صناعة السكر: دمار جزئي ومستقبل مظلم
أمستردام: 16 يوليو 2024: راديو دبنقا
مثل غيره من قطاعات الاقتصاد السوداني ومؤسساته الصناعية، لم تستثني الحرب التي اندلعت في 15 أبريل 2023 صناعة السكر وطال الدمار العديد من منشئات صناعة السكر خصوصا بعد أن تمددت الحرب إلى ولايتي الجزيرة والنيل الأبيض وسنار حيث توجد خمسة من مصانع السكر الست التي كانت تعمل حتى تاريخ بداية الحرب.
تعرض مصنعين منها لهجمات وخسائر بسبب الحرب، فيما تعاني المصانع الأربعة المتبقية من مصاعب كثيرة تعيق إمكانية تشغيلها بشكل طبيعي.
والسكر من السلع الاستهلاكية الهامة في السودان ويعتبر معدل استهلاك الفرد من السكر واحد من أعلى المعدلات في العالم ويقدر انتاج مصانع السكر الست مجتمعة في السنوات الأخيرة بحوالي 427 ألف طن في المتوسط، بينما يفترض أن تتجاوز طاقتها الإنتاجية القصوى حوالي 750 ألف طن من السكر الأبيض. فيما يقدر الاستهلاك السنوي للسودانيين في ظروف ما قبل الحرب بحوالي 1 مليون طن سنويا، أي أن هناك عجز يزداد سنويا وتجري تغطيته عبر استيراد السكر وإعادة تعبئته داخليا.
وتنتج مصانع السكر عدد آخر من المنتجات التي تدر عائدا ماديا مثل الميثانول والكحول للأغراض الطبية والعلف، كما تستوعب الدورة الزراعية بجانب قصب السكر عدد آخر من الحبوب والخضروات ومزارع الدواجن وغيرها. ويعتبر هذا القطاع من القطاعات التي تستوعب أعداد كبيرة من العمال الموسميين لعمليات زراعة وحصاد قصب السكر، بجوانب الكوادر المهنية والعمالة المؤهلة في العمليات الصناعية.
ويبدو ان مصانع السكر أصبحت هدفا لقوات الدعم السريع باعتبار انها غالبا ما تحتفظ بمخزون من الوقود للزراعة وتوليد الطاقة إضافة لامتلاكها لعدد كبير من الاليات الزراعية مثل الجرارات ووسائل النقل التي يمكن استخدامها لأغراض عسكرية، إضافة لمخزونات السكر التي تغري بالاستلاء عليها بغرض المتجرة فيها.
سكر الجنيد اول مصنع تعرض للنهب
وكان مصنع الجنيد هو أول مصانع السكر التي تعرضت للهجوم خلال اجتياح قوات الدعم السريع لولاية الجزيرة عبر الضفة الشرقية للنيل الأزرق متجهة من مناطق شرق العاصمة إلى مدينة حنتوب. وتحدثت تقارير عن اقتحام قوات الدعم السريع لمصنع سكر الجنيد في 18 ديسمبر 2023 وقامت بنهب كل المخزون من السكر بالإضافة إلى السيارات والجرارات وبعض المعدات والتجهيزات المكتبية. ورغم أنه لا توجد تقديرات لحجم الخسائر التي تعرض لها مصنع سكر الجنيد، إلا أن الشيء المؤكد أن توقف المصنع من العمل لفترة تزيد من العام سيؤدي إلى صعوبات كبيرة في إعادة تشغيله وفي الحصول على قطع الغيار.
مصنع سكر الجنيد هو أول مصنع سكر تم إنشاؤه في السودان في العام 1962 ويقع في منطقة الجنيد على الضفة الشرقية للنيل الأزرق وعلى بعد 120 كيلومتر جنوب العاصمة الخرطوم وأقرب مدينة كبيرة للمصنع هي مدينة رفاعة التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع في نفس التاريخ. ويحتل المصنع بمزرعته مساحة 20 ألف فدان مخصصة لزراعة قصب السكر وهو مصمم لإنتاج 66 ألف طن من السكر الأبيض في، لكن انتاجيته لم تتجاوز في السنوات الأخيرة 20 ألف طن من السكر. ويواجه المصنع مشاكل كبيرة تتعلق بقدم الماكينات المستخدمة وحاجتها لقطع غيار باهظة الثمن وارتفاع تكلفة العمليات الزراعية بجانب مشاكل نقص الكهرباء وانعدام معينات العمل وضعف مرتبات العاملين.
مصنع سكر غرب سنار
بعد توغلها في ولاية سنار قادمة من ولاية الجزيرة، قامت قوات الدعم السريع بمهاجمة ارتكازات الجيش في المنطقة المحيطة بمصنع سكر غرب سنار واضطرتها للانسحاب. في 26 ديسمبر، تعرض مصنع سكر سنار لهجوم ممن وصفوا بالمتفلتين نجحوا خلالها في نهب مخازن السكر والسيارات، لكن الواقع يقول إن ذلك تم تحت مرآى ومسمع قوات الدعم السريع.
في نفس اليوم، أغار الطيران العسكري على المصنع والمناطق المحيطة به مما أدى إلى حدوث خسائر لم يتم تقييمها من مصادر مستقلة. وفي اليوم التالي هاجمت قوات الدعم السريع “مركز بحوث القصب” وهو واحد من أهم مراكز البحوث في السودان وتم نهب محتوياته. وقد نفذت قوات تابعة للجيش والمستنفرين هجوما في يوم 2 مارس 2024 في محاولة لاستعادة السيطرة على المصنع، لكن هذه المحاولة لم تكلل بالنجاح.
يقع مصنع سكر غرب سنار على بعد 300 كيلومتر جنوب الخرطوم على الضفة الغربية للنيل الأزرق ويبعد بمسافة قصيرة عن مدينة سنار في اتجاه الغرب وتم إنشائه في سبعينات القرن الماضي في حقبة حكم نظام مايو على مساحة تبلغ 35 ألف فدان لإنتاج السكر الأبيض.
مثل غيره من مصانع السكر، يعاني مصنع سكر غرب سنار من مصاعب كبيرة أدت إلى خفض انتاجيته إلى حوالي 40 ألف طن من السكر. ويقول الخبراء أن المصنع سيكون محتاجا إلى عملية إعادة تأهيل كاملة بعد الحرب بالنظر لفترة توقفه الطويلة وقدم المعدات المستخدمة وفقدان الخبرة التشغيلية.
مصانع لم تطالها الحرب بعد
ما زالت اربعة من مصانع السكر الست في السودان في مأمن من الدمار والنهب بسبب وجودها في خارج مناطق النزاع المسلح حاليا، وتحديدا مصنع سكر حلفا الجديدة، مصنع سكر كنانة، مصنع سكر عسلاية ومصنع سكر النيل الأبيض. واحد من هذه المصانع، هو مصنع سكر حلفا الجديدة والذي يقع في ولاية كسلا وهي ولاية ما زالت بعيدة عن العمليات العسكرية، لكن المصانع الثلاث الأخرى تقع في ولاية النيل الأبيض وتمتد الأراضي الزراعية لبعضها إلى ولاية سنار.
هذه المصانع الثلاث هي الأكبر إنتاجا والأحدث إنشاءً وتستخدم معدات وآليات حديثة نسبيا: مصنع سكر كنانة، مصنع سكر عسلاية ومصنع سكر النيل الأبيض. وتقترب المعارك من مواقع هذه المصانع من ثلاث محاور بالرغم من أن الهدف النهائي لقوات الدعم السريع هو مدينة كوستي مقر الفرقة 18 مشاة للجيش السوداني، محور من الشمال للجنوب على ضفتي النيل الأبيض من أمدرمان وجبل أولياء في اتجاه مدينتي الدويم وربك. ومحور من الجنوب للشمال يتحرك من ولاية سنار في اتجاه قاعدة كنانة الجوية ومدينة ربك. وأخيرا محور من الشرق للغرب ويتجه من جبل موية إلى مدينة ربك.
مصنع سكر كنانة
أنشئ في منتصف سبعينات القرن الماضي وهو أكبر مصانع السكر في السودان وعلى مساحة ضخمة تصل إلى 165 ألف فدان موزعة بين ولايتي النيل الأبيض وسنار وهو مصمم لينتج حوالي 400 ألف طن من السكر الأبيض عالي النقاء لأغراض التصدير، لكن انتاجيته تدنت في السنوات الأخيرة إلى حوالي 250 ألف طن سنويا في المتوسط بسبب توقف الاستثمارات الرأسمالية التي تتيح التوسع في الإنتاج.
يقع المصنع على بعد 21 كيلومتر إلى الجنوب الشرقي من مدينة ربك وعلى بعد 270 كيلومترا جنوب الخرطوم. ولا يبعد المصنع كثيرا عن قاعدة كنانة الجوية والتي تعتبر ثالث قاعدة جوية من حيث الأهمية بعد وادي سيدنا ومروي بالنسبة للجيش السوداني بعد استيلاء قوات الدعم السريع على عدد كبير من المطارات أو تعطيله لعمل جزء كبير منها وسيطرته على بعض القواعد الجوية.
ويخشى الخبراء من أن يتسبب أي هجوم على المصنع والمناطق المحيطة به إلى خسائر قد تصل قيمتها إلى مليارات الدولار بالإضافة إلى هروب الاستثمارات الأجنبية حيث يعتبر مصنع سكر كنانة نموذجا للاستثمارات المشتركة بين رؤوس أموال أجنبية ومحلية وحكومة السودان.
مصنع سكر عسلاية
تم افتتاح مصنع سكر عسلاية في العام 1980 وهو يقع على بعد 280 كيلومترا جنوب العاصمة، الخرطوم، وعلى مساحة تبلغ 35 ألف فدان وبطاقة إنتاجية تقدر بحوالي 110 ألف طن سنويا. لكن المصنع يواجه مشاكل كبيرة منذ سنوات تتعلق بقطع الغيار والكهرباء وتقلص المساحة الزراعية التي انخفضت المساحة المزروعة منها إلى 13 فدان ويتدنى الإنتاج إلى ما يعادل 35 طن من السكر في المتوسط سنويا في الأعوام الأخيرة. وسيكون مصنع سكر عسلاية معرضا للخطر المباشر في حال تعرضت مدينة ربك، عاصمة ولاية النيل الأبيض للهجوم من قبل قوات الدعم السريع بالنظر إلى أنه يقع على بعد 5 كيلومترات فقط إلى الشمال من مدينة ربك.
مصنع سكر النيل الأبيض
إذا ما كان من جدل دار ويدور حول صناعة السكر في السودان، فإن مصنع السكر النيل الأبيض يحظى بالنصيب الأكبر. حيث صاحبت عمليات إنشاء المصنع مشاكل كبيرة وصلت بتكلة إنشائه إلى حوالي 1 مليار دولار وتبادل الناس الكثير من قصص الفساد بشأن دور قيادات كبيرة في نظام حزب المؤتمر الوطني في هذا الفساد. ومن ثم، صاحبت بداية تشغيل المصنع عثرات كبيرة بسبب امتناع الشركات الامريكية الملزمة بنظام العقوبات في ذلك الوقت عن تزويد المصنع ببرمجيات التشغيل الضرورية للآليات والماكينات. اكتمل إنشاء المصنع في العام 2003 وهو يقع على الضفة الشرقية للنيل الأبيض على بعد 150 كيلومتر جنوب الخرطوم. وأقيم المصنع على مساحة تصل إلى 165 ألف فدان لينتج ما يعادل 400 ألف طن عند بلوغ طاقته القصوى وأن ينتج حوالي 125 ألف طن في المراحل الأولى من تشغيله.
مصنع سكر حلفا الجديدة
هو ثاني مصنع للسكر ينشأ في السودان في العام 1963 ضمن مشاريع توطين أهالي حلفا. ويقع المصنع على بعد 400 كيلومتر شرق الخرطوم في ولاية كسلا وتعتبر مدينة حلفا الجديدة أقرب مدينة لمنطقة المشروع الذي تبلغ مساحته 40 ألف فدان ومصمم لإنتاج حوالي 60 ألف طن من السكر الأبيض، لكن انتاجه لم يكن يتجاوز في السنوات الأخيرة 20 ألف طن في العام. ولم يتأثر المصنع بشكل مباشر بالحرب الحالية بالنظر إلى أن ولاية كسلا من الولايات التي لم تصلها العمليات العسكرية، لكن المصنع يعاني من مصاعب تتعلق بتوفير الطاقة الكهربائية والعمالة المؤهلة والعمالة الموسمية وارتفاع تكلفة الإنتاج بسبب قدم المصنع وارتفاع تكلفة شراء قطع الغيار.