“مؤتمر 27” وغمزة عين متهكمة ناحية القوى المدنية:
امستردام: 29ابريل2024: راديو دبنقا
في ظلمة هذه الحرب سطعت بقعة ضوء صغيرة باعثة على الفرح، بظهور العمل الدرامي الناقد الذي أخذ عنوان: المؤتمر 27
من ميزات هذا العمل الجيد نصا ومحتوى، أنه يضعنا أمام مفارقة التسمية ووضعه تحت نوع محدد من أنواع الاعمال التي تأخذ الشكل الدرامي. يقول القائمون على أمره بأنه سيكون في حلقات، ومع ذلك لا يمكن التعامل معه بالضرورة كدراما بشكلها التقليدي المعروف لدينا.
مثل هذه التجارب مألوفة وموجودة في الغرف تحت مسمى “الساتير” Satire وهو فن السخرية والتهكم. في هولندا مثلا توجد عدة برامج مشابهة مثل “يوم الأحد مع لوباخ” Zondag met Lubach الذي نال شهرة واسعة ووصل صداه وتأثيره للجانب الآخر من المحيط، الولايات المتحدة الأمريكية. يتخذ البرنامج من المادة الإخبارية اليومية موضوعا لهذا التهكم. التهكم من الشخصيات سواء كانوا ساسة، قادة بلدان عظمى، صحفيين، مشاهير أو أي شخصيات ذات تأثير اجتماعي.
بهذا يقدم مثل هذا البرنامج الأحداث ليست كما حدثت بالفعل، ولكن كما كان يمكن أن تحدث مثلا. وأن يصرح الشخص بتصريحات مخالفة تماما لما حدث في الواقع.. أو بلهجة شعبية تفارق الخطاب الرسمي، مثلما يحدث في برنامج آخر يسمى ” التلفاز المحظوظ” وهي ترجمة حرفية من جانبي لتسمية Lucky TV الذي يقدم في شكل سلسلة يومية عقب الاخبار ويستهدف في الغالب العائلة المالكة ورئيس الوزراء وطاقمه وبقية المسئولين.
قد يقول البعض، ولكنك لا تستطيع ان تنفي صفة الدراما عن انتاج مثل مؤتمر 27، وأقول صحيح المظاهر والعناصر الدرامية حاضرة، ولكن ذلك لا يعني أن نتعامل مع الأمر كدراما تقليدية. لأن روح السخرية والنقد التي تحتشد في العمل لا يمكن اضاعتها بأن يأخذ المشاهد دور المتفرج الباحث عن ترفيه.
إذا نظرت لشخصية الصحفي خلال العمل مثلا، ستجد فيها جميع عناصر القصة مصغرة مثل السؤال الأساسي، وخط تطور الشخصية وصولا للدرس المستفاد عبر الخيارات التي تلجأ لها الشخصية.
في احدى الدورات التدريبية لكتابة القصة الدرامية أورد لنا المدرب نموذجا لقصة طولها سطر واحد تحوي جميع العناصر. تقول القصة:
“بعث المسيح من جديد، فقتله الناس مرة أخرى”.
حين نسمع ببعث المسيح يتبادر للذهن السؤال المنطقي: ترى ما ذا سيكون حظه هذه المرة؟ ولكن تطور الاحداث يفاجئنا بأن البشر يعملون على قتله مرة أخرى، على غير المتوقع بالنسبة للكثيرين، وهذه هي المفارقة. لنصل للدرس أو الحكمة المستخلصة من هذه الميني دراما بأن الإنسانية لم تتعلم شيئا خلال ألفي عام.
بهذا المعنى يمكننا القول بأن قصة الشاعر داخل هذا العمل أو قصة رئيسة المؤتمر، قصة الخبير الاستراتيجي وفني الصوت، كل منها تحمل مقومات القصة الدرامية، ولكن التوقف عند هذه الخلاصة سيظلم هذا العمل الرفيع غاية الظلم.
الساتير أو فن السخرية يذهب أعمق ويشرح الواقع وشخصياته بشكل ساخر ليجعلنا نبتسم ونقهقه بالضحك ونحن في كامل وعينا، بعيدين عن أوهام الشخصيات الدرامية.. هي تجربة أقرب للمسرح البريختي المنسوب لبرتولت بريخت.
في هذا العمل نرى الصحفي وهو يجتهد من أجل تقديم تقرير جيد، ولكن خلف همته واجتهاده لا يكمن أي اهتمام حقيقي بتقديم الحقيقة للمواطن بقدر اهتمام الصحفي بإظهار نفسه ومواهبه واستعراض ذخيرته اللغوية.
حاله مثل حال الشاعر الذي يقدم قصيدة رثاء مؤثرة، وفاجعة الموت ليست من اهتماماته بقدر استعراض قدرته على النعي. ذات حال الشاعر الذي يقول بأنه تخصص في المؤتمرات حصرا، بغض النظر عن القضية موضوع التناول.
كذلك الخبير الاستراتيجي بأنماطه المختلفة التي نراها على شاشة الجزيرة، يحاول استخدام لغة ومفردات تؤكد سلطته ومعرفته “الاستراتيجية” التي رفعها بعضهم لعلم غامض يرى ويفسر الأشياء على نحو مغاير لرؤيتنا لها.
ينتهي الأمر بفكرة المؤتمر نفسها كفعالية ونشاط لا يعرف خباياه وتفاصيله الدقيقة الا فئة قليلة محصورة تتحدث نفس اللغة، لغة ذات مفردات ومصطلحات لا يعرفها عامة الناس. لنقل عنه خطاب يمتلكه البعض، يعملون على تدويره فيما بينهم، يمارسون الفرز والعمل على منع الاخرين من امتلاك أدوات هذا الخطاب، من أجل حصر الفائدة والسلطة داخل هذه المجموعة التي يمكن وصفها بالنخبة.
ومن فرط انكفاء هذه النخبة على نفسها وممارستها، يفوت عليهم أن أي فرد عابر يمكن أن يستولى على المنصب الأعظم وهو رئاسة الجلسة، وذلك بسبب الاعتام المضروب على فكرة المؤتمر ذاتها كحدث ومنتج لا يهم إلا فئة محصورة.
المفارقة هنا والسخرية موجهة للممارسة المدنية وفكرة المؤتمرات بشكل عام وغياب مبدأ الشفافية الذي يشوبها في الممارسة اليومية. وبالنظر لحساسيات المرحلة يمكن أن يكون هذا العمل الساخر رسالة في بريد القوى المدنية وفحص قدرتها على التنسيق والتعاون والتحدث بلغة يفهمها الجميع وتعبر عنهم.
وان كان ثمة عنصر أو حدث يضع هذا العمل ضمن الاعمال الدرامية المألوفة لدينا فهو عملية اختطاف المؤتمر التي انتهى بها العمل في ترميز عالي لواقعنا المتردي الذي انهكته الحرب.
“مؤتمر 27” من انتاج: Compass Creative Productions & Seer Films
المنتج: قسمت السيد
المخرج حسن زروق
تمثيل: إبراهيم الجريفاوي – الحاج يوسف – منعم إبراهيم – عمر الفاضل – مصطفى هاشم – لينا النجيب – عبد الجليل ابوزيد – حسن زروق.
————————————–
إبراهيم حمودة – راديو دبنقا