من لهيب الحرب… اطفال في غياهب المجهول
كمبالا: الاربعاء 3 فبراير: راديو دبنقا
تقرير: عبد المنعم مادبو
يرتاد مقهى سودانياً وسط العاصمة الاوغندية كمبالا، يجلس شارد الزهن تحاصره هموم لا حصر لها قبل أن يغادر إلى حيث أتى، من الوهلة الاولى يظن من ينظر إليه انه تسيطر عليه صدمة الحرب التي اندلعت في ابريل الماضي بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع واحالت الوضع في البلاد إلى الخراب والدمار، لكن عندما تحدث لمراسل راديو دبنقا كشف محمد احمد محمد عمر ذو الاربعين عاماً عن قصة مأساوية يعيشها مع اطفاله الثلاثة الذين قتلت والدتهم جراء .قصف الطيران الحربي لمنزلهم بمنطقة “الاندلس اليرموك مربع 5” جنوبي الخرطوم بتاريخ 6 يونيو 2023م
محمد الذي كان يعمل سائقاً للشاحنات يقول لراديو دبنقا انه ذهب في ذاك اليوم للبحث عن عمل في مدينة ام درمان وترك زوجته، بينما كان ابنائه مع شقيقته في حي “السلمة”.
يقول محمد: في اتصال هاتفي مفاجئ أخبرني احد الجيران بأن الطيران الحربي قصف الحي، وان منزلي ضمن المنازل التي اصابها القصف، ويضيف “لم يستطع الجار اطلاعي على المزيد من التفاصيل حول ما جرى، فقط اغلق الهاتف”
“الدوام لله”
ترك محمد ما بيده من عمل في ام درمان وتحرك مسرعاً إلى منزله في الاندلس الذي وصله في الثاني بسبب الحواجز الأمنية وارتكازات الجيش والدعم السريع، وعندما اقتربت من المنزل قابلت جاري “مصطفى” فاستقبلني بقول “الدوام لله” واخبرني ان زوجتي “رحمة” ضمن ضحايا جراء تلك الغارة الجوية اللعينة، وان الجثامين تم نقلها إلى المقابر توطئة لدفنها، فأسرعت إلى هناك فاذا بي أجد 16 جثة- من بينهم 5 اطفال وعدد من النساء، يجري الاعداد لدفنها، كما أدى القصف إلى تدمير نحو 25 منزلاً.
تفحص محمد الجثث جثة جثة إلى ان وقعت عيناه على الوجه الذي كان ينثر الحيوية في منزلهما- طيلة 11 سنة من زواجهما- مفارقاً الحياة، فجال بخاطره في الحال شريط حياتهما مع بعض وماذا سيفعل بأبنائه بعد فراق “رحمة” وكان كلما وضع مجرفة من التراب على قبرها ازدادت همومه وداهمه السؤال “ماذا أفعل بأبنائي الصغار في ظل هذه الحرب التي أخذت روح من تعيلهم وترعاهم في حضوره وغيابه…؟”
ماذا أفعل..؟
عاد محمد إلى منزله “الجالوص” ليقف على ما تبقى منه، فوجده لم يستطع ان يقاوم الغارة الجوية وانفجارها ثم غادره مسرعاً إلى منزل شقيقته بمنطقة “السلمة” على بعد 5 كيلو مترات إلى الشرق من منزله، يقول والد “زاهر وزهراء ومتوكل” أخبرت شقيقتي بالخبر، ولم استطع ان احدث ابنائي بل كنت لا أدري كيف أخبرهم، وأضاف: من شدة ما كنت مشوشاً قلت لشقيقتي انني لا استطيع ان آخذ الأطفال معي، في وقت كان كل سكان الخرطوم يبحثون عن مأوى آمناً وسبيلاً للنجاة من الوضع الكارثي الذي ادخلتهم فيه الحرب، بعد نقاش مع شقيقته قرر محمد ان يأخذ أبنائه لأنها لا تستطيع ان توفر لهم الرعاية والحماية في هذا الوضع.
رحلة المعاناة
بعد أيام من الحادث المشئوم أخذ محمد أطفاله الثلاثة متجهاً نحو جنوب السودان في محاولة لإنقاذهم، يقول تحركت يوم 10 يوليو وعندما وصلت “جبل اولياء” أوقفتني استخبارات القوات المسلحة واتهمتني بالانتماء لقوات الدعم السريع، وتعرضت لإهانة واساءة من قبل عناصر الجيش. واضاف بعد يومين من الحبس- قضيتها في غرفة واطفالي في غرفة أخرى- اطلق سراحي، فتوجهت إلى الحافلات المتجهة إلى مدينة ربك بولاية النيل الابيض وهناك ايضا اعتقلتني استخبارات الجيش لعدة ساعات ولم تطلق سراحي الا بعد ان وقعت على ورقة مدها لي احد الضباط لكني لا أدري ما الذي كتب فيها.
خرج محمد من مكتب الاستخبارات في ربك وهو يمني نفسه بأن لا يقابل في طريقه شخصا يرتدي الكاكي “الزي العسكري” يقول وصلنا إلى موقف الحافلات المتجهة إلى “الرنك” فركبنا حافلة “هايس” إلى منطقة “جودة” الحدودية ومنها إلى الرنك ومن ثم ملكال بجنوب السودان، قبل ان نستقل المركب النيلي إلى عاصمة جنوب السودان مدينة جوبا، هذه الرحلة الطويلة التي امتدت لأكثر من 10 أيام نهشت طاقة الاطفال ومقامتهم فداهم اجسادهم اليافعة مرض الملاريا، الأمر الذي اضطر والدهم إلى البقاء في جوبا لمدة شهر للاطمئنان على صحتهم قبل ان يغادرها إلى العاصمة الاوغندية كمبالا.
حالة مرضية
تعاني الطفلة زهراء وهي الوسطى بين شقيقيها من حالة مرضية، زادت من الضغط النفسي على والدها محمد لجهة انها تعاني من مرض يسمى ب “كهرباء المخ” اضافة إلى ضعف في النظر، ما جعله غير قادر على تركها في المنزل والبحث عن عمل إلا لأوقات قليلة- على حد قوله- وهو ما ينعكس على حالته عندما يأتي إلى المقهى وقضاء بعض الوقت فيكون شارداً بالتفكير في حالة ابنته.
لم يقف الوالد مكتوف الايدي ازاء مرض ابنته رغم الظروف المادية التي يعانيها، وانما طرق ابواب المنظمات الانسانية في كمبالا لإيجاد طريقة لعلاج الطفلة، ويقول قابلت عددا من المنظمات لكن ليس هناك بصيص أمل ولم اجد للآن منظمة تتكفل بعلاجها او حتى الحاقها في مدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة، واضاف: فقط هناك منظمة تسمى “عاهة” ساعدتني بمقابلة اخصائي امراض العيون الذي قرر لها “نظارة” قبل ان يحولها إلى اخصائي امراض المخ والاعصاب.
وقال ان وضعه المادي الآن قد يحرم ابناءه من الالتحاق بالمدارس لجهة انه لا يمتلك الرسوم، فأبنائه الثلاثة الذين تتراوح اعمارهم بين 7 و11 سنة جميعهم الآن بلغوا سن التمدرس.
ويرى محمد ان مستقبل ابنائه صار الآن محفوفا بمخاطر جمة، وانه اصبح عاجزاً عن تأمين حياة كريمة لهم، لكنه يأمل في توطينه بواسطة المنظمات الاممية في احدي الدول الاوربية او الامريكية لعله يجد فرصة لتأمين مستقبل اطفاله الثلاثة.
وبحسب منظمة “يونيسف” فإن السودان يواجه أكبر أزمة نزوح للأطفال في العالم، وحذرت من أن مستقبل أكثر من 24 مليون طفل سوداني في خطر بسبب الكارثة الإنسانية التي تعصف بالبلاد، وحذرت من خطر أن تتحول معاناتهم إلى أزمة منسية وأن تصبح كارثة عبر الأجيال، الأمر الذي يهدد مستقبل جميع أطفال السودان.