البيان الختامي للندوة الفكرية: الدين والمجتمع والدولة

بمشاركة خمسين من الأستاذات والأساتيذ والباحثات والباحثين، من السودان وخارجه (العراق والأردن والمغرب وأمريكا وأستراليا)، سواءٌ بتقديم أوراق علمية أو رئاسة جلسات، ومن خلال مداولات كانت على مدى ثلاثة أيام، نختتم اليوم فعاليات الندوة السنوية التي تقام على شرف الذكرى السادسة والثلاثين لإعدام المفكر السوداني الإنساني الأستاذ محمود محمد طه (ذكرى تجسيد المعارف على منصة الإعدام)، والتي أقيمت تحت عنوان “الدين والمجتمع والدولة” بالخرطوم في الفترة ما بين 18 و20 يناير 2021م بقاعة المؤتمرات بكلية كمبوني للعلوم والتكنولوجيا.

بمشاركة خمسين من الأستاذات والأساتيذ والباحثات والباحثين، من السودان وخارجه (العراق والأردن والمغرب وأمريكا وأستراليا)، سواءٌ بتقديم أوراق علمية أو رئاسة جلسات، ومن خلال مداولات كانت على مدى ثلاثة أيام، نختتم اليوم فعاليات الندوة السنوية التي تقام على شرف الذكرى السادسة والثلاثين لإعدام المفكر السوداني الإنساني الأستاذ محمود محمد طه (ذكرى تجسيد المعارف على منصة الإعدام)، والتي أقيمت تحت عنوان "الدين والمجتمع والدولة" بالخرطوم في الفترة ما بين 18 و20 يناير 2021م بقاعة المؤتمرات بكلية كمبوني للعلوم والتكنولوجيا. 

انعقدت هذه الندوة الفكرية والشعب السوداني لا يزال يتنسم نسيم ثورة ديسمبر 2018م المجيدة التي دكّت حصون واحدة من أكثر أنظمة الحكم تخلفا وفظاعةً وفاشية، ألا وهي الدولة الدينية التي تم تدشينها بسن قوانين سبتمبر 1983م والتي بموجبها تم تنفيذ حكم الإعدام على شهيد الفكر الإنساني الأستاذ محمود محمد طه في يوم 18 يناير 1985م، كما نُكِل بالكثير من أبناء الشعب وبناته وفقها.

 لقد أتاحت ثورة ديسمبر المجيدة مناخ الحريات العامة الذي بفضله انعقدت هذه الندوة. إننا نتوجه بالتحية لأرواح الشهيدات والشهداء في عليائهم وللدماء الطاهرة التي سُكِبت من أجل الحرية للشعب السوداني. بذلك ضرب الشعب السوداني، ليس مرة واحدة فحسب بل ثلاث مرات منذ نيله الاستقلال السياسي في عام 1956م، مثلا فريدا في قوة الكلمة المفكّرة بجانب الكلمة الهادفة لإحداث التغيير السياسي بالوسائل المدنية (وبدعم ومتابعة من قوى المعارضة الأخرى التي اختارت حمل السلاح ضد الطغيان). وقد كان هذا هو ديدن الأستاذ الشهيد محمود محمد طه من حيث الصدع بالكلمة المفكّرة بهدوء وحجة قوية.

الهدف المعلن، الجامع، للثورة المجيدة هو التغيير تحت شعارها الخالد: حرية، سلام، وعدالة! ولكن يبقى التحدي في كيفية تنزيل هذه الشعارات إلى أرض الواقع، وأولها تحقيق وبناء السلام، ثم الانتقال الديمقراطي والتحول من الدولة الدينية التي مثّلها نظام "الإنقاذ" المباد، إلى الدولة الوطنية التي تقوم على قيم المواطنة، بحقوقها وواجباتها، بلا تمييز بين المواطنين، سواءٌ أكان ذلك على أساس الدين أو الضمير أو الجنس أو النوع أو اللغة أو الوضعية الاجتماعية، وهو ما تعارفت عليه البشرية المعاصرة ويقع تحت مطلب فصل الدين عن الدولة. فاليوم، رغم أن الشعب السوداني يعيش في أجواء الثورة على الدولة الدينية التي أراد نظام الإنقاذ المباد تكريسها، إلا أن تحقيق هذا التغيير على أرضا الواقع لا يزال معلقا بالأمل والعمل على ذلك. إلا أن أقصر الطرق إلى القضاء المبرم على الدولة الدينية ضربة لازب يكمن في اتخاذ القرار الثوري الشجاع بالعودة فورا إلى قوانين 1974م (مع مواكبتها للعهود الدولية وتشريعات حقوق الإنسان اللاحقة)، أي قوانين ما قبل الدولة الدينية.

ويؤكد المؤتمرون على أهمية الدين في المجتمعات وفي حيوات الفكر والشعور، ودوره في الانتقال بالبشر من دركات الحيوانية إلى درجات الإنسانية. وفي نفس الوقت يؤكد المؤتمرون على أن الهوس الديني واستغلال العاطفة الدينية لأغراض دنيوية هي حالة مرضية تمر بها المجتمعات وتتعافى منها في نهاية المطاف.

متماشيا مع كل ذلك، تبقى مسائل حقوق المرأة وما يليها ويلي الأسرة، من قانون الأحوال الشخصية، أحد المؤشرات الهامة التي تعكس درجة المدنية والحضارة التي بلغها الشعب السوداني، والدرجات التي يتطلّع لها. إن قضية المرأة، من حيث تعزيزها وتقويتها والعمل الجاد لرفع كل أنواع التمييز السلبي تجاهها، لهي الواجهة الحضارية التي تعكس مُحيّا الشعب وجوهر ثقافته وحضارته. وفي هذا تبقى اتفاقية سيداو، للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، بمثابة المحك الذي نختبر مدى تقدمنا أو تأخرنا في هذا المضمار.

إن السودان، بوصفه يقع تحت تعريف "دولة ما بعد الاستعمار" يجد نفسه أمام تحديات تاريخية تبدأ من لحظة وعيه بوضعيته هذه لتبلغ مدارج الفكر والممارسة، في السياسة والاجتماع، الراشدين لتصحيح وضعية دولة ما بعد الاستعمار. فبهذا وحده يمكن للسودان أن يتحرر من التبعية، محررا اقتصاده من النمط الريعي ليقتحم آفاق التنمية والإنتاج عبر سياسات راشدة وحوكمة أرشد. في هذا الصدد، نتوجه لكل القوى المهمشة، أكانت في الأرياف البعيدة والنائية أم كانت في المدن والمراكز الحضرية تحت أنف ونظر الحكومات، نتوجه لهم جميعا بالتحية لصمودهم وكيما يتحدوا ويجعلوا من أوضاع التهميش التي يعانون منها نقطة انطلاق لتصحيح الأوضاع.

إن احترام التعدد الثقافي والفكري ليس ترفا، بل هو أحد أهم الشروط التي بدون استيفائها، استيفاءً كفؤا ووافيا، لن يتمكن الشعب السوداني من أن ينعم بخيرات الدولة الوطنية. وضمن مهددات التعدد الثقافي والفكري يقف خطر التكفير على حرية الفكر بوصفه دالة التخلف. وبقدر ما نؤمن بفاعلية الفكر الحر في مواجهة التيارات التكفيرية وتفكيكها إلا أن هذا ينبغي أن يتساوق مع ضرورة تفعيل القوانين الفاعلة التي تعالج بحزم وبصرامة خطر التكفير وتقوم بتجريمه. إلا أن القوانين لا تقف لوحدها في فراغ، فلا مناص من أن تأتي القوانين في إطار سياسة راشدة تستهدف تفكيك كل مؤسسات الدولة الدينية كيما لا تتصدى للشأن العام وتثير الفتنة والزعازع بين المواطنين بزعم أن هذا أمر ديني. من ذلك ما عشناه مؤخراً في تدخل مجموعات دينية في أمر تخطيط المناهج والمقررات الدراسة التي عكف عليها المختصون فقامت تلك المجموعات الدينية غير المعنية فنياً بمسألة المناهج بتأليب الرأي العام وإرهاب وابتزاز القائمين على الأمر، وسعياً منها للعودة إلى مناهج العهد البائد، مناهج الدولة الدينية. ومن ما يؤسف له أن خضعت لهم السلطات القائمة بالأمر. في هذا الصدد نطالب بتأسيس مفوضية مناهضة التطرف. ونطالب كذلك بتأهيل أئمة المساجد بما يخدم السلام والتعايش الدينية. وتساوقاً مع هذا، نطالب الدولة بتفعيل القوانين تجرم التكفير وخطاب الكراهية.

كذلك فإن تحقيق النهضة وتجاوز العثرات الهيكلية والأدائية التي ورطتنا فيها الدولة الدينية التي هبت رياح ثورة ديسمبر المجيدة فدكّت حصونها، لا يمكن أن يحدث إذا لم نولِ أمر إصلاح وتعمير البيئة الأكاديمية والبحثية بعد حالة تصحير الجامعات ومراكز البحوث، والأوعية الفكرية المشابهة، وتجفيفها من أهم قيمة لها، ألا وهي حرية البحث العلمي، وترفيع وتكريس أخلاقيات البحث، بما في ذلك تأمين الجامعات، موظفين وعمالة، ثم أساتذةً وطلابا. هذا بجانب استعادة العلاقات مع الجامعات العريقة حول العالم، ومن ذلك بناء علاقات أمتن في المحيطين العربي والأفريقي. هذا مع فتح جامعاتنا مرة أخرى للتعددية اللغوية، عالميا وإقليميا ثم وطنيا. فمن بين أخطر المعتقلات السياسية التي أنشأتها الدولة الدينية المبارة كان هناك سجن اللغة، حيث تم اعتقال عقول أجيال بأكملها داخل سجن الأحادية اللغوية عبر ما أسمته الدولة الدينية بسياسات التعريب.

في ختام هذا البيان، نتوجه للشعب السوداني العملاق، ممثلا في كل ثقافاته ودياناته وإثنياته وتنظيمات السياسية والقطاعية، إلى الاحتفاء بالبناء الجماعي للوطن والمستقبل، والتعزيز لقيم التسامح الراسخة في المجتمع السوداني، والتي تجلت في فكر وحياة المفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه حتى يوم تجسيده لمعارفه على منصة الإعدام. فهذه لحظات تاريخية فريدة نقف عندها جميعا ونصب أعيننا المهام الجسيمة التي نعمل جميعا على معالجتها. في هذا الصدد، نوجه الدعوة للحكومة كيما تقوم باستعادة مسارها الثوري والعمل على ترجمة شعارات ثورة ديسمبر وتحقيق أشواق الثوار في الحرية والعدل والسلام. وأول هذه المهام هو، كما أسلفنا، تحقيق السلام في ربوع الوطن الذي لا يزال ينزف في جميع أرجائه، على تفاوت بينها.

الخرطوم – الأربعاء 20 يناير 2021

Welcome

Install
×