عسكر السودان ومناجم الذهب : من البشير إلى بوتين

في أواخر العام 2021 انهار منجم بدائي للتنقيب عن الذهب غرب دارفور، في السودان، وخلّف 38 وفاة؛ وقبله، مطلع العام ذاته، انهار منجم آخر مشابه فأودى بحياة خمسة أشخاص. حوادث أخرى مماثلة وقعت، وتقع باستمرار، من دون أن تُسلّط عليها أضواء كافية في الإعلام؛ لسبب جوهري أوّل هو أنها، رغم اعتبارها مناجم «مغلقة» حسب التصنيف الوزاري الرسمي، تقع تحت وصاية وإشراف وأحياناً تشغيل «قوات الدعم السريع» التي قودها محمد حمدان دقلو (حميدتي).

 

 

بقلم : صبحي حديدي

 

في أواخر العام 2021 انهار منجم بدائي للتنقيب عن الذهب غرب دارفور، في السودان، وخلّف 38 وفاة؛ وقبله، مطلع العام ذاته، انهار منجم آخر مشابه فأودى بحياة خمسة أشخاص. حوادث أخرى مماثلة وقعت، وتقع باستمرار، من دون أن تُسلّط عليها أضواء كافية في الإعلام؛ لسبب جوهري أوّل هو أنها، رغم اعتبارها مناجم «مغلقة» حسب التصنيف الوزاري الرسمي، تقع تحت وصاية وإشراف وأحياناً تشغيل «قوات الدعم السريع» التي قودها محمد حمدان دقلو (حميدتي).

ولا يخفي حميدتي اتجاره بالتنقيب عن الذهب، وبيع سبائكه إلى دبي وأسواق أخرى في الإمارات، وقد أقرّ بهذا في حوار مع الـ BBC سنة 2019: «لستُ أوّل رجل يملك مناجم ذهب، ولدينا بالفعل مناجم ذهب، ولا شيء يمنعنا من الاتجار بالذهب»؛ ما عدا، بالطبع، أنّ تاجر الذهب هذا هو اليوم الرجل الثاني الأقوى في السودان، بعد عبد الفتاح البرهان؛ وما عدا، كذلك، أنّ تجارته بدأت بترخيص مباشر من طاغية السودان السابق عمر البشير، الذي أقطعه في سنة 2017 منطقة جبل عامر شمال دارفور، الغنية بالمعادن والذهب خاصة.

أكثر من هذا، كان حميدتي قد أطلق شركة باسم «الجنيد» يديرها شقيقه من حيث الشكل، وصدّرت سبائك ذهب بعشرات الملايين من الدولارات بعد أن كان البشير قد أوعز إلى المصرف المركزي السوداني بعدم فرض أي قيود على أعمال حميدتي؛ كما أوضح تقرير مفصل شهير نشرته وكالة رويترز أواخر العام 2019. وأمّا اليوم فإنّ ميليشيا «فاغنر» الروسية (ليس من دون مصادقة مباشرة من آمرها الفعلي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين) هي التي تتولى تأمين أقنية صادرات الذهب، بحيث باتت حلقة الوصل بين البشير وبوتين عبر حميدتي أضيق من أن تخطئها العين المجردة!

ومن نافل القول أنّ لحميدتي شبكة شركاء داخل الهرم الأعلى في مؤسسات الجيش والأجهزة الأمنية، وبالتالي ليس انقلاب 25 أكتوبر 2021 مجرد رقم يُضاف إلى 17 انقلاباً في تاريخ السودان؛ بل هو، كذلك، تدخّل صريح وفاضح وفظّ لحماية تجارة العسكر الكبرى. ولا يتوجب أن تُغفل حقيقة أنّ السودان يُعتبر الثاني في مخزون الذهب على نطاق القارة الأفريقية، وثمة استطراداً ما يُسيل الكثير من لعاب الشريحة العليا من جنرالات السودان؛ خاصة حين تكون التجارة مصدراً لتمويل الاستبداد الداخلي من جهة أولى، ولشراء الرضى الخارجي الإقليمي والدولي من جهة ثانية.

استيلاء العسكر على مناجم الذهب يزداد خطورة في ضوء ظاهرة أولى اجتماعية/ اقتصادية لا تغيب عنها أيضاً عواقب صحية وبيئية عديدة، هي أنّ قرابة مليونَيْ مواطن سوداني يشتغلون بالتنقيب في مناجم بدائية لا تتوفر فيها الحدود الدنيا من السلامة والأمان؛ إلى جانب أنها تُدار من جهات لا تكترث بحقوق العاملين، أو تعتمد تشغيلاً أقرب إلى السخرة وتعاقدات السوق السوداء. الظاهرة الثانية هي أن رعاة العسكر الخارجيين ليسوا مجرّد تجّار أو سماسرة أو وسطاء، بل هم غالباً أنظمة وأجهزة ومراكز نفوذ سياسية ومالية.

ولم يكن مستغرباً أن يقوم حميدتي بزيارة إلى موسكو عشية الغزو الروسي في أوكرانيا، إذْ كانت الروابط بين سبيكة الذهب ومرتزق «فاغنر» وثيقة الصلة بما يخطط له الكرملين على نطاق واسع في تلك البقاع من أفريقيا؛ وأمّا طرائق التخاطب، الصريحة أو الخافية، بين عسكر السودان ودولة الاحتلال الإسرائيلي فإنها، بدورها، لا تخرج عن مبدأ حاجة الجنرالات إلى حفظ بقاء الانقلاب ومعادلات السلطة وتوازناتها.

وكلّ هذه السبائك المنهوبة في بلد كان فيه سعر رغيف الخبز قرابة جنيهين أيام الطاغية البشير، وهو اليوم 50 جنيهاً؛ وأمّا التضخم فقد بلغ 250، وهبطت العملة الوطنية إلى حضيض غير مسبوق، وزادت الأسعار بنسبة تفوق 30% 

Welcome

Install
×