئية وإنسانية جراء السيول والأمطار في مناطق انتاج الذهب في محليتي دلقو وحلفا، حيث جرفت السيول كثير من المنازل والممتلكات ومناطق التعدين الأهلي والشركات بما في ذلك الكرتة”. وشدد التجمع على أن الوضع ينذر بكارثة وانتشار أمراض الجهاز التنفسي وتزايد حالات الإصابة بأمراض الجهاز الهضمي”.

وفي تغريدة على حسابه على منصة فيسبوك، نوه الناشط المدني هشام عباس إلى أنه بسبب “السيول والأمطار التي تجرف كل مخلفات التعدين العشوائي من سيناييد وغيرها باتت التربة غير صالحة والمياه الجوفية غير صالحة وحتى النيل لم يعد آمن كونه المصب لهذه المياه”.

التحرك الرسمي
رغم أن التركيز الإعلامي صاحب بصورة أساسية زيارة الفريق عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش، إلى منطقة أبو حمد لتفقد الأوضاع فيها عقب كارثة التي خلفتها الأمطار والسيول والفيضانات، إلا أن وفدا بقيادة والي الولاية الشمالية زار منطقة أبو حمد في اليوم التالي لهطول الأمطار الغزيرة والسيول العنيفة في السابع من أغسطس 2024.
واصطحب الوالي برفقته ممثلين عن وزارة الصحة والشركة السودانية للموارد المعدنية ولجنة أمن الولاية. واجتمع الوفد بلجنة طوارئ الخليفة بالمحلية، ووجه بتوفير الأغذية والخيام والعلاج المجاني للمتضررين. لكن لم تصدر عن الوفد أي تصريحات بشأن التوجيهات الخاصة بالتعامل مع كارثة التلوث المحتملة، رغم صدور تحذيرات من حدوث كارثة بيئية وخصوصا لجهة عدم التعامل مع مياه السيول والفيضانات التي قد تكون ملوثة.
وعندما سال راديو دبنقا جمال عقيد، أحد سكان مدينة أبو حمد، قال إن “كافة مواقع التعدين الأهلي والشركات قد غمرتها السيول في الأودية الشمالية للمدينة” وتوقع جمال عقيد “حدوث تلوث جراء تسرب مواد الزئبق والسيانييد من مواقع التخزين ومخازن شركات التعدين بسبب السيول”. وأوضح أن المواطنين “رفعوا شكوى لمدير الشركة السودانية للموارد المعدنية الذي كان ضمن الوفد المرافق للوالي، لكن شكواهم لم تجد الاستجابة”.

الشركة السودانية للموارد المعدنية لم تصدر بدورها أي تقارير حول مخاطر التلوث البيئي، لكن مديرها العام، محمد طاهر عمر، وصل إلى مدينة أبو حمد يوم الجمعة 9 أغسطس 2024 لتفقد الأوضاع. وأكد في تصريحات صحفية على أن واجب الشركة هو الوقوف مع المتضررين في إطار المسؤولية المجتمعية. وقال نشاط في المنطقة إن الشركة السودانية للموارد المعدنية ركزت على مساهمتها في عمليات الإغاثة وتقديم العون للمتضررين، فيما امتنعت عن إعطاء أي تفاصيل عن نتائج زيارة مديرها لمواقع بعض شركات التعدين. واكتفت الشركة بالقول إن محمد طاهر عمر اطمأن على تنفيذ الاشتراطات البيئية والاحتياطات التي اتخذت لمنع تسرب المواد الكيميائية نتيجة للسيول والفيضانات.

مطالب عاجلة
وصلت الأوضاع الناتجة عن الأمطار الغزيرة وما تبعها من سيول وفيضانات في مناطق التعدين إلى مراحل الخطر، ليس الخطر الآني فقط، ولكن الخطر على المستقبل والأجيال القادمة وللحد الذي دفع الناشط المدني، هشام عباس، في تغريدته على حسابه على منصة فيسبوك لوصف الأوضاع “بالإبادة الجماعية، فقط لا منتبه لغياب صوت الرصاص”.

وناشد عكاشة حاج علي، مندوب المتضررين من أنشطة التعدين في منطقة أبو صارا، في حديث لراديو دبنقا السلطات المحلية بتوفير مواد التنقية لمياه الشرب وتوعية المواطنين بخطورة الموقف.
ولكن دون شك يفترض أيضا أن تتدخل وبنفس السرعة الجهات المختصة في مجال تلوث المياه للتعامل مع المواد الكيميائية التي وجدت طريقها إلى الخيران والأودية وحتى المجرى الرئيسي لنهر النيل الأمر الذي يعني أن كل المناطق الممتدة من أبو حمد في الجنوب ووادي حلفا في الشمال ستكون عرضة للتأثر بتلوث مياه النيل وهو تلوث قد لا يتوقف عند الحدود الشمالية، بل سيعبرها ليصيب بعض مناطق جنوب مصر.
وبعد انتهاء مرحلتي التدخل العاجل والسريع، سيكون على السلطات إعادة النظر في خارطة توزيع أنشطة التعدين وإبعادها عن المناطق الزراعية والسكنية ومجاري المياه، مثلما ستكون هناك ضرورة للبحث عن بدائل لاستخدام المواد الكيميائية السامة في عمليات التعدين كحل أول وبالعدم تشديد إجراءات الأمن والسلامة المتعلقة باستخدام هذه المواد السامة وتشديد إجراءات الرقابة على الشركات والتعدين الأهلي.
أما فيما يتعلق بالتعامل مع أخطار السيول والفيضانات، فإن الأمر سيتعلق مستقبلا بإعادة تخطيط المناطق المأهولة بالسكان لتكون بعيدة عن مجاري السيول والمناطق التي تغمرها مياه الفيضانات وبناء القرى النموذجية التي تأخذ كل مصادر الخطر في الاعتبار.

Welcome

Install
×