180 يوماً من المعارك في الفاشر.. قصة مدينة كادت أن تتحول إلى ركام
الفاشر: 16 نوفمبر 2024: راديو دبنقا
معارك ضارية تتخللها لحظات هدوء، وقصف مدفعي تعقبه غارات جوية، منازلٌ مهجورة، ومبانٍ تحولت إلى أنقاض، وشوارع تخلو من المارة نهارا، وظلام دامس ليلاً، وأسواق مغلقة، وأشجار جفت أوراقها، وحشائش كثيفة تغطي ساحات المنازل والطرقات.. هكذا تبدو الحياة في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور خاصة في شرق ووسط المدينة بعد أكثر من ستة أشهر من الاقتتال المستمر بلا هوادة بين الجيش والقوة المشتركة للحركات المسلحة من جهة وقوات الدعم السريع.
واندلعت المواجهات العسكرية المفتوحة في الفاشر في مايو الماضي وأدت حتى الآن إلى مقتل آلاف المدنيين ونزوح أكثر من 410 ألف شخص من المدينة.
ويقول الصحفي معمر إبراهيم، في اتصال عبر الإنترنت الفضائي “ستارلينك”من الفاشر مع راديو دبنقا، إن الاقتتال الدامي أدى إلى تشويه معالم وملامح المدينة تماماً، خاصة السوق الكبير. ويؤكد على أن 90 في المائة من المباني الخاصة والمرافق العامة في وسط المدينة وشرقها وفي السوق الكبير تضررت جراء القصف المستمر مبيناً أن الضرر طال حتى مبنى قيادة الفرقة السادسة للجيش. ويضيف “لا يوجد حائط سليم، جميعها تضررت جراء القصف والاقتتال، واختفى الوجه الأخضر للمدينة، واتشحت بالملامح الكالحة”.
ومدينة الفاشر حاضرة ولاية شمال دارفور هي عاصمة الولاية الوحيدة في دارفور التي ما زالت تحت قبضة الجيش، بينما تسيطر قوات الدعم السريع على عواصم الولايات الأربع الأخرى. وفي حال تمكنها من السيطرة على الفاشر، تكون قوات الدعم السريع قد أحكمت قبضتها على إقليم دارفور، وتكون القوات المسلحة والحركات المسلحة قد فقدت معقلها الأخير في الإقليم.
أسواق مغلقة
يقول التاجر أحمد محمود الذي يعمل في مجال بيع الخضروات لراديو دبنقا:” اضطررت لنقل نشاطي التجاري من السوق الكبير إلى سوق المواشي بعد إغلاق الأول قبل أشهر جراء تصاعد العمليات القتالية، كما لجأ زملائي للانتقال أيضا من سوق أم دفسو إلى سوق المواشي بعد إغلاقه جراء القصف المدفعي المستمر الذي أودى بحياة عدد من المواطنين”.
ويشهد السوق الكبير في الفاشر توغلاً لقوات الدعم السريع بين الفينة والأخرى حيث نشرت قوات الدعم السريع يوم الخميس الماضي مقاطع فيديو عن دخولها إلى مقري رئاسة طوارئ شرطة الولاية ورئاسة شرطة الولاية الواقع جنوب غرب سوق الفاشر الكبير بوسط المدينة. بجانب عدد من المباني العالية القريبة من القيادة، وبالمقابل نشرت القوة المشتركة للحركات المسلحة مقطع فيديو من نفس الموقع.
وتابع التاجر احمد قائلا اضطررت الآن للانتقال للمرة الثانية إلى سوق معسكر زمزم “20 كيلومترا جنوب الفاشر” للاستمرار في السعي لكسب العيش وذلك بسبب سقوط القذائف المستمر على سوق المواشي.
ويوضح الصحفي معمر إبراهيم أن نحو 80 في المائة من المتاجر في سوق المواشي أغلقت أبوابها، وأن محلات بيع الخضروات واللحوم تعمل بصورة مستمرة حتى في ظل استمرار عمليات القصف، وقال إن سوق نيفاشا بشمال المدينة وسوق معسكر زمزم جنوبي المدينة يعملان بصورة منتظمة فيما تم إغلاق السوق الكبير وسوق أم دفسو منذ أشهر، حيث تحولت منطقة السوق الكبير وشرقها ومنطقة سوق أم دفسو إلى ساحة مواجهات مفتوحة ساخنة ومشتعلة .
ويشير تجار في سوق المواشي إلى أن بعض المحلات التجارية في السوق تعمل بصورة جزئية ولساعات محدودة وتسارع بالإغلاق في حال اشتداد حدة القصف والمعارك البرية.
أزمة خانقة في السيولة النقدية
وفي ظل الحصار المفروض على المدينة من قبل الدعم السريع، تعتبر مناطق جبل مرة هي المصدر الوحيد للمحاصيل، ومع ذلك فقد شهدت أسعار السلع انخفاضاً ملحوظا حيث بلغ سعر ملوة الذرة الماريق 14 ألف جنيه بدلاً عن 20 الفا، بينما بلغ سعر رطل السكر ألف ونصف جنيه.
ويؤكد الصحفي معمر ابراهيم على توفر السلع الأساسية في المدينة خاصة الدقيق والسكر والزيت، مع استقرار الأسعار رغم استمرار القتال والحصار، ويضيف “لكن ما يؤرق حياة الناس يتمثل في عدم توفر السيولة النقدية، وتفاوت الأسعار بين السداد نقدا وعبر التطبيقات البنكية”.
ومنذ اندلاع الحرب توقفت جميع المصارف في الفاشر وعدد كبير من مناطق سيطرة الدعم السريع مما أدى لتفاقم معاناة المواطنين.
ويشير إلى استمرار حركة نقل السلع والبضائع من جنوب غرب المدينة إلى داخلها مع استمرار المواطنين في ابتداع طرق لإدخال البضائع بالمحور الشمالي.
حركة حذرة
ويقول عدد من سكان الفاشر لراديو دبنقا إن المدينة تستيقظ وتغفو على أصوات الرصاص ودوي المدافع والقذائف، لحظات هدوء تعقبها ساعات من الاشتباك ليلا ونهارا، وتشتد وتيرة الاقتتال خلال ساعات النهار مع هدوء نسبي مساءا.
ويرى الصحفي معمر إبراهيم أن التكتيكات العسكرية المستخدمة أضرت كثيرا بالمدنيين، مشيرا إلى استخدام مدافع الهاون بكثافة.
ووصف حركة المواطنين والمركبات في المدينة بأنها حذرة، حيث يضطر المواطنون للخروج من منازلهم لقضاء احتياجاتهم الضرورية خلال أوقات تراجع وتيرة الاقتتال. وأضاف” يذهب سكان المدينة إلى المستشفيات لتفقد ذويهم أو شراء احتياجاتهم الضرورية في الصباح الباكر ويسارعون في العودة إلى منازلهم كما تتزايد حركة المركبات مساءا بينما يتجنب المواطنون الخروج من منازلهم نهارا حيث تتصاعد وتيرة المعارك”.
مستشفيات خارج الخدمة
وقال عدد من سكان المدينة لراديو دبنقا إن مستشفى النساء والتوليد ” المستشفى السعودي” هو الوحيد العامل في الفاشر والذي تحول إلى مستشفى عام يعمل على تقديم الخدمة للمدنيين وذلك بعد خروج جميع المستشفيات من الخدمة بسبب القصف، فيما يعمل مستشفى السلاح الطبي على تقديم الخدمة للعسكريين.
وتضم الفاشر 5 مستشفيات رئيسية، وهي المستشفى التعليمي، ومستشفى النساء والتوليد التخصصي(السعودي)، والمستشفى العسكري، ومستشفى الشرطة، ومستشفى الفاشر الجنوبي. حيث خرجت جميع المستشفيات عن الخدمة عدا المستشفى السعودي والعسكري.
وأعرب المواطنون عن مخاوفهم من خروج المستشفى السعودي عن الخدمة في ظل تصاعد وتيرة العمليات واستمرار القصف.
ويشير عدد من مواطني المدينة إلى اكتظاظ المستشفى السعودي بالمصابين جراء العمليات العسكرية الجارية مما يؤدي إلى صعوبة استقبال حالات المرض الأخرى. ونوهوا إلى أن المستشفى يقدم الإسعافات الأولية ويجري العمليات الجراحية، فيما يواجه الذين يحتاجون لتدخلات جراحية لإزالة الذخائر أو الشظايا من أجسادهم صعوبات بالغة في ظل عدم قدرة المستشفى الوحيد على تغطية جميع الحالات.
من جانبه نوه الصحفي معمر إبراهيم إلى استمرار تقديم الخدمة في المستشفى السعودي طوال ال 24 ساعة رغم استمرار القصف المكثف .
وقال إن أزمة السيولة النقدية أثرت على الجانب الصحي، مبينا أن جميع الخدمات في المستشفيات مدفوعة القيمة عدا الإسعافات الأولية الطارئة، و إن بعض العمليات الجراحية تتعثر لعدم قدرة المواطنين على الحصول على الأدوية والمعينات الطبية مثل الشاش، مشيرا إلى ارتفاع أسعارها عبر تطبيق بنكك. ويشيد معمر باستمرار عمليات الوقاية والرش في المدينة رغم استمرار الحرب.
وبالمقابل أكد المدير العام لوزارة الصحة بولاية شمال دارفور الدكتور ابراهيم عبدالله خاطر في تصريحات صحفية التزام وزارته بتقديم الخدمات الصحية لكافة المرضى بجميع المرافق الصحية مجانا .
وقال أحد المواطنين لراديو دبنقا إن هناك عدد من المراكز الصحية المستمرة في العمل مثل مركزي صحي أولاد الريف، ومركز صحي عبد السلام شمال الفاشر، بجانب مركز صحي سيد الشهداء في الاتجاه الجنوبي الغربي من المدينة بالقرب من سوق المواشي. حيث تعمل المراكز على تقديم خدمة الإسعافات الأولية قبل نقل المصابين إلى المستشفى وأشار إلى شح شديد في الأدوية مع ارتفاع أسعارها.
وتشكو الكوادر الطبية في المراكز الصحية من نقص الأدوية ومعدات المعامل وأدوات النظافة إضافة إلى عدم توفر الملاجئ الآمنة للعمل الطبي ، بجانب استمرار انقطاع الكهرباء والمياه وعدم توفر الحوافز للكوادر العاملة وضعف التنسيق وتداخل السلطات والصلاحيات في العمل الفني والإداري بين مقدمي الخدمة الصحية من العاملين والمبادرين والمتطوعين.
نزوح مستمر
ومع تصاعد القتال خلال الأسبوعين الماضيين، اضطر عدد كبير من مواطني الفاشر إلى النزوح إلى معسكر زمزم وقرى جنوب الفاشر بينما وصلت أعداد أخرى إلى طويلة وكبكابية ومناطق جبل مرة.
وقالت مواطنة من الفاشر لراديو دبنقا إنهم اضطروا للخروج من الفاشر إلى معسكر زمزم وقرى جنوب الفاشر بأعداد كبيرة بسبب تزايد حدة القتال.
ووفقا لمصفوفة تتبع النزوح التابعة لمنظمة الهجرة الدولية، تسبب القتال بمدينة الفاشر منذ مايو الماضي في نزوح نحو 410 آلاف شخص إلى مناطق جبل مرة ومناطق أخرى في البلاد.
وكشفت المصفوفة في تقرير آخر عن نزوح 400 أسرة من الفاشر في الفترة من 7 إلى 12 نوفمبر جراء تصاعد العمليات العسكرية خاصة في الأحياء الشرقية والجنوبية الشرقية. وأوضحت المنظمة أن النازحين فروا إلى مناطق أخرى داخل الفاشر ومناطق طويلة وكبكابية بشمال دارفور فيما اضطر بعضهم للجوء إلى تشاد.
ولكن الصحفي معمر ابراهيم يرى أن حركة النزوح أقل من الفترة الأولى لاندلاع المواجهات في الفاشر، مبيناً أن بعض الأسر تذهب إلى معسكر زمزم وتعود مساء بعد هدوء العمليات العسكرية. ويضيف قائلا :” القصف المدفعي يؤرق حياة المواطنين. الطيران الحربي لا يعمل بفاعلية في مواجهة مدفعية الدعم السريع، ولن يتوقف هذا القصف إلا في حال سيطرة الجيش على تلك الجبال التي تنصب فيها المدفعية بشرق المدينة”.
لا كهرباء ولا مياه ولا اتصالات
ويشكو مواطنو الفاشر من استمرار انقطاع التيار الكهربائي وارتفاع أسعار مياه الشرب.
ويؤكد الصحفي معمر ابراهيم في مقابلة مع راديو دبنقا استمرار انقطاع التيار الكهربائي في المدينة منذ اندلاع الحرب، مع عدم توفر المياه.
وقال إن المواطنين يضطرون لشراء برميل مياه الشرب من عربات الكارو بثمانية آلاف جنيه، وإن الأسرة تستهلك نصف برميل يومياً، مبينا إن باعة المياه لا يتعاملون عبر التطبيقات .
وأكد إن معظم مواطني المدينة يستخدمون خلايا الطاقة الشمسية في منازلهم للحصول على الكهرباء.
وقال مواطنون من الفاشر لراديو دبنقا إن جميع شبكات الاتصالات مقطوعة من المدينة وإن الوسيلة الوحيدة للتواصل هي شبكات الإنترنت الفضائي(ستارلينك)، وإن المواطنين يجدون صعوبة في التواصل مع ذويهم بسبب إغلاق السلطات لمحلات (ستارلينك) لدواعي تصفها بالأمنية.
ومع استمرار جميع الأطراف في حشد قواها والدفع بها باتجاه الفاشر في شمال دارفور، وفي ظل عدم التزام الدعم السريع بقرارات رفع الحصار عن المدينة وإيقاف الهجمات، وتواصل القصف الجوي بواسطة طيران القوات المسلحة، ومع عدم قدرة أي طرف الحسم العسكري للمدينة يتوقعوتو مراقبون أن تستمر المعارك لأطول فترة مما يفاقم معاناة المواطنين ويؤدي لتدفق المزيد من النازحين واللاجئين في رحلة جديدة محفوفة بالمخاطر.