مفاوضات جنيف: السيناريوهات الثلاث
أمستردام: 6 أغسطس 2024: راديو دبنقا
أجرى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن اتصالًا هاتفيًا مساء الإثنين 5 أغسطس 2024 برئيس مجلس السيادة الانتقالي، عبد الفتاح البرهان، حسب بيان أصدره المتحدث باسم الخارجية الأمريكية ماثيو ميللر. وحث بلينكن القوات المسلحة السودانية، حسب البيان، على المشاركة في محادثات وقف إطلاق النار في سويسرا. وشدد على أن الدمار والخراب منذ أبريل 2023 يدل على أن عقد محادثات وقف إطلاق النار هو السبيل الوحيد لإنهاء النزاع.
وأضاف بلينكن أن الهدف هو منع المجاعة، واستعادة العملية السياسية المدنية، وأكد على الحاجة الملحة لوقف القتال فورًا وإيصال المساعدات الإنسانية دون عوائق، بما في ذلك عبر الحدود وعبر الخطوط الجوية، للتخفيف من معاناة الشعب السوداني.
وقد غرد الفريق عبد الفتاح البرهان عقب المحادثة الهاتفية عبر حسابه على منصة إكس مشيرا إلى أنه أبلغ وزير الخارجية الأمريكي بأهمية معالجة القضايا التي تهم الحكومة السودانية قبل بدء أي مفاوضات. وأضاف قائد الجيش أنه أبلغ انتوني بلينكن بأن الميليشيا المتمردة (قوات الدعم السريع) تحاصر وتهاجم الفاشر، وتعيق وصول الغذاء إلى النازحين في معسكر زمزم.
تفاؤل حذر
نبرة تفاؤل مشوبة بالحذر عكسها حديث مرتضى الأمين، وهو موظف سابق بإحدى الشركات الصناعية ويسكن في أحد أحياء شرق النيل بولاية الخرطوم، عندما سألناه عن توقعاته لمفاوضات جنيف. يقول مرتضى في حديث لراديو دبنقا أن منطقة شرق النيل ظلت منطقة عمليات وتشهد معارك برية شرسة وقصف بالمدفعية والطيران منذ اليوم الأول للحرب وأن المنطقة على شفا مجاعة حقيقية وتنقطع عنها الكهرباء والمياه بالشهور وتوقفت بشكل فعلي كل المستشفيات العاملة فيها وهناك ندرة في الدواء خصوصا الأدوية المنقذة للحياة. ويشدد مرتضى لم يعد هناك مناص من أن يجلس طرفا الحرب إلى مائدة التفاوض لوقف الحرب التي يدفع ثمنها الموطن، الوقت ليس لفرض الشروط وتحقيق الانتصارات الصغيرة، الأولوية لإنهاء معاناة المواطن السوداني الذي يدفع ثمن حرب لا ناقة له فيها ولا جمل.
ضغوط دولية واسعة على قائد الجيش
وبعد أن أعطت قوات الدعم السريع، وعبر تغريدة لقائدها الفريق محمد حمدان دقلو، موافقة فورية على المشاركة في مفاوضات جنيف، ما زالت الضبابية تحيط بالموقف النهائي للقوات المسلحة من الدعوة التي وجهتها الإدارة الامريكية. وتزامن اتصال وزير الخارجية الأمريكي بالرئيس عبد الفتاح البرهان مع اتصالات أجراها رئيس الدبلوماسية الامريكية مع نظرائه في مصر وقطر والسعودية والإمارات وتناولت من بين موضوعات أخرى التحضير الجيد لمفاوضات جنيف المرتقبة.
ويتحسب المراقبون لثلاث سيناريوهات بشأن موقف القوات المسلحة: السيناريو الأول يتمثل في رفض المشاركة في المفاوضات بشكل كامل، السيناريو الثاني أن توافق قيادة الجيش على المشاركة شكليا تفاديا لردود الفعل الدولية التي قد تنتج عن عدم قبولها الدعوة والسيناريو الثالث هو أن تشارك في المفاوضات بوفد رفيع المستوى لديه كل الصلاحيات للتوصل إلى اتفاق فعلي لوقف إطلاق النار بما يسمح بإيصال المساعدات الإنسانية واستئناف الانتقال المدني الديمقراطي.
خيار الانتصار العسكري
عندما سألنا في راديو دبنقا حليمة حسين، المعلمة والنازحة من مدينة الأبيض، عن مفاوضات جنيف، لم تخف حليمة رفضها لأي تفاوض مع “المجرمين” وانحيازها للخيار العسكري وأن الجيش السوداني يجب أن يمضي قدما في قتال قوات الدعم السريع وأن الحل الوحيد لإعادة الأمن والاستقرار هو هزيمة المليشيا وقد لاحت بشائر النصر. وتقول حليمة كيف يمكن أن نتجاوز عمن احتل منازلنا ونهب ممتلكاتنا واغتصب فتياتنا، الحديث الوحيد الذي يفهمه هؤلاء هو لغة البنادق. واتهمت حليمة حسين الإدارة الامريكية وحلفائها الإقليميين والمحليين بالسعي لإعادة قوات الدعم السريع للمشهد خدمة لأجندة طلاب السلطة والمصالح الأجنبية.
مخاوف من رفض الجيش المشاركة في مفاوضات جنيف
ومن الواضح أن مبادرة وزير الخارجية الأمريكي، انتوني بلينكن، بالاتصال بالفريق عبد الفتاح البرهان، جاءت بعد خطاب قائد الجيش في جبيت يوم 31 يوليو والذي أثار مخاوف من أن يكون مقدمة لرفض القوات المسلحة المشاركة في مفاوضات جنيف التي دعت لها الولايات المتحدة في 14 أغسطس الحالي. ووجه البرهان عبر خطابه رسائل للمجتمعين الدولي والإقليمي حدد من خلالها شروط ومطالب حكومة بورتسودان للموافقة على المشاركة في المفاوضات.
وكانت القوات المسلحة وحكومة بورتسودان قد بادرت وقدمت بعض الملاحظات، ورد بعضها في بيان وزارة الخارجية، وبعضها لم يذكر وسلمت للوساطة في واشنطن. وينظر المراقبون للخطاب كوسيلة ضغط ظل يستخدمها الفريق عبد الفتاح البرهان طوال الفترة الماضية خصوصا وأن الجيش وحكومة بورتسودان يرون في المشاركة في أي مفاوضات في الوقت الراهن هو نوع من الهزيمة باعتبار السقف المرتفع للخطاب المقدم طوال العام ونصف الماضي والمتمثل في الخطاب الرافض للتفاوض والمبشر بهزيمة ساحقة لمن يسميهم بالمتمردين وتحرير المناطق التي دخلها الدعم السريع.
تطمينات امريكية
تبدو واشنطن جادة في مساعيها من أجل إنجاح جولة المفاوضات القادمة في جنيف، وتبدى ذلك من خلال الخطاب الهادئ الذي تعاملت به مع تحفظات الجيش وحكومة بورتسودان. فمن جهة، استخدم الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكي في تصريحه صفة رئيس مجلس السيادة في الحديث عن الفريق عبد الفتاح البرهان، مع العلم أن واشنطن ظلت ومنذ انقلاب 25 أكتوبر 2021 تتعامل مع الفريق عبد الفتاح البرهان باعتباره قائد للجيش فقط. بالمقابل تتمسك الوساطة الامريكية بأن يكون الجيش وقوات الدعم السريع هما طرفا المفاوضات في جنيف لاعتبار أنها تتعلق بوقف إطلاق النار والسماح بمرور المساعدات الإنسانية عبر الحدود وعبر خطوط التماس ولن تناقش أي قضايا سياسية.
وفي إطار إبداء حسن النوايا، أعلن المبعوث الأمريكي الخا2 للسودان، توم بريلليو، أن مفاوضات جنيف ستستند إلى ما تم التوصل إليه في السابق بين طرفي الحرب في منبر جدة وفي العاصمة البحرينية، المنامة. وينظر إلى ذلك على أنه تجاوب مع تمسك قيادة الجيش بأن يكون منبر جدة هو المنبر الوحيد للتفاوض حيث ستكون مفاوضات جنيف استمرار لما تم الاتفاق عليه في جدة. كما يأخذ ذلك في الاعتبار اشتراط حكومة بورتسودان خروج الدعم السريع من منازل المواطنين والأعيان المدنية قبل الجلوس في مفاوضات جديدة.
لكن الإدارة الامريكية تطالب في ذات الوقت الطرفين بتطبيق كل بنود اتفاق جدة وليست فقط تلك المتعلقة بالخروج من الأعيان المدنية ومنازل المواطنين وفي مقدمتها فتح المسارات الإنسانية وتفعيل اللجنة المشتركة التي تقرر تشكيلها لهذا الغرض بالإضافة إلى إسكات الأصوات التي تؤجج الحرب وإعادة القبض على المسجونين في إشارة واضحة للإسلاميين وقيادات النظام البائد الداعمين للجيش.
المهم الحرب تقيف
عزالدين محمد، مواطن من مدينة نيالا كان حتى قبل بداية الحرب في 15 أبريل 2023 يعمل بائعا متجولا في سوق نيالا، لكنه منذ ذلك التاريخ لم يعد قادرا على كسب عيشه وسد رمق أسرته. يقول أن فكرة الانضمام لقوات الدعم السريع راودته حتى يؤمن مصدرا للدخل، لكنه سرعان ما تراجع بعد أن شهد بعينيه المآسي التي يخلفها القتال.
يقول عزالدين أنه سمع عن مفاوضات جنيف ولا يعرف شيئا عن تفاصيلها، فالأخبار تصله بشكل متقطع وغالبا من خلال أحاديث الأخرين، فهو لا يملك هاتفا يسمح له بالتواصل عبر شبكة الانترنت. لكن كل ما يرغب فيه أن تتوقف هذه الحرب فورا، ليس مهما بالنسبة له كيف يتم ذلك، بل المهم أن تعود الحياة إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الحرب.
عرقلة المفاوضات
المواقف الامريكية الجديدة هذه قد تخلق عقبات أخرى في طريق المفاوضات ومن بينها رفض قوات الدعم السريع ومنذ بداية الحرب الجلوس للتفاوض مع حكومة بورتسودان باعتبارها تمثل الحكومة المعترف بها. واضطرت حكومة بورتسودان إلى سحب السفير عمر صديق من وفدها المفاوض بعد أن عارضت قوات الدعم السريع مشاركته بالنظر إلى أنه يمثل وزارة الخارجية. لكن تشديد واشنطن على أن مفاوضات جنيف هي استمرار لمنبر جدة قد يمثل ردا على رفض الدعم السريع الاعتراف بحكومة البرهان كحكومة أمر واقع.
توقع مثل هذا الموقف من قوات الدعم السريع يمكن أن يدعم مواقف تيار في بورتسودان مؤيد لاستمرار الحرب ورافض للحل المتفاوض عليه، لكنه غير راغب في أن يكون هدفا لعقوبات جديدة من المجتمع الدولي وخصوصا بعد فرض عقوبات على الفريق ميرغني إدريس، مدير منظومة الصناعات الدفاعية، وعدد من الشركات التابعة لها وكذلك على الأمين العام للحركة الإسلامية، علي كرتي. هذا التيار يدفع باتجاه قبول المشاركة في المفاوضات بنفس الوفد الذي شارك في منبر جدة ومفاوضات جنيف الأولى التي دعا لها رمطان العمامرة.
مثل هذا الوفد لن تكون لديه الصلاحيات الكافية التي تتيح له التوصل لاتفاق وذلك من خلال التجربة السابقة في جدة وهو أمر يتعارض مع ما ابدته الإدارة الامريكية من رغبة في أن يمثل الطرفين على أعلى مستوى. وإن كان ترفيع مستوى التمثيل لا يضمن الوصول لاتفاق بالنظر إلى تجربة مفاوضات المنامة والتي قاد فيها وفد الجيش نائب القائد العام، الفريق شمس الدين الكباشي، ووفد الدعم السريع، الفريق عبد الرحيم دقلو، رغم ذلك لم يصل اتفاق المنامة إلى مداه ورفض الجيش التوقيع عليه رغم أن من أبرم الاتفاق هو الرجل الثاني في الجيش.
نقطة أخرى، قد تستخدم لعرقلة المفاوضات بعد إعطاء الموافقة وهي المتعلقة بمشاركة وفد الاتحاد الأفريقي ودولتي مصر والإمارات العربية المتحدة كمراقبين. حيث تم تجاوز عقبة مشاركة الاتحاد الأفريقي في مفاوضات جدة بإشراك وفد من منظمة الإيقاد. وترفض حكومة بورتسودان التعامل مع الاتحاد الأفريقي لأنه قام بتجميد عضوية السودان بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021، لكنها لم ترفض استقبال وفد الآلية الأفريقية التي شكلها مجلس السلم والأمن الأفريقي لمعالجة الأزمة السودانية في بورتسودان في 28 أبريل الماضي.
أما مشاركة مصر في المفاوضات كمراقب، فلم تجد معارضة من جانب قوات الدعم السريع، مثلما تعارض قيادة الجيش أي دور لدولة الإمارات أو حضور في هذه المفاوضات. وكان حديث المبعوث الخاص الأمريكي، توم بريلليو، واضحا أن المراقبين لن يشاركوا في التفاوض، بل سيكونون حضورا لتسهيل التوصل لاتفاق.
المفاوضات السلسلة
فرضية ثالثة تقول بأن كلا طرفي التفاوض سيستجيب للدعوة بالمشاركة في مفاوضات جنيف وبوفد على مستوى عالي لديه كل الصلاحيات التي تخول له التوصل لاتفاق وينخرطان في مفاوضات جدية لإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار بآلية مراقبة فعلية على الأرض بما يمهد لفتح مسارات إيصال المعونات الإنسانية عبر خطوط التماس بين طرفي الحرب وعبر الحدود الخارجية للسودان وفتح الطريق أمام مسيرة سياسية تعيد الانتقال المدني الديمقراطي. هذه السيناريو لا تسنده معطيات الواقع الحالي وتعقيداته وإن كان هو محط أنظار وأمال كل السودانيين والسودانيات الذين ينامون ويصحون على حلم أن تتوقف هذه الحرب وأن تعود حياتهم إلى ما كانت عليه… أو إلى أقل من ذلك.