الملام في جريمة فض الاعتصام

أشهد أن حديث هذه السيدة يمنحني طاقة لا استطيع وصفها، استمع لها كلما شعرت بتكاثر الهموم حولي وأمواج الإحباط تطاردني، بل أكرر السمع مرات ومرات لكي أعيد لنفسي توازنها، فأنظروا ماذا قالت:

بقلم: فتحي الضَّو

أشهد أن حديث هذه السيدة يمنحني طاقة لا استطيع وصفها، استمع لها كلما شعرت بتكاثر الهموم حولي وأمواج الإحباط تطاردني، بل أكرر السمع مرات ومرات لكي أعيد لنفسي توازنها، فأنظروا ماذا قالت: (أنا بالنسبة لي القصاص كأم شهيد.. قُصي طبعاً عنده أولياء الدم غيري أنا، وعنده الشعب السوداني، اللهو في النهاية لازم يقول كلمته. أنا بنتظر الشعب السوداني يقول عايز شنو؟ لكن أنا كأم شهيد شايفه القصاص بالنسبة لي تحقيق شعارات الثورة. قٌصي لبس قميصه حق العيد. داير يعيد ما طلع عشان يكون شهيد. طلع من أجل الحرية والسلام والعدالة. بالنسبة لي القصاص إذا اتحققت الغايات دي، وسن القوانين اللهي بتساوي بين الناس في الوطن الواحد في الحقوق والواجبات، أنا بصراحة لجنة نبيل أديب ما منتظراها… وما قاعدة أسأل من القضية دي، بالنسبة لي قاضي السماء حكمه أجمل ومرضي…..) كلمات ليتها نُقشت على جدار نصب تذكاري للشهداء!

(2)

إذا لم تختلج أسارير وجوهنا، وإذا لم نغالب دموعاً حَرَّى تحاول أن تنهمل من عيوننا، فلنبحث عندئذٍ عن المفقود في وطنيتنا وإنسانيتنا. هذه السيدة اسمها إيمان، وتُكنى بأم الشهيد قُصي، وهو أحد الشهداء الأبرار الذين استبسلوا في ثورة الكرامة والقيم الموءودة. حديث كهذا ترتعد له فرائص كل من ألقى السمع وهو شهيد، إلا الذين جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم فأصابهم وقرٌ. كان رداً على سؤال في مقابلة مع راديو هلا 96 قبل نحو عام تقريباً وما يزال المتيمون به مثلي يسمعونه كلما حملته الأسافير. أما سؤال المُحاوِر الذي يبدو في عمر الفقيد (خالتو إيمان قضية قُصي هي جزء من قضية فض الاعتصام، اللي صدر قرار السيد رئيس الوزراء بتشكيل لجنة سودانية مستقلة. هل إنتوا ملتزمين باللجنة وراجيين قراراتها ولا اخذتوا منحى فردي… ؟

(3)

بعد فض الاعتصام المأساوي في 3/6/2019م كنت أحد الذين اجتهدوا في محاولة فك طلاسمه رغم أن كل شيء كان بائناً للعيان وما يزال. وبعد عدة شهور شابها القلق والتوتر والانتظار المُقيت، صدر يوم 20/10/2019م قرار رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بتشكيل لجنة مستقلة أوكلت رئاستها لقانوني ضليع، وبالرغم من أنها تضم آخرين، لكن اصطلح على تسميتها (لجنة نبيل أديب) وكان ذلك تكريماً لا يضاهيه تكريم. وهو ما كان يستلزم رد الحسنة بعشر أمثالها، وذلك بمضاعفة الجهود ومواصلة العمل ليلاً ونهاراً بُغية الوصول للحقيقة. من جانبي بمجرد صدور القرار توقفت عن كتابة سلسلة في هذا الشأن لسببين: الأول، إبداء الاحترام اللائق لأرواح الشهداء بعد أن وُسِد الأمر لأهله. أما السبب الثاني فكان لتهيئة الأجواء لهذه اللجنة لتؤدي واجبها المقدس بمهنية بعيداً عن أي تأثيرات تشوش عملها!

(4)

سار الأستاذ نبيل أديب في الدرب الوعر وعين الشعب ترعاه. بل كانوا أكثر إشفاقاً عليه من تكليف تتزلزل له الجبال. كلما طلب شيئاً قالوا له لبيك وسعديك. فباتت الشهور تتناسل والطلبات تتثاقل، وكلما أبدى ملاحظة تململت أجساد الشهداء في قبورهم، وكلما طلب تمديداً تمددت أحزان أمة بأكملها، حتى تجاوزت التمديدات المدى وتطاولت، ومع ذلك تنفسنا الصُعداء أوائل الشهر الماضي، عندما أشارت بعض وسائل الإعلام لتقديمه تقرير اللجنة لرئيس الوزراء، ولكن من قبل أن يأخذ النفس دورته الكاملة نفاه أديب في اليوم التالي بحسبه محض تقرير دوري دأب على تقديمه لرئيس الوزراء. ومن قبل أن نلعق طعم الخيبة المرير، عاجلنا أديب بطلب غريب، عبارة عن دعم لوجستي من رئيس الوزراء، وذلك بعد اعتذار الاتحاد الأفريقي على حد قوله. ومصدر الغرابة في التوقيت حيث يأتي ذلك بعد أكثر من عام، وكنا نظن أنه وضع خطته ومستلزماتها بمنهجية ووفق خارطة طريق لا تغفل شيئاً!

(5)

بات الأستاذ أديب يكثر من الأعذار في تبرير تطاول الشهور. مرة بالكورونا وأخرى بالإمكانيات وثالثة بمقارنات تستدعي تجارب دولٍ مثل لبنان وسيراليون ويوغسلافيا، مع إغفال التباينات والاختلافات التي لا تُخطئها العين. ولكن المؤسف وصفه للمتسائلين عن النبأ العظيم (بالمهرجين). مع أنه ضرب مثلاً والفريق أول شمس الدين كباشي بالتهريج الحقيقي، بما جرى على ألسنتهما الأسبوع الماضي. ابتدره الثاني في حوار على قناة النيل الأزرق نهاية نوفمبر المنصرم بنفي استدعائه للمثول أمام اللجنة جملة وتفصيلاً وقال: (لأول مرة أسمع هذا الكلام، الجيش واللجنة لم يخاطباني) فكذَّبه أديب بقوله لصحيفة الجريدة (إن الكباشي لم يكن دقيقاً وأن اللجنة خاطبت قيادة الجيش رسمياً بمثوله باعتباره ضابطاً بالقوات المسلحة، وحُددت جلسة لسماع أقواله في 16/12/2020م وهو يعلم).

(6)

بمنطق الحرب التي يهواها العسكر أو طبقاً للقول المأثور (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) دخل حلبة المشاكسة طرفٌ ثالثٌ مستنصراً بأخيه في العقيدة. إذ أصدر العميد طاهر أبو هاجة بياناً فيه من أسباب الإدانة أكثر من دعاوى البراءة. إذ قال: (تمت مخاطبة المجلس السيادي الانتقالي بهذا الطلب من قبل اللجنة في النصف الأخير من نوفمبر الماضي، والخطاب يشمل كل أعضاء المجلس العسكري السابق وليس الفريق أول شمس الدين كباشي وحده. وحددت اللجنة 16/12/2020م موعداً لبدء إدلاء الأعضاء بشهاداتهم ولم يصل الطلب إلى الأعضاء حتى اليوم) ومثل هذا التبرير المائل يقال عنه في أمثالنا الدارجة (جاء يكحلها عماها) وذلك لعدة أسباب، منها أن بيان المستشار هذا في يوم 2/12/2020م فهل كان يغط في نوم عميق منذ منتصف نوفمبر؟ وثانياً أليس الفريق شمس الدين أحد أعضاء المجلس العسكري، فكيف لا يعلم كما قال؟ وثالثاً كيف جاز لأبي هاجة الرد وهو مستشار للقائد العام وليس للقوات المُسلحة؟!

(7)

بيد أن التداعيات العسكرية كشفت عورة حديث معلول للأستاذ أديب ظلَّ يردده بين الفينة والأخرى، وهو أن اللجنة قامت باستجواب أكثر من ثلاثة آلاف شاهد. ثمَّ نكتشف فجأة بأن الفريق الكباشي وصحبه الأبرار ليسوا ضمن هذا العدد المهُول. وفي واقع الأمر لم يكن أديب في حاجة لكل ذلك العدد لو أنه اكتفى بشهادة الكباشي، تلك التي تملأ الأسافير منذ زمن مبكر موثقة بالصوت والصورة، والتي اعترف فيها بملابسات ما حدث وأهل القانون يقولون (الاعتراف سيد الأدلة) فهل يعقل أن يكون ذلك غائباً عن خُلد أديب؟ علماً بأن الإجابة على سؤال فض الاعتصام أيسر من جرعة ماء قبل أن تُطوى الصحائف، فهو يعلم ونحن نعلم وهم يعلمون. ولن تضللنا أكاذيب الجنرال مسيلمة الذي دأب على التحايل غمزاً وهمزاً ولمزاً، وكلما رأى الحبل يلتف حول رقبته راغ كما يروغ الثعلب!

(8)

مثلما ابتدرنا حديثنا بكنداكة نختمه بشذرات من حديث الغضب لكنداكة أخرى، هي أم الشهيد هزَّاع التي أدلت به في منبر سونا وقالت: (بالنسبة للتسامح مع الإسلاميين أي زول عايز يقيف في الطريق ويخت يده معاهم يتفضل يطلع برة. السودان حقنا نحنا. نحنا منو؟ نحنا الصبرنا ثلاثين سنة على اضطهاد وظلم الإسلاميين. أنا بقول بالفم المليان إذا الإسلاميين أدوني تذكرة للجنة والله ما دايراها…).

فاعتبروا يا أولي الألباب من حديث محروقة الحشا!

ملحوظة: قد لا يعلم القراء أن هذا المقال نشر قبل عام وبمناسبة مرور عام على الجريمة. وتعيد نشره اليوم بمناسبة مرور عامين وما يزال العرض مستمراً.

آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!

[email protected]

الديمقراطي

Welcome

Install
×