الوثيقة الدستورية.. ما لها وما عليها
أهم ما ورد في الوثيقة الدستورية من مكاسب للثورة السودانية هي تاسيس العقد الإجتماعي بين السودانيين على المواطنة دون سواها، والتشديد على أن شاغلي المناصب في المجلس السيادي ومجلس الوزراء وولاة الولايات والاقاليم في الفترة الإنتقالية لا يحق له الترشح في الإنتخابات العامة بنهاية الفترة الإنتقالية.
عبد الفتاح عرمان:
في البدء، نبارك لشعبنا فرحته على التوقيع بالأحرف الأولى على الوثيقة الدستورية التي جاءت عبر تضحيات ونضالات الشعب السوداني في الهامش والريف والمدن السودانية المختلفة منذ فجر الثلاثين من يونيو 1989، حينما انقلبت الجبهة الإسلاموية على الحكم الديمقراطي.
أعتقد أهم ما ورد في الوثيقة الدستورية من مكاسب للثورة السودانية هي تاسيس العقد الإجتماعي بين السودانيين على المواطنة دون سواها، والتشديد على أن شاغلي المناصب في المجلس السيادي ومجلس الوزراء وولاة الولايات والاقاليم في الفترة الإنتقالية لا يحق له الترشح في الإنتخابات العامة بنهاية الفترة الإنتقالية. بالإضافة إلى حصر دور جهاز الأمن في جمع المعلومات وتقديمها للسلطات المختصة دون أن يكون له سلطة التحفظ والإعتقال لاي مواطن سوداني.
لكن احتوت وثيقة الإعلان الدستوري على عيوب خطيرة وتنازلات مجانية من قبل الوفد المفاوض عن قوى الحرية والتغيير، وهي كثيرة، ولكن أهمها على الإطلاق الأتي:
- نصت الوثيقة في فصلها الأول، الفقرة (ب)، عن إلزامية المراسيم التي اصدرها المجلس العسكري منذ 11 أبريل إلى يوم التوقيع على الإعلان الدستوري سارية المفعول! كيف تعتبر ملزمة وقوى الحرية والتغيير لم تكن طرفا فيها؟! وكيف يتم القبول بمراسيم على شاكلة السماح بعمل نقابات النظام البائد ومرسوم فك تجميد ارصدة مليشيا الدفاع الشعبي؟ هذه أمثلة عن تلك المراسيم، وليس حصرا لها. وهل تلك المراسيم تتضمن تعيين ولاة عسكريون لاقاليم السودان المختلفة؟ وماذا عن مرسوم تعيين الفريق دمبلاب رئيسا لجهاز الأمن؟
- أشارت الوثيقة الدستورية في المادة 34 (1) إلى أن القوات المسلحة وقوات الدعم السريع مؤسسة- الخطأ ورد في نص الوثيقة، والصحيح مؤسستان- وطنية مستقلة حامية لوحدة الوطن و خاضعة للسلطة السيادية!. ساوى النص بين القوات المسلحة ومليشيا الدعم السريع واسبغ عليهما "الوطنية" دون ذكر لإعادة هيكلة القوات المسلحة وقوات الدعم السريع ودمج الأخيرة في الجيش السوداني الموحد بعد إعادة هيكلته. والأدهي من ذلك أن قيادة تلك القوات ستكون من اختصاص القائد العام للقوات المسلحة على الرغم من خلو القوات المسلحة من ذلك المسمى الوظيفي. وترك النص دون تحديد جهة الإختصاص المخولة باستحداث منصب جديد ليكون مسؤولا عن كافة القوات. هل يكون القائد العام للقوات المسلحة رئيس مجلس السيادة؟ أم وزير الدفاع؟ أم شخص آخر؟ لم يشار إلى ذلك في نص الوثيقة. والغريب في الأمر القوات المسلحة والدعم السريع لا تأتمران بأمر وزير الدفاع بل يتبعان للسلطة السيادية!
علاوة على ذلك، قانونا القوات المسلحة والدعم السريع ينظمان العلاقة مع السلطة التنفيذية على الرغم من المتعارف عليه في كل حكومات العالم أن الجيش وكامل المؤسسة الأمنية تتبع للسلطة التنفيذية. والقانون المشار إلى هي قانون من صنع نظام الديكتاتور المخلوع!. ومن الغريب في تلك الوثيقة تبعية جهاز الأمن للسلطتين السيادية والتنفيذية ولكن عندما يتعلق الأمر بالجيش والدعم السريع، لا سلطة للجهاز التنفيذي عليهما!
- المادة 53، عقوبة الإعدام، حوت المادة الاولى منها نصا خطيرا حول جواز عقوبة الإعدام إلا قصاصا أو حداً أو جزءا على الجرائم بالغة الخطورة، وفق القانون. كما هو معلوم للجميع أن الجرائم الحدية هي السرقة، والزنا، والقذف، وشرب الخمر، والردة، والحرابة، والبغي، والتغريب، والنفي. وهي قوانين سبتمبر التي طبقها الديكتاتور الراحل نميري بما عرف وقتئذ بمحاكم العدالة الناجزة. وهي قوانين أساءت للشريعة الإسلامية والحقت ضررا بالمسلمين وغير المسلمين. فكيف في بلد به تنوع ثقافي وعرقي وديني أن يتم القبول بنص على تلك الشاكلة؟! وهنا كان يجب الإقتداء بالقوانين الموجودة في معظم الدول العربية فيما يتعلق بهذا الشان، إذ تعتبر دولا مثلا مصر، والعراق، وتونس، والكويت، وسوريا، وفلسطين، والمغرب، ودولا عربية أخرى أن تلك الجرائم يعاقب عليها القانون ولكن بوصفها جرائم عادية، وليست حدية. فلمصلحة من يريدون العودة ببلادنا لقوانين سبتمبر البغيضة؟!
- الفصل الثاني عشر، البند الخاص بالمفوضيات المستقلة، الفقرة 3، أعطي الحق لمجلس السيادة لتعيين رؤساء مفوضيات السلام والحدود والانتخابات، ربما يتفهم المرء احقية مجلس السيادة في تعيين رؤساء مفوضيات الدستور، والسلام، والحدود لعلاقتهم المباشرة بالترتيبات الأمنية ومساسهم بالأمن القومي للبلاد، ولكن ليس هناك مبرر على الإطلاق بالموافقة على تحكم مجلس السيادة في تعيين رئيس مفوضية الإنتخابات بالتشاور مع مجلس الوزراء، وكما هو معلوم أن التشاور لايقدم ولا يؤخر في حالة إعتراض الأخير على أسم الرئيس المقترح للمفوضية. عمل مفوضية الإنتخابات من صميم الجهاز أختصاص الجهاز التنفيذي إذ يتعلق الأمر بالإحصاء السكاني وتوزيع الدوائر الجغرافية والأشراف على وسائل الإعلام المملوكة للدولة لضمان حياديتها والأشراف على طباعة بطاقات الإقتراع وكل ما يتعلق بالعملية الإنتخابية. ومن غير المقبول أن تكون للمجلس السيادي سلطة عليها في ظل تجاربنا السابقة مع النظام البائد.
صمت الإعلان الدستوري صمتا مطبقا عن القانون الجنائي لعام 1991، والذي بموجبه تم تشريع قانون النظام العام وشرطة أمن المجتمع. ولسنا بحاجة لتكرار مساوئ ذلك القانون وحطه من قدر النساء والرجال معا. كما أن الإعلان الدستوري خلا من أي إشارة إشارة إلى حل مليشيات النظام السابق من الدفاع الشعبي والأمن الشعبي والشرطة الشعبية وغيرهم من أجسام وأدوات القمع التي تعمل خارج نطاق القانون. والأدهي من ذلك لم يشر الإعلان الدستوري إلى قضية الإبادة الجماعية التي تم إرتكابها في دارفور، وكيفية إنصاف الضحايا وأسرهم عبر تسليم قائمة المتورطين في تلك الجريمة وعلى راسهم الديكتاتور المخلوع عمر البشير للمحكمة الجنائية الدولية حتي يعود السودان إلى الأسرة الدولية بفتحه لصفحة جديدة مع السودانيين قبل المجتمع الدولي، وإرسال رسالة قوية للوردات الحرب في الداخل أن لا تسامح بعد اليوم مع مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية، وستطالهم يد العدالة ولو بعد حين!