مالك عقار يكتب : انقسامات حركات التحرر السودانية واسئلة المستقبل: اختلاف الشخصيات وتطابق الحمض النووي ..
تاريخيا، شهدت العديد من، إن لم يكن كل، حركات المقاومة والتحرر المسلحة اشكالاً مختلفة من الانقلابات الداخلية والانقسامات. ولكل انقسام في حركة تحرر ما …
بقلم: مالك عقار اير نجنيوفا
تاريخيا، شهدت العديد من، إن لم يكن كل، حركات المقاومة والتحرر المسلحة اشكالاً مختلفة من الانقلابات الداخلية والانقسامات. ولكل انقسام في حركة تحرر ما محركاته و دينامياته الخاصة. و الحركة الشعبية لتحرير السودان ليست محصنة من، او مستثناء من تجارب الانقلابات الداخلية والانقسامات.
في هذا المقال اود ان اسرد جزءً من تاريخ الانقسامات وكيف أنها دائماً ما تبدأ بانقلاب داخلي، في التجربة السودانية و بشكل خاص في الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان. في هذا السرد، ساحاول الاجابة على اسئلة مثل ماهي الانقسامات الرئيسية في تاريخ الحركة الشعبية لتحرير السودان؟ لماذا يقع الرفاق الذين قاتلوا عدواً مشتركاً لعقود طويلة ضحايا للإنقسامات المدمرة لهدفهم الاستراتيجي ولتاريخ نضالهم؟ أين يكمن الخطأ؟ ماهي الدروس التي علينا تعلمها من تجارب الانقلابات الداخلية والانقسامات؟ و ما هي الأسئلة الهامة التي فات علينا طرحها؟ بل، وماهي القضايا الوطنية المركزية المرتبطة بنضالنا كحركة تحرير مسلحة؟
بعض وقائع انقسامات الحركة الشعبية لتحرير السودان
في مستهل بدايات الحركة الشعبية لتحرير السودان، قادت مجموعة الأنانيا (2) اولى انقسامات الحركة على اثر محاولة انقلاب داخلي تم في قرية اتانق. وشارك في الانقسام الاول عدد من الاشخاص منهم اكوت اتيم، دي مايان، قوردون كونج، وليام عبدالله شول، فنسنت كوني و آخرين. وعطل الانقسام تطور الحركة الشعبية لتحرير السودان لعدة سنوات، وذلك بسبب القتال الذي خاضته من اجل اعادة تنظيم صفوفها حول اهدافها التاسيسية. كما فقدت آلاف الارواح في الاقتتال الداخلي المصاحب للانقلاب في بيلفام، جيكو، وكوانيلاو. وانتهى مصير المجموعة المنقسمة في الخرطوم، في قلب مواقع العدو، حيث انشأت مركز قيادتها العسكرية داخل القيادة العامة للجيش هنالك. وسرعان ما اخذت القوات المنشقة في القتال الى جانب الجيش الحكومي السوداني في مواجهة الحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان. وطرحت المجموعة المنقسمة تبريرين رئيسيين لمعركتها ضد الحركة الشعبية. المبرر الأول هو ان الحركة الشعبية مهيمن عليها من قبل قبيلة الدينكا، ممثلة في العقيد دكتور جون قرنق، المقدم كاربينو كوانين، الرائد سلفا كير ميارديت و الرائد اروك طون. وبالفعل اتخذ القتال طابعاً اثنياً؛ النوير ضد الدينكا، والذي سقط فيه آلاف الضحايا، حرقت فيه القرى، نهبت الممتلكات واغتصبت النساء. اما المبرر الثاني الذي قدمه المنشقون حينها هو الحاجة لاصلاح الحركة الشعبية و الجيش الشعبي لتحرير السودان، ومراجعة "رؤية السودان الجديد"، ومطالبتهم بتغيير البنية العسكرية والسياسية للحركة لتخدم اولوية تحرير جنوب السودان وليس تحقيق السودان الجديد.
مدفوعاً بحافز الصراع من اجل السلطة، كان الانقسام الاول في الحركة الشعبية لتحرير السودان عبارة عن "فوضى منظمة"، على قول عالم الأنثربولوجي إيفانز بريتشارد في دراسته حول قبيلة النوير في أربعينيات القرن الماضي. وبعد تحرير قاعدة بيلفام العسكرية في العام 1984 بواسطة وليام نون، انتهى المطاف بأعضاء الجناح المنقسم بايوائهم في الخرطوم فيما اصبح يعرف للنظام بــــ"القوات الصديقة"، حيث استمرت الخرطوم في تحديد القيم والاهداف السياسية للمجموعة المنشقة، بما فيها وضع نظامهم الداخلي في العمل. واستمر ذلك الوضع حتى رجوعهم للحركة مرة اخرى في أغسطس 1988 عبر عملية جوكمير للمصالحة.
حدث الإنقلاب الثاني في العام 1987، وذلك عندما استخدم المقدم كاربينو كوانين المحور الثاني بالنيل الأزرق معلناً المطالبة "باصلاح" الحركة الشعبية كذريعة لتعبئة المقاتلين من اقليم بحر الغزال لتاييده. لم يكن كاربينو صاحب شعبية كافية تمكنه من تعبئة كل اقليم بحر الغزال، والتي كانت ستشكل، في حال توفرها، كارثة حقيقية للحركة الشعبية. وقد تم احتواء محاولة الانقلاب الداخلي من خلال اعتقال كاربينو دون اراقة دماء. وانتهى المطاف بكاربينو فيما بعد مستضافاً في الخرطوم، حيث تم تقديم الدعم له لشن الحرب ضد الحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان، حتى تمت تصفيته لاحقاً بواسطة بيتر قديت (جندي عراقي)، والذي كانت تدعمه الخرطوم ايضاً.
مثال آخر على الانقسامات الداخلية التي مرت بها الحركة الشعبية لتحرير السودان هو انقسام الرائد اروك طون اروك. حيث لم يكن اروك راضياً بالموقع الذي منح له في قيادة الحركة الشعبية لانه كان يرى نفسه اكثر قوة ونفوذ من كاربينو كوانين، وليم نيون، و سلفا كير الذين تمت ترقيتهم عسكرياً وتم تجاوزه في هذه الترقيات القيادية. وقد كان اروك طون دائم المجاهرة والنقد في قضية التصعيد والترقيات. وقد استغل، بالفعل، فرصة زيارة له للمملكة المتحدة ليشرع في الاتصال مع احد جنرالات الجيش الحكومي، عبد العظيم صديق، في العاصمة لندن. وعند عودته من هنالك، تم القبض على اروك طون ووضع في السجن الخاص بالجيش الشعبي، حيث قضى بعض الوقت في سجنه في غرب الاستوائية حتى تمكن من الهرب. وقد انتهى المطاف باروك في الخرطوم موقعاً لإتفاقية صلح مع النظام في الخرطوم. وقد كان الهدف من ذلك الاتفاق الاطاحة بدكتور جون قرنق من قيادة الحركة تحت دعاوى اصلاح الحركة الشعبية، والتزام الحكومة في الخرطوم بالاستجابة لمطالب جنوب السودان بالتحرير. انتهت حياة اروك طون في نهاية المطاف في حادثة تحطم طائرة بمنطقة الناصر في جنوب السودان مع نائب الرئيس الزبير محمد صالح و آخرين، وهي حادثة اثارت العديد من الشكوك واحتمال تدبيرها من قبل الاسلاميين في الحكومة للتخلص من الزبير محمد صالح واروك طون.
وبحلول منتصف التسعينيات، كانت الحركة الشعبية قد استعادت قوتها و تمكنت من تحرير مناطق عديدة شملت جالهاك في شمال اعالي النيل، توريت في شرق الاستوائية، ياي، مريدي، موندري، يامبيو، طمبرا، و كبري باو في غرب الاستوائية. وقد كانت تلك الانتصارات هامة جداً ، حيث قد تم تحقيقها بالرغم من الانقسامات الداخلية الجارية وفي ظل فقدان الدعم الأثيوبي بعد سقوط نظام منغستو هايلي مريم في اديس ابابا.
في العام 1990، اجتمعت قيادة الجيش الشعبي لتحرير السودان – أكثر من لوائين – في منطقة فاجاك بغرض تاسيس وحدات عسكرية جديدة واعادة هيكلة القيادة العسكرية. وتمخض الاجتماع عن وضع قطاع وسط وشمال اعالي النيل تحت قيادة الدكتور رياك مشار. وتم وضع قطاع النيل الازرق وغرب اعالي النيل تحت قيادة الدكتور لام اكول. وقد تم تكليف القائدين المذكورين بهذين الموقعين القياديين وارسالهما للميدان، بالرغم من الشائعات المتواترة حينها حول انخراطهما في التخطيط للقيام بانقلاب داخل الحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان. (وثق دكتور لام اكول لهذه الفترة في كتابه "داخل ثورة افريقية" والذي اشتمل على تفاصيل ذلك الانقلاب).
في سبتمبر 1990، بدات القوات في التحرك لمناطق العمليات الخاصة بكل منها وفق القطاعات الجديدة. وكان ان تم ارسالي ضمن القوات الخاصة المتجهة الى منطقة غرب الاستوائية. وعند وصولنا لمنطقة جبل بوما، اتصل بي دكتور جون ليبلغني بأن لام اكول في المابان طلب تبليغي لديه. وسالت إن كان يتوجب علي فهم ذلك باعتباره امراً بالتبليغ لديه في المابان. قال قرنق: "هذا ليس امراً، ولكن الغرض احاطتك علماً بان هذه رغبة لام." قمت بسؤال دكتور جون مباشرة عما اذا كان على دراية برغبات و مقاصد دكتور لام الاخرى؟ اضفت بانه اذا كان ذلك بمثابة امراً عسكرياً فسوف اغير مسيري واتجه الى دكتور لام في المابان، اما اذا كان لدي الخيار في الموضوع، فانني افضل التوجه والاستمرار في اداء مهمتي الاصلية في غرب الاستوائية، وهو ما تم بالفعل. سارت حملتنا في غرب الاستوائية بصورة جيدة جداً، حيث قمنا بتحرير كامل الاقليم، بل واصل قطاعنا في التمدد في اتجاه دارفور تحت قيادة داؤد يحي بولاد و عبدالعزيز ادم الحلو.
خلال نفس الفترة، منتصف العام 1991، اعلن دكتور رياك مشار، دكتور لام اكول وقوردون كونج عن انقلابهم المتوقع في مدينة الناصر، والذي نتج عنه خلق مجموعة انقسامية جديدة: الحركة الشعبية لتحرير السودان- جناح الناصر. وقد ردد قادة الانقلاب الجديد صدى ما طرحته الانقلابات والانقسامات السابقة في الحركة الشعبية، حيث ذكروا من اسباب الانقلاب اهمية نقل النضال لقضية تقرير مصير جنوب السودان، والقيام بعملية اصلاح و ديموقراطية الحركة الشعبية، واحداث تغيرات في قيادتها وهيكلتها. الا ان الدفع بمثل هذه الاجندة والاهداف كان عادة ما يتم افساده، وذلك بتصوير الآخرين غير المشاركين والموافقين على الانقسام باعتبارهم مرتدين عن المباديء، خونة للقضية، وفاسدين في اشخاصهم.
واللافت انه، و خلال العشرة سنوات التي استمر فيها وضع الانقسام، لم تتحقق اي من الاصلاحات اواجندة الانقلاب التي ادرجها دكتور لام ودكتور رياك في ثيقة الانقلاب المعنونة بـــ؛ "لماذا يجب الاطاحة بقرنق." حيث كان الانجاز الوحيد لذلك الانقسام هو اتفاقية الخرطوم وموافقة النظام الانتهازية لمطالبة المنشقين بحق تقرير المصير. ادى انقلاب مشار ولام الى انقسام كامل في الحركة الشعبية. واصدر الاثنان الاوامر مباشرة لقواتهما لقتال الجيش الشعبي لتحرير السودان، بدلا عن قتال العدو الحقيقي؛ نظام الخرطوم. وخلال ايام، تم ارتكاب المجازر بكافة مناطق سيطرة الحركة الشعبية. ففي منطقة بور وحدها، وهي المكان الذي ينحدر منه دكتور جون قرنق، تم قتل آلاف المدنين، ونهبت الممتلكات، واغتصبت وقتلت النساء. وقد استفادت حكومة الخرطوم بشكل فوري من ذلك الانقسام، حيث شنت حملتها العسكرية جيدة الاعداد، والمعروفة بـــ " صيف العبور"، والتي نتج عنها فقدان الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان لمعظم المناطق في اعالي النيل لمجموعة رياك مشار-لام أكول ولقوات الحكومة السودانية. وبدوره قام وليام نيون، أحد كبار ضباط الجيش الشعبي لتحرير السودان، بمتابعة المنطق العرقي للانقسام الذي كان قد تبناه مشار للتعبئة ولكسب الدعم للانقسام، حيث قام وليام نون متبعاً هويته الاثنية كنويري، معلناً الانضمام للانقلاب. كما قام كاربينو كوانين باتخاذ ذات المنحى في بحر الغزال معلناً الانضمام لمجموعة واجندة الانقلابيين.
وبدلاً عن الزحف والتقدم نحو مدينة جوبا كما كان مخططاً ومعداً له في ذلك الوقت من قبل الجيش الشعبي، واكتمال كافة عناصر ذلك التقدم لتحقيق نصر كبير، ادى تحالف المجموعات المنشقة الى ارجاع الحركة الشعبية الى الوراء بخطوات كثيرة، ووجدت نفسها في وضع بالغ الصعوبة بالدفاع عن نفسها ضد القوات المنشقة عنها، وفي مواجهة نظام الخرطوم في نفس الوقت. ونتيجة لذلك، فقدت الحركة الشعبية معظم مواقعها واصبحت منحصرة في مناطق محدودة في الجنوب، مع جيوب صغيرة تحت سيطرة يوسف كوة في جبال النوبة. اما النيل الأزرق فقد تم انتزاعه بالكامل من الحركة الشعبية. وفي شرق الاستوائية، تم اجبار غاليرو مودي وآخرين على الانضمام لقوات رياك مشار وذلك بسبب توازن القوى القائم على الأرض كامر واقع، حيث كانت قوات النوير تسيطر على المنطقة، ولم يكن امام غاليرو وقواته سوى العمل وفق للقاعدة العسكرية " اذا لم تكن قادراً على قتالهم فعليك التوصل الى سلام معهم."
بعد تغيير الاوضاع الميدانية وفقدان الحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان لمعظم المناطق التي كانت تحت سيطرتها، قامت المجموعات المنشقة بالتوقيع على "اتفاقية الخرطوم للسلام من الداخل" مع نظام الخرطوم في العام 1997. وقد منح النظام الحاكم المجموعات المنقسمة مطلبها الخاص بحق تقرير المصير لجنوب السودان و 80% من عائدات النفط. وكما قالت التجارب السابقة، مثل انقسام الحركة الشعبية فرصة لابد من اغتنامها للنظام في الخرطوم، حيث لم تمثل الاتفاقية لهم قضية مبدئية. وبمجرد تحقيق الاستفادة القصوى من انخراط المجموعات المنشقة في حرب الوكالة للنظام ضد الحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان، تراجع النظام عن التزامه بالاتفاقية. ولم يجد دكتور رياك مشار من خيار أمامه سوى العودة الى الحركة الشعبية، وتبعه لاحقاً دكتور لام أكول ووليام نيون.
وقد صدق انتماء أعضاء الحركة الذين حافظوا على ولائهم للقيادة التاريخية، والتزامهم برؤية واهداف السودان الجديد، وبالهيكل التنظيمي للحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان. ذلك الانتماء والصمود فيه هو الذي هزم في نهاية المطاف اولئك ممن ظلوا يحاولون تقسيم الحركة الشعبية. ليس ذلك فحسب، بل ادت الهزيمة السياسية للمنشقين الى ان تستعيد الحركة والجيش الشعبي قوتها ووحدتها وتقدمها. حيث قام الجيش الشعبي باعادة تاسيس جبهة النيل الأزرق العسكرية، والتي حققت تحرير عدة مناطق منها الكرمك و قيسان، واخذت القوات في التقدم نحو عاصمة الولاية الدمازين. كما تمكن الجيش الشعبي لتحرير السودان أيضاً من تحرير كبويتا، رمبيك، تونج، ياي، ووضعت جوبا مرة أخرى تحت الحصار.
لهذه الخلفية الخاصة بانقسام مجموعة الناصر اهمية اخرى، وهو تزامن سردها هنا مع حلول الذكرى العشرين لانقسام رياك مشار، لام اكول و قوردون كونج. فالنتائج الكارثية لذلك الانقلاب والانقسام ما زالت جارية حتى تاريخ اليوم، بل وترتب علي ذلك الانقسام وما زال يؤثر على تفكير وممارسات العديد من السودانين الجنوبيين. فان الحرب المدمرة الدائرة حاليا في جنوب السودان، والتي بدات في ديسمبر 2013، يمكن بسهولة تتبع رمادها وجذورها لنجدها متصلة بذلك الانقسام، اي قبل 20 عاماً بالتمام من الآن.
في نهاية الامر، انتهي انقسام مجموعة الناصر، والانتصارات الكبيرة التي حققها الجيش الشعبي بعدها، بخلق واقع جديد على الارض من خلال استمرار الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان كياناً قوياً موحداً شكل ضغطاً مبدئياً وحقيقياً على حكومة الخرطوم، سياسياً وعسكرياً، مما مهد الطريق لانخراط النظام الجدي في محادثات السلام، وهو ما قاد في النهاية الى التوقيع على اتفاقية السلام الشاملة في العام 2005.
تاريخ جديد وانقسام جديد
ولدت الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان – شمال في العام 2011، وذلك كتطور ونتيجة منطقية لانفصال جنوب السودان. وجاءت بداية التاسيس بالعمل الفوري لفك الارتباط بين الحركة الشعبية جنوباً وشمالاً، وذلك ببدء عملية اعادة الهيكلة والتنظيم للحركة الشعبية في شمال السودان. وبالفعل تم تكوين عدد من اللجان الخاصة والمؤقتة للتصدي لمهام فك الارتباط واعادة الهيكلة والتنظيم، على راسها لجنة تطوير رؤية "السودان الجديد" بعد انفصال الجنوب، ووضع برنامج سياسي جديد، بالاضافة الى الاتفاق على وضعية الجيش الشعبي لتحرير السودان في جبال النوبة/ جنوب كردفان والنيل الازرق، او ما يعرف بالمنتطقتين.
وفي خضم عملية فك الارتباط والانتقال والتحول السياسي التي كانت تمر بها الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال، قرر الحزب الحاكم في الخرطوم شن حربه مجدداً على المنطقتين في منتصف العام 2011. الامر الذي ادى الى تعطيل العمل السياسي السلمي الهادف من اجل بناء وترسيخ الحركة الشعبية في السودان. وبشن النظام لحربه ضد الحركة الشعبية شمال، اصبح التحدي مضاعفاً: فسياسياً كان لابد من المواصلة في مهمة بناء حركة جديدة (الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال)، وعسكرياً كان لابد من التصدي للهجوم العسكري للنظام وحماية المواطنين في المنطقتين. وبالرغم من توقف عمل اللجان الخاصة بسبب اندلاع الحرب، الا انه تم تحقيق تقدم واضح في عدد من المجالات، منها مجهودات توحيد وتنظيم اعضاء الحركة الموجودين في ثلاث مجالات متمايزة – المناطق المحررة، المناطق الخاضعة لسيطرة النظام وفي المهاجر– هذا فضلا عن استمرار الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال في لعب ادوار رائده في بناء وتطوير التحالفات السياسية وسط قوى معارضة مختلفة، المسلحة و السلمية. فخلال سنوات حرب التحرير الجديدة السبع، تمكنت الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال من الصمود امام الهجوم الصيفي المستمر للنظام وتوفير الحماية للمدنين الابرياء في المنطقتين. اما ملف وقصة المفاوضات السياسية للحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال مع النظام ونشاطها الدبلوماسي مع الاطراف الخارجية فهي تشكل كتاباً مفتوحاً يحكي عن التزام الحركة الشعبية- شمال واصرارها على البناء التراكمي لذات رؤية ومباديء السودان الجديد التي تم تطويرها منذ التاسيس في العام 1983.
وبينما هذا البناء والتطور الايجابي في منتصف الطريق، والحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال يعلو كعبها في تحقيق النجاحات والتقدم – والذي لا يخلو بالطبع من بعض القصور والاخطا – بدأ التاريخ يعيد نفسه، ليذهب في المسار الخطا مرة اخرى. فقد بدأ جليا اننا لم نتعلم بعد الدروس من تجاربنا السابقة في الانقلابات الداخلية والانقسامات. ففي بداية العام 2017، قدم نائب رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، الرفيق عبد العزيز ادم الحلو استقالته عدة مرات. في كل مرة تمت مخاطبة والاستجابة للقضايا التي يثيرها في استقالاته، الى ان جاءت الإستقالة الثالثة والاخيرة، والتي اخذت طابع الانقلاب الداخلي غير المعلن. ففي مارس 2017 اختار الرفيق عبد العزيز الحلو تقديم استقالته هذه المرة، ليس للمجلس القيادي القومي للحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، اعلى هيئة سياسية في الحركة الشعبية، ولكن قرر تقديمها الى مجلس التحرير الاقليمي لجبال النوبة/ جنوب كردفان. وجاء محتوى تلك الاستقالة ومنهج تقديمها واعلانها بمثابة اعلان للتعبئة والحشد لانقلاب جديد اكثر منها مجرد استقالة من منصبه القيادي. حيث جاءت القضايا والاجندة التي تضمنتها وثيقة الاستقالة شبيهه في اللغة والمحتوى والتوجه لما قالت به المجموعات المنشقة السابقة في تاريخ الحركة الشعبية لتحرير السودان. فاضافة للاساءات والاهانة للرفاق "القدامى" بوصفهم بالخونة والمرتدين فكرياً عن رؤية الحركة الشعبية-شمال، اشتملت اجندة الانقلاب الداخلي الجديد ذات دعاوى وجينات المجموعات الانقسامية السابقة: من المطالبة بتقرير المصير لشعب جبال النوبة، وقضية الاصلاح وديموقراطية الحركة الشعبية، وشرط العلمانية كمبدأ للحكم في السودان، والاحتفاظ بالجيش الشعبي لتحرير السودان – شمال لمدة عشرين سنة في حال الوصول الى تسوية سلمية مع النظام الحاكم في الخرطوم. وليس هناك حوجة للتشديد على ان الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، ككتاب مفتوح، الكثير من فصوله متاحه حتى في وسائط التواصل الاجتماعي، قدواصلت في ادارة نقاشات مستمرة حول هذه الاجندة والقضايا، وعلى كافة المستويات، خلال سنوات الكفاح الجديد السبع، وبمشاركة الرفيق نائب الرئيس عبدالعزيز الحلو، قائد الانقلاب والانقسام الجديد نفسه.
الاجندة التي حركت انقلاب عبدالعزيز الحلو الجديد هي ذاتها ما ادى الى تقسيم الحركة الشعبية في الماضي – و الآن ذات الأجندة جعلت تشظي الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال حقيقةً وواقعاً معاشاً. ليس هذا فحسب، فقد حمل الانقسام الجديد ذات الاعراض التاريخية السابقة بفرض مواجهات عسكرية داخلية في النيل الأزرق بين رفاق الكفاح المسلح المشترك، ومطلقاً لموجة من العنف طالت المدنيين الابرياء، مكرراً بذلك سيرة الانقلابات والانقسامات السابقة. إنه لعار كوننا تسببنا في جعل مواطنينا في حرب التحرير الراهنة ضحايا مرتين، فقط لان فقدان البصيرة يمنعنا من تعلم دروس تاريخ الانقلابات والانقسامات في حركتنا. الانقلاب الحالي اضعف الحركة الشعبية و الجيش الشعبي لتحرير السودان – شمال. فمعالجة وإلتئام الجراح التي احدثها سياخذ من وقتنا وجهدنا الكثير، حتى تعود الحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان- شمال موحدة وقوية ومستمرة في كفاحها من اجل تحقيق مباديء واهداف السودان الجديد.
ومن خلال السرد الموجز للوقائع التاريخية والمعاصرة، على حد سواء، للانقلابات الداخلية والانقسامات في الحركة الشعبية لتحرير السودان، يسهل الوصول للخلاصة الرئيسية حول تطابق الحمض النووي لمختلف الشخصيات القائدة والمشاركة في تلك الانقلابات والانقسامات. كما تدعم تلك الخلاصة عدد من الملاحظات السريعة، والتي يمكن تطويرها بالمزيد من البحث والتمحيص، وذلك مثل تطابق كافة تجارب الانقسامات في:
1. اطلاق شعارات "الاصلاح والديمقراطية" ورفعها عاليا اثناء عملية الانقلاب الداخلي بغرض تثبيت الانقسام. يستمر فيما بعد الوضع كما هو، وتغيب تلك الشعارات، ومن ثم تستمر دورة الخلافات لتخلق المزيد من الانقسامات؛
2. تاتي دعاوى المطالبة بحق تقرير المصير من اجل تمييز صناع الانقلاب من الرفاق الآخرين. وتبرز هذه المطالبات دون اخضاعها للنقاشات العميقة الديمقراطية، كما يصاحب طرحها عادة الخلط والتوهان بين الغرض الاستراتيجي والتاكتيكي من طرحها؛