في أطروحة الحرب والسلام .. الرابح هو الوطن !! ..
يعرف الكثيرون منّا أنّ الحروب تحتل حيزاً كبيرا في تاريخ الإنسان منذ أن أذن الله للإنسان بتعمير هذا الكوكب. وقد تستمر الحرب أكثر من عقدين أو ثلاثة. وإما وضعت أوزارها، وحصرت الغنائم من الطرفين، وضح أن لا منتصر في الحرب. فالقوتان المتحاربتان تفقدان جنداً، وعتاداً ووقتاً لو استثمر في السلم والعمران لكان السلام هو الرابح.
بقلم: فضيلي جمّاع
يقول شاعر الضمير الإنساني بابلو نيرودا عن بشاعة الحرب
آه! كثير من الدماء هنا
كثير من الحروب! وكثير من الرعب
وكثير من العذوبة
ما الذي تؤاخيه، الأنهر؟ ثلجاً ودماً
المدن، ماذا كانت؟ رماداً ودخاناً.
لا شيء آخر
نعم .. إن نهاية أي معركة كما يقول نيرودا أن تتحول المدن إلى رماد ودخان .. لا شيء آخر كما يقول!
يعرف الكثيرون منّا أنّ الحروب تحتل حيزاً كبيرا في تاريخ الإنسان منذ أن أذن الله للإنسان بتعمير هذا الكوكب. وقد تستمر الحرب أكثر من عقدين أو ثلاثة. وإما وضعت أوزارها، وحصرت الغنائم من الطرفين، وضح أن لا منتصر في الحرب. فالقوتان المتحاربتان تفقدان جنداً، وعتاداً ووقتاً لو استثمر في السلم والعمران لكان السلام هو الرابح.
ولعلّ الخسارة الكبرى حين يكون طرفا الحرب من وطن واحد ، كما هو الحال في تاريخ الحروب الأهلية السودانية مذ نال هذا البلد استقلاله في 19 ديسمبر 1955- رافعاً علم الدولة المستقلة في الأول من يناير عام 1956م. علماً بأنّ جيش الدولة الوطنية "المغوار" صاحب أطول حرب أهلية في أفريقيا – الحرب التي اندلعت في 1955م وانتهت بفصل ثلث مساحة البلاد لتصبح بلدا مستقلاً ، هذا الجيش لم يخض حرباً واحدة ضد عدو أجنبي. كل حروبه ظل يعلنها جنرالاته وحكومات نخب المركز(مدنية أو عسكرية) – تلك النخب التي لا ترى من مساحة وإنسان السودان أبعد من أرنبة أنفها – ظلت تعلن الحرب تباعاً على الإنسان السوداني دون الغوص عميقاً في مسببات رفع الآخر للسلاح في وجهها.. ذلك منذ بدأت أول حرب أهلية في توريت 1955م حتى آخر حرب البسوس السودانية (كما أطلق عليها الشاعر الكبير عالم عباس هذه الاستعارة)، حرب دولة الأخوان المسلمين التي كانت البند الأهم في برنامج دولتهم ! حرب التهمت الأخضر واليابس، وادخلت قاموس الإبادة في تاريخ العسكرية السودانية (ثلاثمائة ألف سوداني قضوا نحبهم في دارفور وحدها برصاص سوداني)! كل ذلك ليبقى النظام ولصوصه ويتم نهب ثروات البلاد ومقدراتها، وتصبح بلادنا محط عين الطامعين في سلة غذاء العالم كما أطلق عليها ذات يوم، ولتتفرق كفاءات أبنائها وبناتها في قارات العالم السبع. ولست أدري ليت شعري ماذا سيكون عليه حال هذا البلد لو لم يقيض الله له من صلب الآباء جيلاً شاباً دفع مهر الحرية غالياً لتقوم ثورة ديسمبر بطي صفحة نظام الإسلامويين الفاشي ويلقي به في سلة مهملات التاريخ!
لا يقولن أحد بأننا لم ننجز- وأعني بالضمير نحن شعبنا وحكومة الفترة الإنتقالية رغم الهجوم الكاسح عليها من أعدائها ومن بعض راكبي قطار الثورة في ساعاته الأخيرة لحاجة في نفس يعقوب – أعني الذين هم نصف قلب مع النظام المباد وعين على ما ستحققه ثورة ديسمبر! لا تصدقوا أن توقيع السلام في عاصمة شقنا السوداني الآخر دولة جنوب السودان ليس مكسباً. التوقيع على أن يلقي المتحاربون السلاح وأن يتفقوا على بناء وطن جديد جميل وبلا حروب وأحزان ، مجرد التوقيع وأمام شهود من مختلف بلدان الجوار والمنظمات الدولية هو اعتراف من الطرفين المتفاوضين بأنّ مرحلة هديرالمدافع والطائرات في طريقها
لتكون جزءاً من ماضينا الحزين
سيقول البعض – وكاتب هذه السطور منهم – يجب الحرص في تطبيق بنود السلام على أن يكون الإنسان في السودان هو
الرابح ، وذلك بالإجابة على السؤال الجوهري: لماذا قامت هذه الحروب الأهلية طويلة الأمد في بلادنا لتضعنا في مؤخرة قطار الشعوب في هذا القرن وقد كان المأمول أن نكون في صدارة قارتنا البكر أفريقيا والتي ما من دولة من دولها الشقيقة التي نالت استقلالها من بعدنا إلا وهي أفضل حالاً منا ؟!! الإجابة على هذا السؤال الجوهري تعني مخاطبة جذور المشكلة بكل ما لدى القائمين على إدارة دولة المواطنة التي نسعى لبنائها من صدقية الشراكة في الحقوق والواجبات. بمعنى آخر أن يشعر كاتب هذه السطور وآخرون في حلفا في أقصى شمال بلادنا وآخرون في جنوبنا الجديد في كاودا وغيرهم في الجنينة ونيرتتي وفتا برنو في الغرب ومثلهم في سنكات وهمشكوريب في الشرق والآخرون في قرى الجزيرة التي يمر فوقها التيار الكهربائي من خزان سنار بينما يجلس تلامذتها وتلميذاتها لمراجعة الدرس ليلاً على ضوء فانوس الكيروسين! أن يشعر كل هؤلاء بأنهم سواسية تحت القانون وبسط رداء التنمية وسواسية في فرص العمل وإدارة شئون بلادهم. الإجابة على هذا السؤال عملياً هي الضمان مستقبلا أن تصمت المدافع إلى الأبد، وهي الضمان للعمران والتنمية لبلد نتصوره عملاقاً ومارداً كشعبه ونحن نغني له اليوم من الأعماق مرددين أنشودة شاعر الشعب الراحل المقيم محجوب شريف: (حنبنيهو البنحلم بيهو يوماتي).. فالحلم بوطن حدادي مدادي وفي صدارة الشعوب ، هذا الحلم مشروع .. شريطة أن يجاب عملياً على السؤال الأساس وبكل وطنية وتجرد بمخاطبة جذور الأزمة. يعرف حتى الصبية في المدارس بأننا – ولكي نقيم دولتنا المدنية الديموقراطية – بصدد الإجابة على السؤال : كيف يحكم السودان وليس من يحكم السودان!
وأخيرا، رسالة من القلب للرفيقين عبد العزيز الحلو وعبد الواحد محمد نور:
نعرف جميعنا الغبن لدى كل منكما، ونقدره. وبنفس القدر والإحترام الذي نمنحه لرفاقكم في الحركات المسلحة الذين وقعوا وثيقة السلام هذا الأسبوع في جوبا – بقدر ما نجله فيهم من شجاعة المحارب حين يتوجه للسلم مثخناً بجراحه ليداوي جراح الوطن ، فإننا نحمل لكما الحب والتقدير، ونعرف أنكما ومن معكما لستم هواة حرب. ويا كومريد عبد العزيز من منا لا يعرف أنك أفنيت زهرة شبابك محارباً من أجل سودان جديد؟ وبنفس روح إنصافك وإنصاف كومريد عبد الواحد، فإننا قطعاً نحفظ لرفاقكما الآخرين في الحركات المسلحة حقهم في النضال ، ولا نزاود عليهم في مركب يحملنا جميعاً ويحمل خارطة وطننا نحو أفق جديد. وهل يعقل أن ننكر ما يجمعك والمناضلين ياسر سعيد عرمان ومالك عقار أير في الحفاظ على جذوة النضال متقدة في الحركة الشعبية منذ تأسيسها حتى اليوم؟ إن الخلاف في حركات التحرير ليس جديداً، لكنّ ما ينتظرك وعبد الواحد وما ينتظر القادة الذين وقعوا بنود السلام هو ما ينتظرنا من مهام شاقة أساسها تنمية بلادنا وإسعاد شعبنا. كاتب هذه السطور يعرف أنّ طرحكما لقبول التوقيع على وثيقة السلام أنت والأستاذ عبد الواحد له شروطه ومحاذيره. ونقدر ذلك. لكننا اليوم في زمن مختلف. فالدولة التي تفاوضونها – عسكرها ومدنييها- جاء بها الشارع. ولا أظننا نختلف أن الشارع أتى شبابه وشيبه بما لم يأت به الأوائل- ثورة سلمية حيرت العالم! هذا الشارع الشارع هو الضامن!
سيظل السلام ناقصاً إن لم تسرعوا في مفاوضاتكم مع حكومة مهما قيل في مكوناتها إلا إنها الخيار العملي الأمثل الذي يقود قاطرة الثورة ويسعى وسط كل أعاصير المؤامرات المحلية والإقليمية للخروج ببلادنا لبناء الدولة المدنية الديموقراطية – دولة التساوي في الحقوق والواجبات. إن شعبكم ينتظر منكم – أنتم في الحركة الشعبية شمال وفي جيش تحرير السودان أن تجعلوا بوصلة السلام هي الرابحة ربحاً كاملاً غير منقوص في بلادنا
فضيلي جمّاع – لندن
الأول من سبتمبر 2020