السُّودان والاستقلالُ المفقود !!

د. فيصل عوض حسن

 

 بقلم: د. فيصل عوض حسن

 

دَرَجَنا نحن السُّودانِيُّون على الاحتفال بذكرى الاستقلال في مطلع يناير من كل عام، نُغنِّي الأناشيد والقصائد الحَمَاسِيَّة، ونستعرض التسجيلات الوثائقية عن نضالات الأجيال السابقة ومواقفهم الوطنيَّة، وغيرها من مظاهر الاحتفاء. وتأتي ذكرى هذا العام وقلوبنا يعتصرها الألم مما يحدث لبلادنا وأهلنا، واستمرار تَعَقُّد أوضاعنا والمُهدِّدات المُفزعة التي تُواجهنا، والتي تتقاطع تماماً مع مضامين (الاستقلال) الرمزِيَّة والجوهرِيَّة، وقد تقود إلى زوال/تذويب السُّودان بكامله! 

أخطر مُهدِّدات استقلالنا يُمثِّلها الحُكَّام، سواء العَسْكَر/الجنجويد أو حمدوك وقحتيُّوه أو شُركائهم القادمين من جوبا، الذين يأتمرون جميعاً بأوامر المُتأسلمين وسادتهم بالخارج، مع استعداد (مُطلق) للعَمالةِ والخيانة والغدر، وإتاحة بلادنا وخيراتنا للقاصي والدَّاني، حتَّى أضحى السُّودان مُستباحاً بالكامل. الخطرُ السياديُّ الثاني، يُمثِّله تغيير التركيبة السُكَّانِيَّة بواسطة المُجَنَّسين/الأجانب، الذين جَلَبَهم المُتأسلمون بمجموعاتٍ كبيرة، ومنحوهم المزايا المالِيَّة والسُلطَوِيَّة، وبعضهم اسْتَوْزَر وتَقَلَّد مناصب حَسَّاسة بالدولة، كالمُرتزق حِمِيْدْتي ومليشياته المُكوَّنة من عناصر دخيلة من غرب ووسط أفريقيا، ومجموعات من الحُثالة وسَقَط المَتَاع ببعض مناطق السُّودان، والذين أغرقوا بلادنا في الإجرام بما في ذلك العاصمة، وقاموا بتصدير إجرامهم للخارج كاليمن وليبيا وما خُفِيَ أعظم. وقبل حِمِيْدْتي، تَقَلَّدَ (الإريتري) إبراهيم محمود أخطر مناصب الدولة، مُمَثَّلة في وزارة الدَّاخِلِيَّة، فقام بتجنيس عشرات الآلاف من أهله (اللاجئين) الإريتريين، وأدخلهم في جميع مرافق الدولة الحَسَّاسة، خاصةً المُؤسَّسات الأمنِيَّة والتعليم والإعلام والقضاء. وعقب (اختفاء) البشير ورُفقائه، تَغَلْغَل المُجنَّسون في جميع مفاصل (قحت) وباتوا يُسيطرون على تَوَجُّهاتها، بنحوٍ أسوأ من ذي قبل، ويقود إلى مآلاتٍ كارثِيَّة سيدفع ثمنها السُّودان وأهله، ودونكم تنسيق حمدوك وقحتيُّوه مع العَسْكَر/الجنجويد، بصناعة مسارات جوبا الوهمِيَّة المُدمِّرة، وتخصيص أخطر المسارات/الشرق للمُجَنَّسين الإريتريين، دون اعتبار لمطامعهم وأحقادهم المُتجذِّرة والمُعْلَنَة تجاه السُّودان وأهله، وولائهم المُطلق لدولتهم التي هربوا منها حُفاةً وعُراة، والحديث يطول ولا يسع المجال لتكراره وتفصيله!

يُعاني سُوداننا الحالي من الاحتلال، سواء بِغَلَبَةِ السِّلاحِ/القُوَّة أو المال، حيث تحتل مصر مُثلَّث حلايب وغالِبيَّة الأراضي النُّوبِيَّة وبعض شمال دارفور، بخلاف ملايين الأفدنة بالشِمالِيَّة وغيرها، وعبثها المُتواصل بمياهنا الإقليميَّة في البحر الأحمر. بجانب الاحتلال الإثيوبيّ للفشقة وما حولها منذ سنة 1995، وإقامتهم قُرىً كاملةً بمَحْمِيَّة الدِنْدِرْ، واستمرار إجرام مليشياتهم ضد المُواطنين السُّودانيين! وهناك المساحات الشاسعة التي التهمتها الإمارات وتركيا والصين وروسيا والسعوديَّة وغيرهم، وفق ما فَصَّلته في بعض مقالاتي كـ(أَمَا آَنَ اَلْأَوَاْنُ لِإِيْقَافِ اَلْصَلَفِ اَلْإِثْيُوْبِيّ) بتاريخ 13 أغسطس 2017، ومقالة (اَلْبَشِيْرُ وَتَعْمِيْقِ اَلْاِحْتِلَاْلِ اَلْمِصْرِيّ لِلْسُّوْدَاْنْ) بتاريخ 19 أغسطس 2017، ومقالة (تَسْلِيْمْ وَتَسَلُّمِ اَلْسُّوْدَاْنْ) بتاريخ 17 أكتوبر 2017، ومقالة (اَلْاِلْتِقَاْءُ اَلْإِثْيُوْبْيُّ اَلْإِرِيْتْرِيْ: قِرَاْءَةٌ مُغَاْيِرَة) بتاريخ 23 يوليو 2018، و(اَلْسُّوْدَاْنُ مَسْرَحُ اَلْدُّمِي) بتاريخ 5 أغسطس 2018، و(اَلْمَشَاْهِدُ اَلْأَخِيْرَةُ لِمَخَطَّطِ تَمْزِيْقِ اَلْسُّوْدَاْنْ) بتاريخ 19 أبريل 2019، وهي في مُجملها تُؤكِّد عدم استقلالنا ووقوعنا في دائرة الاحتلال.
يُعاني السُّودانيُّون وبشدة من غياب الأمن والسلام بحدودهما وأشكالهما العديدة، كالاعتقالات والإعدامات والإفقار والتجهيل المُتواصل/المُتزايد، وجرائم الحرب والإبادة الجماعِيَّة، ونَزْعْ/مُصادرة الأراضي والأملاك والمَنْعِ من العمل وغيرها من المظالم، وهذا كله لأنَّ القحتيين (تَحالفوا) مع (رُعَاة) الإجرام والقتل، وساهموا في (إعاقة) مُحاسبتهم ومُحاكمتهم و(انتقدوا) المُطالبين بذلك! ولطالما اندهشتُ من ثورتنا ضد البشير ورُفقائه المُتأسلمين، ثُمَّ (قُبولنا) بالمُجرم البرهان والمُرتزق حِمِيْدْتِي، وحُلفائهم العُملاء القادمين عبر جوبا، الذين لم يُوقفوا القتل والإجرام ضد السُّودان وأهله عموماً، أو يرفعوا المظالم المُتراكمة عن أصحاب (الوَجْعَة)، ويُشبعوا رغباتهم (المشروعة) في القصاص من الظَلَمَة، وإنَّما زادت أوضاعنا سوءاً وتعقيداً، فبجانب استمرار القتل والاغتصاب والنهب، أتتنا اتفاقات جوبا بمُصيبةٍ أعظم، مُتمثِّلة في (شَرْعَنة) المُجنَّسين وفرضهم كواقعٍ يجب التعايش معه، على نحو ما أوضحنا أعلاه!

يأتي الاصطفاف القَبَلي/الجِهَوِي كثالث المُهدِّدات (السِيادِيَّة)، فرغم الارتباط الوجداني الكبير بين السُّودانيين (الحقيقيين)، والزمالات الدِراسِيَّةِ/العَملِيَّةِ والتجاور والمُصَاهَرَاتِ بل وصِلَةِ الرَّحِم، لكن العُملاء وتُجَّار الحرب القادمين عبر جوبا، نجحوا في تأجيج (فِرْيَةِ) التهميش التي صنعها المُتأسلمون لتمزيق نسيجنا الاجتماعي، علماً بأنَّ العَدالَة القانونِيَّة والاجتماعِيَّة/الإنسانِيَّة، مفقودةٌ وغائبةٌ عن جميع أرجاء البلاد دون استثناء. والأهمَّ من ذلك، أنَّ تُجَّار الحرب القادمين من جوبا، الذين يُشعلون نيران الجِهَوِيَّة والاصطفاف القَبَلي، تحالفوا مع المُتأسلمين مراراً وتكراراً، ويتحالفون الآن مع (أزلامهم) العَسْكَر/الجنجويد، ويحيون جميعاً مع أُسرهم/عائلاتهم في دَعَّةٍ ورَغَد، ولا يدفعون تكاليف فِتَنِهِمْ التي يستخدمونها وفقاً لمصالحهم السُلْطَوِيَّة والمالِيَّة، ولنتأمَّل في علاقاتهم التشابُكِيَّة بالمُتأسلمين، ومَدَحهِم المفضوح للجنجويد وزُعمائهم القَتَلة، رغم تَدَثُّرهم بالنِّضالِ لأجلِ المُهَمَّشين (أكبر ضحايا المُتأسلمين والجنجويد)!

من مُهدِّداتِ الاستقلال أيضاً التَراجُع الاقتصادي، واستغلاله/تطويعه لـ(تركيعِنا) وتحوير خياراتنا، وفق مسارات حُكَّام السُّودان (السَّابقين والحاليين)، الذين ساهموا في تعميق مُعاناتنا الاقتصادِيَّة، ودَمَّروا عناصر/أدوات الإنتاج بالبيع أو الرَّهن، وأغرقونا في ديونٍ قاربت الـ60 مليار دولار، مع وعودهم الكذوبة بالانفراجات الاقتصاديَّة (المُتَوَهَّمة)، صعبة التحقيق والتَحَقُّق! فالمَنَح/القروض حتَّى لو حدثت فعلياً، ستكون (مُستحقَّة الدفع) سواء مالياً، أو من إرادتنا التي ما نزال نسعى لتحريرها، وستكون الانفراجة (شَكْلِيَّة) ومحدودة قِيَمِيَّاً ووقتياً/مرحلياً، وسُرعان ما ستعود مظاهر/مؤشرات الانهيار! لأنَّ مشاكلنا الاقتصادِيَّة بِنْيَوِيَّة/هيكليَّة، ونفتقد لجميع عناصر وأدوات الإنتاج، وهي حالة يستحيل مُعالجتها/تجاوُزها بالوعود الزَائفة، كأكاذيب إعفاء الديون أو رفع اسمنا من قائمة الإرهاب، أو (أوهام) التعويل على علاقات هذا أو ذاك وغيرها من المَتَاهَات، وإنَّما بالإنتاج القادر على المُنافسة في السوق الدولِيَّة/الإقليميَّة!

هناك مِحْنَةُ النُخَبةِ المُتعلِّمة الذين تركوا أدوارهم الأصيلة في التوعية/التثقيف والقيادة، وصناعة التغيير الحقيقي الذي يحتاجه السُّودان، وأصبحوا (أسرى) للموصوفين بـ(قَادَة/رموز)، ويتبعونهم بلا وعيٍ أو نقاش، ويُقاتلون دفاعاً عنهم وعن أسرَهِم أكثر من الولاء لبلدنا المُهدَّد بالتلاشي، رغم فشل أولئك (الرموز) وتركيزهم على السُلطة والثروة و(توريثها) لأنجالهم! وبعضُ النُخَبْ نأى بذاته وانزوى بعيداً، ومنهم من شَارَكَ في التدمير والصُعُود على جماجم البُسطاء وحُطَام البلاد، وقليلون يُمسِكُونَ بجَمْرِ القضيةِ لكنهم بحاجة لجهود البقيَّة. والمُدهش في الأمر، أنَّ النُخَبْ السُّودانية المُتعلِّمة مُتَّفقون تماماً على الفشل والتراجع، وفي ذات الوقت يتساءلون عن البديل الآمن، دون أن يُفكِّروا أن يكونوا هم البُدَلاء! وأكبر المُفارقات/العقبات نُجسِّدها نحن عامَّةُ السُّودانيين، بوقوع غالبيتنا فريسةً سهلة لفِخَاخِ (الإلهاء)، والانتماءات القَبَلِيَّة والحزبيَّة و(تقديس) الأشخاص، رغم أكاذيبهم/تضليلاتهم التي ظللنا ندفع تكلفتها وحدنا، من أرواحنا ومعاشنا وكرامتنا وسيادتنا الوطنيَّة!

خُلاصةُ القولِ، أنَّ بلادنا مُختَطَفةٌ بالكامل وتحتاج للتحرير بأسرع وقت، فالاستقلال الحقيقي يعني امتلاك الدولة لسُلطاتٍ داخليَّةٍ مُطلقة، على الأرض والأفراد والجماعات، ووفق تشريعات/قوانين يلتزم بها الجميع، دون استثناء بما في ذلك القائمين على إدارة شؤون البلاد. كما يعني الاستقلال تمتُّع الدولة بحُرِّيَّة قرارها، بعيداً عن أي جهاتٍ خارجيَّة، سواء كانت دول أو تكتُّلات أو مُؤسَّسات/مُنظَّمات، وفق الأعراف والمواثيق الدوليَّة المُعتمدة. وبعبارةٍ أُخرى، فإنَّ الاستقلال يعني تسيير البلد (ذاتياً) دون خضوعٍ لإرادة الغير، والحفاظ على الموارد وإدارتها بأمثل الطرق، وضمان أمن وكرامة المُواطنين وحفظ أرواحهم ومُمتلكاتهم واحترام آدميتهم، وهذه المُتطلَّبات/المُقوِّمات غير مُتوفِّرة في سُّوداننا الحالي.

إنَّنا نحتاجُ لتحرير بلادنا من كافَّة صور الاحتلال، سواء الاحتلال المُسَلَّح أو الاحتلال بالمال، ونحتاجُ لإزالة الغبائن المُشتعلة في الصدور، وتطييب النفوس المقهورة، وجَبْرِ الخواطر المكسورة، ومُحاسبة/مُحاكمة الذين أضَرُّوا ببلادنا وأهلنا و(القَصَاصِ) منهم، واعتمادِ المُؤسَّسيَّة وتَرك (تقديس) الأفراد، وإزاحة المُتخاذلين دون مُجاملة، ودعم ذلك بإلغاء جميع الجنسيَّات/الأرقام الوطنِيَّة الصادرة من 1989 وحتَّى الآن، وإخضاعها للمُراجعة الدقيقة ومُحاكمة جميع وزراء الدَّاخلِيَّة ومُدراء الشرطة ومُعاونيهم، وكل من يثبُت تَوَرُّطَه في استخراج/مَنحِ الجنسيَّة لمن لا يستوفيها، باعتبارها “خيانة عُظمى”، والعودة لقوانين الجنسيَّة التي كانت مُطَبَّقة سابقاً. مع تَحرِّي الصدق وإعْمَال الفكر في التخطيط لتحسين اقتصادنا المُتهالك، وإيقاف العبث بمُقدَّراتنا ومواردنا المُستباحة، بدلاً عن الأكاذيب/التضليل والتَوَرُّط في المزيد من القروض.

فلتتسع طموحات وآمال حِراكنا الثوري الماثل، لتشمل تحرير و(تطهير) بلادنا بالكامل، وليس فقط تغيير وجوه وأسماء، لأنَّناا نحتاج لإنقاذ السُّودان (الأرض والشعب)، من التلاشي والتذويب والاستلاب، وهذا ممكنُ جداً بقليلٍ من التخطيط والتنظيم والقيادة (الأخلاقيَّة)، بعيداً عن العواطف والمُجاملات.

Welcome

Install
×