لجان المقاومة: هل إلى خروج من سبيل؟
لا شكّ أنّ هذا الجيل من الشباب له تميّزه عن الأجيال السابقة، ولكنّه يحمل أيضاً بعضاً من صفات الأجيال السابقة، وستنتقل منه صفات للأجيال اللاحقة. فهو جيل وفّرت له الظروف أدوات لكسب الوعي والتواصل لم تكن متوفّرة للأجيال السابقة ممّا جعل التفكير أكثر عمقاً وأصالة، والعمل الجماعي أكثر سهولة في كلّ أرجاء الوطن، بدلاً من التركيز على المدن الكبرى.
متظاهرون في شروني بالخرطوم الاثنين 7 فبراير 2022
بقلم: د. عبدالمنعم عبدالباقي علي
لا شكّ أنّ هذا الجيل من الشباب له تميّزه عن الأجيال السابقة، ولكنّه يحمل أيضاً بعضاً من صفات الأجيال السابقة، وستنتقل منه صفات للأجيال اللاحقة. فهو جيل وفّرت له الظروف أدوات لكسب الوعي والتواصل لم تكن متوفّرة للأجيال السابقة ممّا جعل التفكير أكثر عمقاً وأصالة، والعمل الجماعي أكثر سهولة في كلّ أرجاء الوطن، بدلاً من التركيز على المدن الكبرى.
ولكن لا تزال تعوّقه بعض الطباع التي أقعدت الأجيال السابقة عن تحقيق وطن مُعافي يسع الجميع، وسأعرض لبعض هذه الطباع تنبيهاً لخطورة أثرها على العمل الجماعي لتحقيق الأهداف التي لا يختلف عليها الكثير من الناس.
والإنسان نتيجة بيئته وأهمّها التنشئة والسياق، وهذا يعني أنّ الوعي بالواقع والوعي بالنفس هما أساس التغيير.
وجيلنا، في معظمه، كان ضحيّة حرمان عاطفي وقسوة وعنف بدني وعاطفي ونتيجة ذلك خلل في التحّكم في العواطف، وشدّة الانفعال والتّهوّر، واختلاط المشاعر مثل اختلاط مشاعر الحبِّ والغضب تجاه الوالدين، وعدم الثقة بالآخرين، وتوقّع الأسوأ مع غلبة أحاسيس التشاؤم، والسعي للكمال، والتركيز على أخطاء وهنّات الآخرين، والاهتمام الشديد برأي الناس فيك والسعي لإرضائهم، وتضخّم الذات أو صَغَارها، والاعتداد بالرأي، والصلابة الفكرية مع اليقين في أفكارك، وتبخيس قيمة الآخرين أو تقديسهم، واستعجال النتائج واستسهال المسئولية.
وتنشئة الخوف تؤثر على نمو المخ ونوع التفكير، فرغم الذكاء الأكاديمي، يصير المخ بدائياً يفكّر بطريقة منفعلة وفي حالة كرٍّ وفر طيلة حياته وبذلك يحرم من الذكاء العاطفي والتفكير النقدي والتحليلي والاستراتيجي، ولذلك يكرّر أخطاءه ولا يتعلّم منها.
كلّ ذلك يتمّ دعمه في مراحل الدراسة التي تركّز على التعليم السطحي والتلقين والحفظ، من غير الالتفات لأنواع التفكير الناضجة، وأنواع الذكاء الأخرى مثل الذكاء العاطفي والذكاء الأخلاقي والذكاء الإبداعي، وإنّما يكون التركيز على الذكاء الأكاديمي والاجتماعي.
هذه التنشئة تقوّي بعض الطباع أوّل طباع أهل السودان هي الريبة وهي تعني الشكّ والظن والتهمة. والريبة تنتج طبعين آخرين وهما التنافس المريض والحسد. فكلّنا يعلم أنّ التلاميذ في المدارس والأطفال في البيوت والأحياء يتنافسون ليكونوا من الأوائل، وندرك مدي احتفالنا بمن يحظى بمرتبة في الخمسة الأوائل، ولذلك نذيع العشرة الأوائل في الإذاعة ويحتفل بهم كلّ الناس وخاصّة الأول. وقد سمعنا من يقول إنّه في الخمسة الأوائل في المجلس العسكري.
وبرغم احتفالنا بالأوّل فهو الذي يترصّد به بقيّة التلاميذ ليضربوه حسداً لتفوّقه عليهم ويقع نفس المصير على الأخير أيضاً. هذا يعرف بالتناقض المعرفي والسلوكي وهو طبع متأصّل عند شعوب السودان.
ولماذا هذا التنافس المريض على الريادة؟ هناك أسباب عديدة منها أنّ الطفل عبارة عن استثمار للعائلة، فالتفوّق يعني الوظيفة المجزية والوضع الاجتماعي المميّز الذي سيضمن وضعاً مريحاً للعائلة، ومنها التفاخر بين الأسر والقبائل، ومنها انتفاخ الذاتية عند أهل السودان للدرجة المرضية التي لا تري مثيلاً لها في كلّ بقاع العالم.
إن مثل هذا العقل ينجح في تحقيق الخطوات الأولي من مشروعه، ولكنّه يفشل في إكماله. نري ذلك في نجاح الثورات في أولها ثم انزلاقها للشمولية مرّة بعد أخري. السبب هو غياب أنواع التفكير الناضج التي هي أدوات إيجاد الحلول مثل الرؤية والخطط والبرامج.
ومن أكثر صفات هذه الشخصية هي الإيثار المريض، أي أن تضحّي بكلّ ما عندك للآخرين حتى تظهر أنّك كريم، ولذلك تضع الآخرين وما يظنّونه عنك أكبر الأولويات على حساب الذين ترعاهم، ومن منّا لا يذكر أنّ أفضل الحلوى، وطقوم الشاهي والطعام، وفرش الأسرّة يحتفظ بها للضيوف، وأهل البيت يأكلون ما تبقّي؟ ومن منّا لا يعرف النعيم ود حمد الذي سارت باسمه الركبان؟ أو وصف الحاردلو لخاله عمارة ود علي ود أبو سن، الذي كان يقاتل جيوش أعدائه طيلة النهار ثمّ يطعمهم بالليل ليواصل قتالهم في الصباح: كاتال في الخلا عقبان كريم في البيت؟
أو إنقاذ شباب الثوار للعسكري الذي كان يطلق عليهم الرصاص عندما أُصيب. هذا هو التناقض المعرفي السلوكي الذي تجده في السودان، بحيث تسكن المتناقضات جنباً إلى جنب في العقل الجمعي، من غير أن تثير تساؤلاً، بل قد تثير استغراباً إذا تحدّثت عنها.
فتجد السوداني في أسمال بالية، ويجلس على سرير متهتّك، وعنده من الأمراض ما يكفي قبيلة، وهو جاهل ورغم ذلك يري شخصاً من دولة أخري، هو مثال للحضارة والأخلاق، دونه في كلِّ شيء. ويظهر ذلك في ثقافتهم مثل: نحن ناس نقعد نقوم على كيفنا، وفوق رقاب الناس مجرّب سيفنا.
أي أنّهم أمّة غير الأمم لا يحكمهم منطق ولا نظام، وهذه حقيقة نجدها متمثّلة في واقعنا الحاضر إذ أنّ ما يحدث هو عبث بكلّ المقاييس، لأنّ الناس تفعل ما يحلو لها وتكسّر كلّ الأنظمة وكل نسق ممكن. السوداني بطبعه فوضوي يريد من الآخرين أن يكونوا عقلانيين ومنظمين، بشرط أن يقتنعوا أنّ ما يقوله وما يفعله هو الحق الذي لا يُعلي عليه، وأنّه حكيم زمانه ويري ما لا يراه الآخرون، ولذلك فهو الاستثناء من القاعدة الذي يحقّ له كسر القانون الذي يكتبه بيده.
هذا السعي للتمايز يجعل من العمل الجماعي أمراً شاقّاً وأقرب للمستحيل، ولذلك تجد سلوك السودانيين المتناقض، والذي كانوا يفتخرون به، وهو التوافق الاجتماعي في حالات النفير مثل الأعراس والمآتم وغيرها، والتناحر السياسي عندما يكون هناك أمر عام مثل بناء مدرسة مثلاً، فهم أقرب للخلاف والاختلاف من الاتفاق، وتشتعل حينها كلّ معاني الريبة من شكّ في النوايا، وسوء ظنّ بالآخرين، والتهمة بالخيانة وما شابه. وهو سلوك لا يفهمه الكثيرون من شعوب العالم. وهناك أمثلة كثيرة منها مثلاً في محادثات نيفاشا كان الطرفان في حالة حرب في الميدان وخلال الاجتماعات يصوبان السهام لبعضهما البعض، وما إن ينفضّ التفاوض حتى يحتضن الأخوة الأعداء بعضهما البعض، ويتبادلان الذكريات يضحكان، ويجلسان على مائدة طعام واحد. ومثل هذا كثير.
هذه الطباع هي التي تجعل الأحزاب السياسية والحركات المسلحّة والجاليات ومجموعات العمل الاجتماعي والمدني، بأشكالها المختلفة تنشطر مثل الأميبا، لأنّ الكلّ يسعي للتمايز ولا يقدر على العمل الجماعي، ولأنّ الجميع لا ثقة له في الآخر، ولا يظنّ أنّ أحداً يملك الحقيقة أو يقدر على الرئاسة غيره.
لقد نجحت لجان المقاومة في تحقيق الخطوات الأولي من الثورة، وفي مواصلة إضرام نار الثورة المستمر، بامتلاكها الأدوات التي تساعد على ذلك مثل التفكير الانفعالي، وروح النفير والإيثار المريض، ولكنّها لن تستطيع أن تكمل المشوار إلا إذا استعانت بعقول مختلفة ذات أنواع تفكير ومهارات وخبرات مختلفة، وتثق فيها. وهذا يعني أن تقوم هذه العقول بالعمل معهم لبناء ميثاق واحد يوحّد الرؤية، والعمل على توحيدهم في جسم سياسي واحد، ذا قيادة هرمية واحدة، تستطيع أن تكوّن حكومة ظلٍّ واحدة متفق عليها، ثمّ تسعي بعد ذلك لتوحيد الصف السياسي مع بقية الأحزاب حول أهداف واحدة، لتجابه وتهزم الطغيان، وهو أمر عصيب ذو ثمن عالٍ وغالٍ.
وقد رأيت بعض المواثيق التي كتبتها لجان مقاومة في مدينة ود مدني والخرطوم جنوب وكرري ولجان الخارج وفيها مجهود مُقدّر، ولكنّها مختلفة في الكثير من النقاط والمفاهيم، وتقوم على تنظير مختلف. هذه بداية طيبة للعصف الذهني الذي يجب أن يعقبه تكوين لجنة تناقش المحتوي، وتبني منها جميعاً ميثاقاً واحداً يقوم على فهم الواقع، وعلى الدليل العلمي واستشراف المستقبل. وأرجو أن تنظر كل لجنة مقاومة لمشروع ميثاقها على أنّه إضافة فكرية تدعو للنظر فيها، نقداً، وتحليلاً، وإضافة أو حذفاً، لا على أنّها الحقيقة التي لا يمكن أن تحيد عنها، أو تدخل في روح التنافس المريض الذي يريد أن يتصدّر القائمة فيكون أوّل السودان.