السودان والمبادرة الأممية

ما يدور الآن في السودان من تقتيل وسفك للدماء، لم يعد يقتصر على مآسي الحرب الأهلية في جنوب كردفان، ولا على النزاعات الدامية في دارفور، ولا على الصراعات القبلية الدامية حد حرق شباب القبيلة وهم أحياء، في أبشع تجليات الهوس الإثني والعرقي، وإنما اتسعت دائرة الدم المسفوح لتحصد أرواح الشباب الذين خرجوا إلى الشوارع طلبا للحكم المدني والتحول الديمقراطي، لا يحملون من الأسلحة إلا السلمية وهتافات الحناجر، ومع ذلك تفجّرهم «الدوشكا» ورصاصات القناصة، لتتناثر أشلاء أدمغة المستقبل فوق الأجساد الغضة التي تحلم بسودان المدنية والديمقراطية الذي يحتضن الجميع.

د الشفيع خضر سعيد

 

 

بقلم :  د  الشفيع خضر سعيد

ما يدور الآن في السودان من تقتيل وسفك للدماء، لم يعد يقتصر على مآسي الحرب الأهلية في جنوب كردفان، ولا على النزاعات الدامية في دارفور، ولا على الصراعات القبلية الدامية حد حرق شباب القبيلة وهم أحياء، في أبشع تجليات الهوس الإثني والعرقي، وإنما اتسعت دائرة الدم المسفوح لتحصد أرواح الشباب الذين خرجوا إلى الشوارع طلبا للحكم المدني والتحول الديمقراطي، لا يحملون من الأسلحة إلا السلمية وهتافات الحناجر، ومع ذلك تفجّرهم «الدوشكا» ورصاصات القناصة، لتتناثر أشلاء أدمغة المستقبل فوق الأجساد الغضة التي تحلم بسودان المدنية والديمقراطية الذي يحتضن الجميع. 

لقد أشرنا في مقالنا السابق، وسنكرر هذه الإشارة في كل سانحة لما تعكسه من دلالات خطيرة، أشرنا إلى أن الفضاء السياسي في السودان، لا يزال مشوشا ومرتبكا ومتلجلج الخُطى، ويدفع بالبلاد إلى شتى الاحتمالات المرعبة. فدائرة الشر تزداد اتساعا كل صباح جديد، وأمسى حفيف أجنحة الأرواح الشريرة يملأ المكان. فالأزمة السياسية دخلت مرحلة خطيرة، وأصبحت البلاد قاب قوسين أو أدنى من تلك الاحتمالات المرعبة، ونعني جر البلاد إلى أتون حرب أهلية مجتمعية على غرار الحريق المستعر في ليبيا وسوريا واليمن، وربما كل ذلك هو جزء من مخطط مرسوم. وللأسف، يؤدي هذا المخطط فعله بسلاسة، في ظل عدد من العوامل التي توفر له الأجواء الملائمة، وتضعف من فاعلية مقاومته. ومن ضمن هذه العوامل: 

الحرب التي تدور رحاها الآن في دارفور وأطراف البلاد، وإمكانية انتقالها لتعم باقي أنحاء البلاد، خاصة وأن الأطراف المتنازعة متواجدة، وبكامل عتادها وسلاحها، في كل هذه الأنحاء.

التوتر المتصاعد في شرق البلاد في ظل التعقيدات الداخلية والخارجية المتمكنة من الإقليم والتي تجعل هذه التوترات مفتوحة على كل الاحتمالات.

 * إرتفاع وتيرة الخطاب العنصري المؤجج للنعرات العرقية والإثنية والتعصب القبلي.

حقيقة أن البلاد، وخاصة عاصمتها الخرطوم، صارت مدججة بالسلاح في أيدي عدة جيوش، وليس الجيش السوداني وحده، وهي جيوش متحفزة ولن تظل صامتة تجاه محاولات التغيير ما دام هذا التغيير سيؤثر على أوضاعها.

 * استمرار التشظي في أوساط الحركة السياسية والتباينات الواضحة في خطابها السياسي، وحتى التنظيمات التي حسمت الكثير من تلك التباينات في اتجاه توحيد الخطاب السياسي، فإنها لاتزال تتلمس الخطى لصياغة وتبني خط سياسي وخطوات عملية في مواجهة الأزمة المتصاعدة.

 * تفاقم الأوضاع المعيشية، والتي هي أصلا متردية، في ظل توقف برنامج الدعم الإقتصادي بسبب إجراءات الخامس والعشرين من أكتوبر.

كل هذه العوامل، وغيرها، توفر حاضنة ملائمة لتفجر الأوضاع واندلاع الحرب الأهلية، في بلد انهار فيه التعليم ويستوطنه الفقر والتجهيل ومحاولات إلغاء العقل، وتتضاعف فيه أعداد الأطفال المشردين دون سن الثامنة عشرة لتفوق الواحد وعشرين ألفا في مناطق السلم فقط ناهيك عن مناطق الحرب، بلد أصيب فيه التسامح الديني في مقتل، وتسممت أجواؤه بممارسات التطرف والهوس والعنصرية، بلد مغيب فيه الحكم الرشيد لأكثر من ثلاثين عاما، بلد يستميت فيه سماسرة الحروب وناهبو قوت الشعب وحيتان الطفيلية في الدفاع عن مصالحهم المتعارضة مع مصالح الوطن، وباختصار، بلد ينزلق نحو الهاوية بعجلة تسارعية، إذا لم نتمكن سريعا من تفعيل آلية فرملة عجلة هذا الانزلاق، الآلية التي جوهرها تحقيق التحول الديمقراطي والحكم المدني وسيادة حكم القانون والمشاركة العادلة في السلطة والتوزيع العادل للثروة.

نحن اليوم نعيش في عالم لا يقبل العزلة والانعزال، عالم تحكمه قوانين العولمة التي لا فكاك منها، والتي توفر تربة خصبة لتجلي ظاهرة موضوعية وحتمية، هي ما نشهده من تفاعلات وتداخلات بين مكونات هذا العالم. وهذه الظاهرة الموضوعية الحتمية، دائما ما تأتي تحت عنوان تحقيق السلام والاستقرار في العالم. ولكن، في اعتقادي هناك عدة عوامل تدفع المجتمع الدولي للمساهمة في التصدي للأزمات السياسية في بلادنا. ولعل العامل الرئيسي هو عجز القوى السياسية الوطنية وفشلها في معالجة الأزمات التي تعصف بالوطن حد تفجر الحروب ونسف الاستقرار، داخل الوطن وخارجه. ولعل هذا هو حالنا اليوم في السودان، والذي دفع بالأمم المتحدة لإطلاق مبادرة أممية أعلن عنها السيد فولكر بيرتس، الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في السودان، ورئيس بعثة «يونيتامس» الأممية المكلفة بدعم الفترة الانتقالية في السودان.

 وحسب السيد فولكر، فإن المبادرة في مرحلتها الأولى، تقوم على تشاور «يونيتامس» بشكل فردي مع مجموعة واسعة من أصحاب المصلحة السودانيين لمعرفة آرائهم حول القضايا ذات الأولوية ورؤيتهم بشأن كيفيّة المضيّ قدماً في دعم العملية السياسية في البلد. والمقصود بأصحاب المصلحة هم: الحكومة والأحزاب السياسية والحركات المسلحة والمجتمع المدني والمجموعات النسائية ولجان المقاومة والجهات الفاعلة الأخرى الحكومية وغير الحكومية، مع التأكيد على أن مساهمات النساء والشباب ستلعب دورا حاسما وأساسيا في هذه العملية لتحقيق أيّ مسار مستدام للمضيّ قدماً. 

ومع التأكيد أيضا بأن الأمم المتحدة ستلعب دور الميسر فقط، ولن تفرض أي مقترحات أو أجندة بعينها، بل ستترك ذلك للسودانيين أنفسهم. بهذا الفهم، فإن المبادرة الأممية في مرحلتها الأولى لا تتضمن أي إشارات للتفاوض أو خلافه، بقدر ما يمكننا التعامل معها كمنبر يحقق وحدة قوى التغيير عبر جلوس هذه القوى مع بعضها البعض في ظل التشظي والتشرذم الذي تعانيه اليوم، ومن ثم توافقها وتوحدها على الخطوات التالية، كما يمكن التعامل معها كإحدى آليات الفرملة لمنع انزلاق البلاد إلى الهاوية، ولمنع المزيد من سفك الدماء. وبهذا الفهم، نحن ندعم هذه المبادرة، ونرى أنها يمكن أن تحقق ما دعونا إليه في مقالاتنا السابقة حول وحدة قوى التغيير على أساس أرضية مشتركة أساسها القواسم المشتركة العظمى بين مختلف الرؤى والمواثيق لهذه القوى.

Welcome

Install
×