مبررات الانقلاب العسكري: الادعاء والحقيقة

لاحظتُ أنَّ معظم المُعلِّقين السياسيين و”الخبراء الاستراتيجيين”، الذين درجوا على تبرير الانقلاب العسكري على حكومة الثورة الانتقالية في السودان، قد ركزوا على ثلاث قضايا أساسية، تُحسب من وجهة نظرهم ضد قوى إعلان الحرية والتغيير (أو المكون المدن). أولها، إنَّ قوى إعلان الحرية والتغيير قد خرقت نصوص الوثيقة الدستورية بتعيين وزراء حزبيين في مجلس الوزراء؛ لأن الوثيقة الدستورية تنصُّ على تشكيل حكومة “كفاءات وطنية مستقلة”؛ وثانيها، إنَّ مجلس الوزراء لم يقم بتعيين مفوضيات السلام والدستور والانتخابات؛ وثالثها، إنَّ أربعة أحزاب سياسية (الأمة القومي، والاتحادي المعارض، والمؤتمر السوداني، والبعث العربي) قد اختطفت الثورة، وسيطرت على إصدار القرار السياسي في الحكومة الانتقالية (مجلس السيادة ومجلس الوزراء) ومجلس الشركاء. هذه الادعاءات الثلاثة محل نظر، وذلك للأسباب الآتية:

د. أحمد إبراهيم أبوشوك

 

 بقلم: أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك

لاحظتُ أنَّ معظم المُعلِّقين السياسيين و”الخبراء الاستراتيجيين”، الذين درجوا على تبرير الانقلاب العسكري على حكومة الثورة الانتقالية في السودان، قد ركزوا على ثلاث قضايا أساسية، تُحسب من وجهة نظرهم ضد قوى إعلان الحرية والتغيير (أو المكون المدن). أولها، إنَّ قوى إعلان الحرية والتغيير قد خرقت نصوص الوثيقة الدستورية بتعيين وزراء حزبيين في مجلس الوزراء؛ لأن الوثيقة الدستورية تنصُّ على تشكيل حكومة “كفاءات وطنية مستقلة”؛ وثانيها، إنَّ مجلس الوزراء لم يقم بتعيين مفوضيات السلام والدستور والانتخابات؛ وثالثها، إنَّ أربعة أحزاب سياسية (الأمة القومي، والاتحادي المعارض، والمؤتمر السوداني، والبعث العربي) قد اختطفت الثورة، وسيطرت على إصدار القرار السياسي في الحكومة الانتقالية (مجلس السيادة ومجلس الوزراء) ومجلس الشركاء. هذه الادعاءات الثلاثة محل نظر، وذلك للأسباب الآتية:

أولاً، إنَّ النصَّ الخاص بتشكيل حكومة “كفاءات وطنية مستقلة” ورد في المادة (15/1) من النسخة الأولى من الوثيقة الدستورية، التي تمَّ التوقيع عليها في 17 أغسطس 2019م، والتي يُقرأ نصها هكذا: “يتكون مجلس الوزراء من رئيس وعدد من الوزراء لا يتجاوز العشرين من كفاءات وطنية مستقلة بالتشاور، يعينهم رئيس مجلس الوزراء من قائمة مرشحي قوى إعلان الحرية والتغيير، ويعتمدهم مجلس السيادة، عدا وزير الدفاع والداخلية اللذين يرشحهما المكون العسكري بمجلس السيادة.” وبعد اتفاقية سلام جوبا لسنة 2020م، قد تمَّ تعديل النصَّ الوارد أعلاه في المادة (7) من الوثيقة الدستورية المعدلة، والتي صادق عليها مجلس السيادة في 12 أكتوبر ٢٠٢٠، ويُقرأ نصها هكذا: ” في المادة ١٥: يُلغى البند (١) ويستعاض عنه بالبند الجديد الآتي: “(١) يتكون مجلس الوزراء من رئيس، وعدد من الوزراء من كفاءات وطنية بالتشاور، يعينهم رئيس الوزراء من قائمة مرشحي قوى إعلان الحرية والتغيير، وأطراف العملية السلمية الموقعة على اتفاق جوبا لسلام السودان على أن يكون من بينهم نسبة ٢٥٪ تختارهم أطراف العملية السلمية الموقعة على اتفاق جوبا لسلام السودان، ويعتمد مجلس السيادة جميع الأعضاء ومن بينهم وزيري الدفاع والداخلية اللذين يرشحهما المكون العسكري بمجلس السيادة.” إذن هذا التعديل يدحض الزعم بأن قوى إعلان الحرية والتغيير قد خرقت الوثيقة الدستورية؛ لأن النص المعدل قد حُذفت منه عبارة “حكومة كفاءات وطنية مستقلة”، وبموجب ذلك أضحى تعيين وزراء منتسبين على أحزاب سياسية في مجلس الوزارة غير متعارضٍ مع النص المعدل والمشار إليه أعلاه.

ثانياً، الادعاء بأن مجلس الوزراء لم يقم بتشكل المفوضيات الأساسية (مفوضية صناعة الدستور والمؤتمر الدستوري، ومفوضية الانتخابات) لتسهيل عملية الانتقال الديمقراطي محل نظر؛ لأن تشكيل هذه المفوضيات من صميم مهام مجلس السيادة، الواردة في المادة 39/3، والتي يقرأ نصها هكذا “يعين مجلس السيادة رئيس وأعضاء المفوضيات التالية بالتشاور مع مجلس الوزراء: (أ) مفوضية السلام، (ب) مفوضية الحدود، (ج) مفوضية صناعة الدستور والمؤتمر الدستوري، (د) مفوضية الانتخابات.” إذن التقصير في هذا الجانب يجب أن يُعزى إلى مجلس السيادة الذي يرأسه أحد أعضاء المكون العسكري، بدلاً من تحميل مجلس الوزراء (المكون المدني) وزر هذا التقصير منفرداً. كما أن هذا النص يدحض الادعاءات المتداولة في القنوات الفضائية ووسائط التواصل الاجتماعي بأن عدم تشكيل المفوضيات المشار إليها يقع ضمن تقصيرات مجلس الوزراء منفرداً.

ثالثاً، إنَّ الزعم بأن هناك أربعة أحزاب سياسية قد اختطفت الثورة وسيطرت على مفاصل اتخاذ القرار، زعم ضعيف؛ لأن اتفاقية سلام جوبا قد غيرت المعادلة الثنائية للنظام الحاكم إلى معادلة ثلاثية، طرفها الثالث أعضاء اتفاق سلام جوبا، الذين يشغلون 25% من المناصب الدستورية-الفيدرالية (مجلس السيادة ومجلس الوزراء)، كما أن لهم حضور مقدر في مجلس الشركاء، الذي تمَّ تشكليه، بموجب القرار رقم (511) لسنة 2020م، من 29 عضواً على النحو الآتي:
1. المكون العسكري- 6 أعضاء:
أ‌. الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيساً.
ب‌. الفريق أول محمد حمدان دقلو، عضواً.
ت‌. الفريق أول شمس الدين كباشي، عضواً.
ث‌. الفريق ياسر العطا، عضواً.
ج‌. الفريق ابراهيم جابر، عضواً
ح‌. الفريق عبد الرحيم دقلو
2. مكون المدني (الحرية والتغيير)- 14 عضو.
أ‌. دكتور عبد الله حمدوك، عضواً.
ب‌. عمر الدقير، عضواً.
ت‌. علي الريح السنهوري، عضواً.
ث‌. طه عثمان إسحاق، عضواً.
ج‌. محمد ناجي الأصم، عضواً.
ح‌. فضل الله برمة ناصر، عضواً.
خ‌. مريم الصادق المهدي، عضواً.
د‌. بابكر فيصل بابكر، عضواً.
ذ‌. حيدر الصافي شبو، عضواً.
ر‌. كمال حامد بولاد، عضواً.
ز‌. يوسف محمد زين، عضواً.
س‌. جمال إدريس الكنين، عضواً.
ش‌. معاوية حامد شداد، عضواً.
ص‌. محمد فريد بيومي، عضواً.
3. أطراف العملية السلمية لاتفاق جوبا- 9 أعضاء.
أ‌. مالك عقار اير، عضواً.
ب‌. مني اركو مناوي، عضواً.
ت‌. الهادي إدريس يحيى، عضواً.
ث‌. الطاهر أبكر حجر، عضواً.
ج‌. خميس عبد الله أبكر، عضواً.
ح‌. جبريل ابراهيم، عضواً.
خ‌. التوم الشيخ هجو، عضواً.
د‌. مقعدين لمؤتمر سلام شرق السودان.

أوردتُ أسماء أعضاء مجلس الشركاء أعلاه لأبرهن للقارئ بأن الزعم بسيطرة أربع أحزاب سياسية على صناعة القرار الحكومي أو التشاوري داخل مكونات الحكومة الانتقالية التي تمَّ الانقلاب عليها زعم غير مقنعٍ؛ علماً بأن أعضاء المكون العسكري وأطراف العملية السلمية أغلبية في المجلس المشار إليه (15 مقابل 14 عضواً)؛ لكن يبدو أن الحديث عن “أربعة طويلة” اُستخدم لتبرير قيام الحاضنة السياسية البديلة (ميثاق التوافق الوطني)، وكذلك لتبرير الانقلاب العسكري على الحكومة الانتقالية. وثانياً، كان من الأجدى، بدلاً من الانقلاب العسكري، أن تُحل الخلافات السياسية داخل مجلس الشركاء؛ لأن مهام المجلس الأساسية والمنصوص عليها دستورياً تتمثل في: 1. توجيه الفترة الانتقالية بما يخدم المصالح العليا للسودان؛ 2. حل التباينات في وجهات النظر بين الأطراف المختلفة؛ 3. حشد الدعم اللازم لإنجاح الفترة الانتقالية وتنفيذ مهامها الواردة في الوثيقة الدستورية واتفاق سلام جوبا لسنة 2020م.”

تقودنا هذه الملاحظات الثلاث إلى خلاصة مفادها أنَّ الانقلاب العسكري الذي قام به الفريق البرهان وبطانته في 25 أكتوبر 2021م، انقلاب غير مبرر من الناحية الأخلاقية، والسياسية، والدستورية؛ ولذلك يجب معارضته، بحجة أنَّ الوثيقة الدستورية لا تمنح الفريق البرهان الحق في إعلان حالة الطوارئ، وفي حل الحكومة الانتقالية بمجلسيها السيادي والتنفيذي، وفي تعديل نصوص الوثيقة الدستورية بالحذف أو الإضافة. وبناءً على فإنَّ ادعاء الفريق البرهان الالتزام بالوثيقة الدستورية ادعاء باطل، لا تسنده نصوص الوثيقة نفسها، ولا يؤيده القطاع الأكبر في الشارع السوداني والاحتجاجات في الشوارع والميادين العامة. إذن العودة إلى طاولة الحوار الجادة بين أطراف العملية السياسية هي السبيل الوحيد لتجاوز هذه الأزمة، وإصدار حل موضوعي، يفي تطلعات شباب ثورة ديسمبر 2018م، ويقي البلاد شر سيناريوهات الفتنة السياسية، ويبعدها عن خدمة الأجندة الإقليمية، والطموحات الشخصية التي تتعارض مع مصلحة الوطن والمواطن السوداني، الذي ظل يدفع باستمرار فاتورة الانقلابات العسكرية وفشل النخب السياسية في إدارة الشأن العام.

Welcome

Install
×