ياسر عرمان: عزيزنا عمر الدقير: أيهما نسقط الإمبريالية أم نظام الانقاذ ..

حديثي هذا حديث عابر ولا يمثل ما أريد أن اكتبه عن هذه القضية بعمقها واتساعها، والاحاديث العابرة لا تتيح فسحة الوقت والفكرة المناسبة للسياحة …

ياسر عرمان(ارشيف)

بقلم: ياسر عرمان

 

حديثي هذا حديث عابر ولا يمثل ما أريد أن اكتبه عن هذه القضية بعمقها واتساعها، والاحاديث العابرة لا تتيح فسحة الوقت والفكرة المناسبة للسياحة في عوالم أحبائنا الشيوعيين، فيمضي الزمان وتنقضي أحداثه وهوى الشيوعيين وحبهم لا ينقضي. ولكن حديث عمر الدقير، هذا الحديث المخلص والمهذب لابدّ أن ترفع له القبعات.

لو فتح الشيوعيون السودانيون قلوبنا وأذهاننا لأدركوا كم هي المحبة التي نكنّها لهم، كيف لا، ونحن الذين تعلمنا على أيديهم والتقينا محمد إبراهيم نقد وتيجاني الطيب وعز الدين علي عامر والجزولي سعيد (عم بشير) وعبد الحميد علي (عثمان جزيرة) وأنور زاهر (عمر آدم) وفاطمة السمحة وسعاد ومحجوب عثمان ومحجوب شريف وعلي الماحي السخي وحُميد ومحمد وردي وسيد نايلاي والطيب الدابي وشيخ الخير ود بريمة وعبد الوهاب صالح، ود. فرح حسن آدم والتيجاني موسى عبد الكريم وعيسى أحمد آدم (حكيم) ومحمد أحمد الشكري وزكريا أبو جودة ود. كامل إبراهيم وسعودي دراج والخاتم عدلان، عبد الماجد بوب وأبوبكر الأمين من ضمن قائمة طويلة لأناس سامقين تحت الأرض أحياءُ. كما التقينا بالذين لم نلتقيهم عبد الخالق محجوب والشفيع احمد الشيخ وحسن الطاهر زروق وجوزيف قرنق وقاسم أمين والتيجاني الساكن جاد كريم، هذه الكوكبة في المسيرة الطويلة، كان ذلك بالأمس، ما بالي اليوم أرى هذا الخلط والتخليط العجيب، وانبهام الطرق وضبابية الرؤية في قضايا كان الشيوعيون هم حداة دروبها وأكثر المفكرين دراية بها، ولكم رفد مثقفوهم الحياة السياسية بالفكر النير حتى وهم على أعواد المشانق. ذكر لي العم كلمنت أمبورو حديثه الذي اعتبره هو نفسه غير لائقٍ في تلك اللحظة وجوزيف قرنق تحت ظلال المشانق في احدى زياراتي له مع إدوارد لينو، ومع ذلك فان جوزيف قرنق شكره قائلاً: شكراً العم كلمنت، فاحترام الآخرين الوطنيين مدرسة من مدارس الشيوعيين التي بنوها بنضالهم في ساحات المدن وأزقة القرى، أما التحالفات فهذه بضاعتكم ردت إليكم.

لماذا يأخذ الهجوم على نداء السودان حيّزاً أكثر من الهجوم على النظام نفسه؟! لماذا الهجوم على الإمبريالية يعلو على صوت اسقاط النظام؟! لماذا التركيز على مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية كواجب عاجل يتخطى قضايا الحريات والسلام الشامل والطعام والمواطنة بلا تمييز كقضايا تجمع قوى وطنية كبرى أعرض من قوى مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية؟! لماذا أصبحت محطة الثورة الوطنية الديمقراطية أقرب إلى الشيوعيين من جبهة للديمقراطية وانقاذ الوطن، ولماذا لا تكون الأخيرة هي المدخل الصحيح للثورة الوطنية الديمقراطية بدلاً من هذا الحريق الهائل الذي تأكل ألسنته الإمبريالية قبل نظام الإنقاذ؟ ببساطة كيف يمكن إلحاق الهزيمة بالإمبريالية قبل هزيمة الإنقاذ؟ لماذا لا نأكل أولاً ما نستطيع مضغه؟ لماذا الهجوم على حزب الأمة والسيد الصادق وقد تعامل معهما الزعيم عبد الخالق والزعيم نقد، هل تغيرنا أم تغيرت الكنيسة، بعد أن ارتدى المطران زيّاً عسكرياً؟

في سجن كوبر وفي العام ١٩٨٤ وقبيل الانتفاضة حكى لي المناضل الكبير التيجاني الطيب بابكر في أمسية من أمسيات سجن كوبر عن أمسية أخرى من أمسيات الأربعينيات في القاهرة، كان اطرافها المنارات عبد الرحمن عبد الرحيم الوسيلة والجنيد علي عمر وتيجاني نفسه وفجأة اقتحم أمسيتهم شاباً انضم حديثاً لهم وهو حديثُ عهدٍ بالشيوعية، أخذ هذا الشاب يمطر الزعيم عبد الرحمن الوسيلة بأسئلة عديدة عن كيف سيتعاملون مع (القوى الرجعية والطائفية وشبه الإقطاع والكومبورادورية) والسيدين عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني وأفسد الشاب أمسيتهم مثل ما تفسد بعض العبارات الود والتحالفات. فتضايق عبد الرحمن الوسيلة، ومع ذلك أجابه ببساطة (ياخي كومبرادورية شنو؟ مش السيدين عبد الرحمن وعلي، أهلنا وبنعرفهم بالحيل، وبنعرف كيف نتعامل معاهم، كدي شوف لينا موضوع تاني)، يا جماعة شوفوا لينا موضوع تاني! وارجعوا الى كاتلوج الحزب ففيه ما يفيد حول كيفية التعامل مع السيد الصادق المهدي وحزب الأمة.

مؤخراً اطلعت على لقاء مهم لرائد فهمي، السكرتير العام للحزب الشيوعي العراقي حول تحالفهم مع مقتضى الصدر، وهو يوضح بدقة الصِّلة والتشابك الجدلي بين المهام الوطنية العامة ومهام بناء الدولة العراقية في ظل الحروب وتراجع المجتمع المدني كمهام واجبة وعاجلة وصلتها لاحقاً بمرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية وضرورة عدم الخلط والقفز فوق المهام، والضرر الذي سينجم عن ذلك حزبياً ووطنياً، وهذه دروس قديمة. الوثيقة التي اصدرها الحزب الشيوعي مؤخراً وفتح فيها النيران الصديقة على كافة الاتجاهات وكان رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان مالك عقّار وشخصي ممن تمت الإشارة إليهم بالاسم، ما يدهشني فيها انها لا تشبه دقة الشيوعيين ونفاذ بصيرتهم وجمال وثائقهم فهي وثيقة لا يربط بين اجزاءها خيط نظري دقيق وواحد، فهي تقفز من قضية إلى أخرى وتخلط بين المهام والمراحل وبين الأصدقاء والاعداء وأنا متأكد ان المطلعين بدقة على أدب الحزب الشيوعي السوداني ووثائقه الرصينة سيدركون ذلك.

أخذني عزيزنا عمر الدقير أخذ مقتدر لهذا التعليق الذي تجنّبته فترةً طويلة وقد عملت طوال وجودي في الحركة الشعبية ولا ازال ضد العداء للشيوعيين والشيوعية، وكان زعيمنا جون قرنق هو رائد التأهيل النظري والعملي في هذه القضية طوال فترته في قيادة الحركة الشعبية، فهو تقدمي ومنحاز لليسار بلا مواربة. بكل تأكيد لا معركة بيننا وبين الشيوعيين ونشعر بالأسف لما يجري بين حزبهم والقوى الوطنية، ولا سيما قوى الهامش، فلهذا الحزب يدٌ سلفت في قضايا الهامش ولا يمكن تصدير الاتهامات للشيوعيين مثلما يقوم البعض منهم بتصدير الاتهامات لنا، ولا نحتاج للدفاع عن أنفسنا وان كان لنا أن نأسف علي شئ هو أن نعتذر الى شعبنا فاننا نشعر بالأسف بأننا لم نتمكن مع الآخرين كافة من الحفاظ على وحدة بلادنا على أسس جديدة ولم نسقط النظام في الوقت المناسب رغم إننا لم ندخر أي جهد في ذلك وكل ما فعلناه مدفوعين ولا نزال بالحب لبلادنا وأهلها.

قضايا اليوم معقدة، محلياً وعالمياً، وواقع بلادنا أكثر تعقيداً من أي وقت مضى وعلينا جميعاً تحمل مهام وتعقيدات الوضع الحالي ولا زال يحدونا الأمل لحوار عميق مع الشيوعيين وحزبهم دون تخوين، وقبل هزيمة الإمبريالية علينا هزيمة نظام الإنقاذ والجُمَل الكبيرة لا تعفينا عن المهام الصغيرة والقفز على عنق الإمبريالية يمر عبر القفز على عنق الإنقاذ وشكراً للأستاذ عمر الدقير وهذه مجرد تحية لمقالك ومن مصلحتنا ومصلحة الشيوعيين وفوق كل ذلك مصلحة بلادنا أن ندير حوارنا وجهاً لوجه من أجل بلادنا وشهدائها وضحايا هذا النظام ومن أجل كل البايتين على الطّوى، إذ لابدّ لنا أن نعطي شعبنا أملاً جديداً وأن نترك المعارك بين بَعضنا وأن نتجه الى معركة وحيدة هي بيننا وبين النظام. إن العالم يمر بمرحلة فريدة تدفع بتعقيدات فكرية وسياسية غير مسبوقة أمام قوى التقدم والاستنارة وكافة القوى الوطنية ولا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة، فكلنا نحتاج للحوار وإعمال الذهن وتجديد رؤيتنا وفكرنا وأدواتنا عند منحنيات الفضاء الإنساني الرحب. ويبقى الود بيننا وبين الشيوعيين موصولٌ غير منقوص وعلينا ألّا نبدد طاقاتنا في المعارك الجانبية بين القوى الوطنية التي لن يستفيد منها الا نظام الإنقاذ الذي غربت شمسه، ولابدّ من فجرٍ جديد. ليس بالضرورة أن نتفق على كل شئ، ولقد كان صمتنا ترفعاً لا تهيباً حتى لا يستفيد النظام من خلافاتنا. مع وافر الاحترام.

*١٠ سبتمبر ٢٠١٨*

Welcome

Install
×