كمال الجِّزولي: البَشِيرُ والجَّنَائِيَّةُ: سَيِّدِي زَيْنَ العَابِدِينِ .. التَّهْرِيجُ لَا يَلِيقُ بِمَجْلِسِكُمْ! ..

لم يحالف التَّوفيق الفريق أوَّل عمر زين العابدين، رئيس اللجنة السِّياسيَّة للمجلس العسكري الانتقالي، في مؤتمره الصَّحفي ظهر الجُّمعة 12 أبريل 2019م …

كمال الجزولي(ارشيف)

بقلم: كمال الجِّزولي

 

(1)

لم يحالف التَّوفيق الفريق أوَّل عمر زين العابدين، رئيس اللجنة السِّياسيَّة للمجلس العسكري الانتقالي، في مؤتمره الصَّحفي ظهر الجُّمعة 12 أبريل 2019م، وهو يعرض لعدد من القضايا، بأسلوب يقرن بين الصَّلف والارتباك، حيث سؤل عن إمكانيَّة تسليم المشير المعزول إلى المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة التي ظلت تطالب به طوال العقد المنصرم، فإذا به يجترُّ، بالحرف الواحد، نفس التَّهريج الذي كان يمارسه النِّظام المدحور، قائلاً: «نحن في فترتنا لن نسلمه. دي قيمنا كعساكر. نحاكمـه. أيوا نحاكمـه. لكـين ما بنسـلمه. نحن العساكـر ديل، أولاد التُّراب دا، نتحاكـم بالتُّراب دا. مافي زول يزايد علينا يقول لينا نسلم سوداني للخارج. نحن والله نحاسب برانا. النَّاقص عندنا شنو؟! القضاء موجود. القانون موجود. نحاسبه، لكين ما بنعمل لينا حاجة قبيحة في تاريخنا السُّوداني. حتَّى المتمرِّد ما بنسلمه. عشان أوريكم إنُّه نحن ما منحازين للرَّئيس، لكين منحازين للسُّودان. القانون موجود، وأي حاجة موجودة. نتحاسب، لكين ما بنسلمه!» (قناة السُّودان عبر قناة الحدث، 12 أبريل 2019م).

إذن، وبمنأى عن أيَّة مكابرة حول موقع «سودانيَّتنا!» في خارطة العلاقات الدَّوليَّة المعاصرة، أو حول تفوُّق وطنيَّة «العساكر ديل!» على وطنيَّة «المدنيِّين!»، أو حول ما إن كان التَّقرير بشأن تسليم «الرَّئيسمن صلاحيَّات المجلس العسكري الانتقالي، أم مجلس الوزراء الانتقالي، وما إن كان المجلس سيحاكمه لأن «القانون لا ينقصنا!»، حسب الفريق زين العابدين، أو ربَّما لن يحاكمه، قولاً واحداً، حسب الفريق أمن جلال الشَّيخ، زميل زين العابدين في المجلس والحركة الإسلامويَّة، والذي صرَّح، تلفزيونيَّاً، بأن الحكومة المنتخبة هي التي ستقرِّر بشأن محاكمته، لا المجلس، أقول: بمنأى عن كلِّ هذا وذاك، فإن المسألة الجَّوهريَّة، هنا، تتلخَّص في ما إذا كان يصحُّ الجَّزم، كما فعل زين العابدين، بأن «لدينا من القوانين» ما يفي بمطلب محاكمة المخلوع داخل البلاد، بحيث لا يكون ثمَّة مسوِّغ، البتَّة، للقبول بانعقاد الاختصاص بمحاكمته للمحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة!

(2)
للإجابة الدَّقيقة على جملة هذه التَّساؤلات يجدر أخذ ما يلي في الاعتبار:
أ/ المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة ليست أداة استكبار دولي، كما كانت تشيع الإنقاذ، في بعض وجوه تهريجها، وإنَّمـا هيئة عـدليَّة دائمـة ترتَّبت على كفـاح باسـل شنَّته مخـتلف الشُّـعوب لوضع حدٍّ لـ «الجَّرائم ضدَّ الانسانيَّة»، و«جرائم الحرب»، و«الإبادة الجَّماعيَّة» التي ظلت ترتكب أثناء النِّزاعات المسلحة الدَّوليَّة والأهليَّة. وقد وقع ذلك في خط التطوُّر المتَّصل والمتشابك للقانون الدَّولي لحقوق الإنسان، والقانون الإنساني الدَّولي، والقانون الجَّنائي الدَّولي، مِمَّا ولد الحاجة لقضاء جنائي دولي لإنفاذ هذه القوانين.

ب/ مرَّت تلك المسيرة بمحطات تاريخيَّة بارزة في سياق جدليَّات القانون والسِّياسة، بحيث تطوُّرت القاعدة القانونيَّة الدَّوليَّة من محض الاقتصار على حقوق «الدَّولة القوميَّة»، حسب المفهوم الذي أرسته «اتفاقيَّة وستفاليا لسنة 1648م»، إلى صون حقوق الأفراد والشُّعوب، كسمة للقانون الدَّولي المعاصر، بأقسامه المختلفة، خصوصاً القانون الجَّنائي الدَّولي.

ج/ من أهمِّ تلك المحطات المحاولة التي جرت، تحت ضغط الشُّعوب العارم، في عقابيل الحرب العالميَّة الأولى (1914م ـ 1918م)، لمحاكمة قيصر بروسـيا على مسؤوليَّته عن جرائم العسكريَّة الألمانيَّة الواسـعة التي ارتكبت خلال تلك الحرب، لولا معارضـة الولايات المتَّحـدة من جهة، وهـروب القيصر نفسه إلى هولندا من جهة أخرى.

د/ ثـمَّ جـاءت الحـرب الثَّانيـة (1939م ـ 1945م) لتهـزَّ ضمـير الإنسـانيَّة كلهـا ببشـاعة جرائمها، مِمَّـا دفـع إلى أعـلى، أكثر فأكثر، بالدَّعـوة لتطـبيق قواعـد المسـؤوليَّة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة على المتَّهمين بارتكابها، من كبار أعوان هتلر وموسيليني، بل وساد الشُّعور بأن الفشل في تطبيقها، على غرار ما جرى في عقابيل الحرب الأولى، سوف يبعث على الشكِّ في إمكانيَّة إنفاذ أحكام القانون الجَّنائي الدَّولي.

هـ/ هكذا، وحتَّى قبل أن تضع الحرب أوزارها، انعقد في لندن، عام 1942م، مؤتمر حكومات البلدان التي كانت ألمانيا قد احتلتها، حيث أصدروا إعلاناً بضرورة محاكمة من أمروا بارتكاب تلك الجَّرائم، ومن نفَّذوها، ومن شاركوا فيها، أمام عدالة جنائيَّة دوليَّة، كأوَّل وثيقة دوليَّة تشير لـ «الجرائم ضدَّ الإنسانيَّة بحقِّ المدنيِّين»، وتعتمد «المسؤوليَّة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة للأشخاص الطبيعيِّين»، وتقرن من «شارك» بمن «أمر» ومن «نفَّذ».

و/ وفي 1943م أصدر الحلفاء «إعلان موسكو» الذي حدَّدوا فيه نطاق «المسؤوليَّة الجَّنائيَّة» للضُّبَّاط الألمان، وأعضاء الحزب النَّازي، عن جرائم تلك الحرب، وقرَّروا إرسالهم إلى البلدان التي ارتكبت فيها لمحاكمتهم بموجب قوانينها الوطنيَّة. أمَّا من صُّنِّفوا باعتبارهم «كبار مجرمي الحرب»، مِمَّن تصعب نسبة جرائمهم إلى جغرافيا محـدَّدة، فقد تُرك أمر محاكمتهم لقرار مشترك بين الحلفاء «1951,Trials of War Criminals».

ز/ وقد قرَّر الحلفاء، زائداً فرنسا، في بوتسدام، عام 1945م، محاكمة «كبار مجرمي الحـرب». وبعـد أيَّـام تبـنَّـى نفـس الـرَّأي «مؤتمـر لنـدن»، بمشـاركة الولايـات المتَّحـدة، والاتِّحاد السُّوفييتي، والمملكة المتَّحدة، وإيرلندا الشَّماليَّة، والحكومة الفرنسيَّة المؤقَّتة، وأصدر، لأوَّل مرَّة، اتِّفاقاً بإنشاء محكمة عسكريَّة دوليَّة عليا لمحاكمة رؤساء، وقادة، وكبار مسؤولي دول المحور في أوربَّا.

ح/ عليه تأسَّست «محكمة نورمبرج»، كأوَّل محكمة جنائيَّة دوليَّة في التَّاريخ لمحاكمة كبار مجرمي الحرب في أوربَّا. وكان من أقوى مبرِّرات إنشائها، أن الجَّرائم المنسوبة لأولئك المتَّهمين «غير منصوص عليها في القوانين الوطنيَّة للحلفاء»، كما أنه يتعذَّر، بمحض قواعد القانون الجَّنائي الدَّاخلي، تقدير مسؤوليَّة الشَّريك «Accomplice’s Liability» الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، ناهيك عن أن البشريَّة، على حدِّ تعبير فقيه القانون الدَّولي شريف بسيوني، أصبحت توَّاقة لنظام جنائي دولي جديد. وكان من أهمِّ بنود الاتِّفاق على إنشاء تلك المحكمة «اعتماد الجَّرائم ضدَّ السَّلام وضدَّ الإنسانيَّة وجرائم الحرب»، و«المسؤوليَّة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة الشَّخصيَّة شـاملة المسـؤوليَّة الجَّنائيَّة لرؤسـاء الدُّول وقادتهـا العسـكريِّين»، و«رفض العـذر المُحِـل (المُعْفِي) بحجَّة أمر الآمر»، و«عدم اعتبار مراكز المتَّهمين الرَّسميَّة، كرؤساء للدُّول، أو كموظفين كبار، عذراً مُحِلاً (مُعْفياً)، أو حتَّى سبباً لتخفيف العقوبة».

ط/ ومن جهتها تأسَّست «محكمة طوكيو»، بنظام آخر، لمحاكمة «مجرمي الحرب في الشَّرق الأقصـى»، ومـع ذلك لـم تخـتلف، جـوهـريَّاً، عـن «محـكمـة نورمـبـرج»، لا مـن حـيـث التُّهم، ولا الإجراءات، ولا المسؤوليَّة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة الشَّخصيَّة، ولا عدم استثناء الرُّؤساء والقادة، ولا رفض العُذر المُحِل (المُعْفِي) بحجَّة أمر الآمر. أمَّا الفرق بين المحكمتين فيكمن في طريقة الإنشاء، حيث تأسَّست «نورمبرج» بموجب «اتِّفاق لندن 1945م»، بينما تأسَّست «طوكيو» بأمر خاص أصدره، في 19 يونيو 1946م، الجنرال دوكلس ماك آرثر، القائد العام لقوَّات الحلفاء، كما أن «طوكيو» أوجدت تهماً وجرائم لم تناقش في «نورمبرج»، كجريمة «بدء عداء غير مشروع»، و«مهاجمة بلدان بدون إنذار أو إعلان حرب».

ي/ وفي دورة انعقادها الأولى، في نوفمبر 1946م، أصدرت الجَّمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة، بالإجماع، وفق اقتراح أمريكي، قراراً بتقنين المبادئ المستخلصة من «محكمة نورمبرج»، لتصـبح مبادئ للقانون الجَّنائي الدَّولي، وهي: (أن المسـؤوليَّة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة شخصيَّة ـ وأن حصانة رئيس الدَّولة أو أعضاء حكومته لا يُعتدُّ بها ـ وأن الدَّفـع لا يجوز بأمر الرَّئيس أو القائد للإعفاء من المسؤوليَّة ـ وأن القانون الجَّنائي الدَّولي يعلو على القانون الجَّنائي الدَّاخـلي ـ وأن الجـرائم الدَّوليَّة لا بُدَّ أن تكـون معيَّنة ومحـدَّدة ـ وأن الاشـتراك في الجَّريمـة الدَّوليَّة يؤخـذ به ـ وأن مبدأ المحاكمة العادلة تنبغي مراعاته).

(3)
ورغم أن المحكمتين شكَّلتا، نظريَّاً، نقطة تحوُّل تاريخيَّة في تطوُّر القانون الجَّنائي الدَّولي، مِمَّا حدا بالكثيرين للاعتقاد بأن "ذلك لن يتكرَّر مرة أخرى"، على حدِّ تعبير كوفي أنان، الأمين العام السَّابق للمنظمة الدَّوليَّة، بل، ورغم أن المجتمع الدَّولي كان قد تعهَّد بالفعل "بألا يتكرَّر ذلك مرة أخرى"، إلا أن العالم سرعان ما ألفى نفسه متورِّطاً في ما يقارب الـ 250 نزاعاً مسلحاً على كلِّ المستويات المحليَّة، والاقليميَّة، والدَّوليَّة، الأمر الذي نتجت عنه ، فضلاً عن انتهاكات حقوق الانسان المرتكبة بمعرفة الأنظمة القمعيَّة، أرقام تقديريَّة لضحايا هذه النِّزاعات من المدنيِّين تتراوح بين 70 و170 مليون قتيل، وما ذلك إلا لكون المجتمع الدَّولي قد شهد ردَّة مأساويَّة عن الجُّهود التي توِّجت بمحاكمات «نورمبرج وطوكيو»، حيث دأبت الأنظمة، غالباً، على تطبيق سياسة واقعيَّة (تقرأ: انتهازيَّة!) تساوم من خلالها بالمسئوليَّة الجَّنائيَّة عن أرواح الضَّحايا، وعذاباتهم، وعن مبادئ العدالة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، مقابل ترضيات سياسيَّة متبادلة!

بالنتيجـة، فإن الجَّـرائم الدَّوليَّة، كالقتل، والتَّعـذيب، والاغتصـاب، والتَّشـريد، والاختفاءات القسريَّة، والإبادة الجَّماعيَّة، ومختلف جرائم الحرب، والجَّرائم ضدَّ الإنسانيَّة أثناء النزاعات المسلحة، الدَّاخليَّة والأهليَّة، أخذت في الازدياد في كلِّ أرجاء العالم، مقترنة بتوسُّع فرص الإفلات من العقاب Impunity. وما من شك في أن أفضل بيئة لذلك تتوفَّر عندما تكون الدَّولة إمَّا «غير راغبة» في، أو «غير قادرة» على تعقُّب الجُّناة، ومحاكمتهم، وإنزال العقاب بهم، سـواء بحكم الواقع de facto، أو بحكم القانون de jure. ولعل الإبادة الجَّماعيَّة في رواندا، مثلاً، والتي ظلت تقع تحت سمع وبصر العالم طوال عام بأكمله، تقدم أبشع دليل، ليس، فقط، على هذه الوضعيَّة الدَّاخليَّة، بل وعلى سلبيَّة، وربما تواطؤ الدُّول!

إزاء ذلك لم ينقطع احتجاج المجتمع المدني الدَّولي، والكثير من الحكومات الدِّيموقراطيَّة، تحت ضغط الشُّعوب، ولم تفتر صرخة الضَّمير العالمي، ومعارضته الجَّهيرة لتلك التَّجاوزات، كما لم تكف هذه القوى عن المطالبة بتعقُّب الجُّناة ومحاكمتهم دوليَّاً. لذلك كله، وبعد تصرُّم عقود طوال على انفضاض سامر «نورمبرج وطوكيو»، زلزل الضَّمير العالمي زلزاله مجدَّداً، على خلفيَّة المآسي المروِّعة التي شهدتها مناطق كالبوسنة ورواندا، خلال النصف الأول من تسعينات القرن المنصرم، فتشكَّلت، مرَّة أخرى، محكمتين مؤقَّتتين Ad Hoc، أولاهما محكمة «يوغسلافيا السَّابقة» بلاهاي، بموجب قرار مجلس الأمن رقم/827 لسنة 1993م، لمحاكمة المسؤولين عن انتهاكات البوسنة، خلال الفترة من يناير 1991م، والأخرى محكمة «أروشا» بتنزانيا، بموجب قرار المجلس رقم/995 لسنة 1995م، لمحاكمة المسؤولين عن انتهاكات رواندا، خلال الفترة من الأوَّل من يناير حتى نهاية ديسمبر 1994م.

لكن، ولأن مثل هذه التَّطبيقات المؤقَّتة لم تعد تجدي، فقد ارتفعت، هذه المرَّة، أعلى من أيِّ وقت مضى، النِّداءات الدَّوليَّة المطالبة بقضاء جنائي دولي دائم، فانعقد بالعاصمة الإيطاليَّة، بين الخامس عشر من يونيو والسَّابع عشر من يوليو1998م، تحت الضُّغوط الدِّيموقراطيَّة المتواصلة، مؤتمر الأمم المتَّحدة الدِّبلوماسي الذي اعتمد «نظام روما Rome Statute» لإنشاء المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، حيث دخلت حيَّز التَّنفيذ فى الأوَّل من يوليو 2002م، كمحكمة دائمة تختصُّ بمحاكمة «أكثر الجَّرائم خطورة في موضع الاهتمام الدَّولي the most dangerous crimes of international concern»، وتحديداً «الإبادة الجَّماعيَّة Genocide»، و«جرائم الحرب War Crimes»، و«الجرائم ضد الانسانية Crimes Against Humanity»، فضلاً عن جريمة «العدوان Aggression» التي أرجئ تعريفها إلى عام 2011م، لكن لم تُعرَّف حتَّى الآن.
وربما تكشف أعجل نظرة إلى «نظام روما» عن أنه يشتمل تقريباً على ذات مبادئ «نورمبرج»، والقواعد الإجرائيَّة، وقواعد الإثبات الخاصَّة بالمحكمة، بالإضافة إلى قاعدة عدم سقوط الجَّرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة بالتَّقادم.

لقد شارك السُّودان في «مؤتمر روما» بواحد من أكبر الوفود، وأنشطها. وفي الثَّامن من سبتمبر 2000م، توَّج مشاركته المتميِّزة تلك بالتَّوقيع على «نظام روما» خلال احتفالات الأمـم المتَّحـدة بالألفيَّة الثَّالثة (راجع قائمة الدُّول الموقِّعة ضمن: محمود شريف بسيوني؛ المحكمة ..، ط1، دار الشُّروق، القاهرة 2004م)، وإن لم يصادق على توقيعه، حتَّى قام بسحبه بعد سنوات من ذلك.

(4)
مع تفاقم قضيَّة دارفور بدرجة أقلقت العالم بأسره، أنشأ كوفي أنان، الأمين العام السَّابق للأمم المتحدة، في الأوَّل من أكتوبر 2004م، وبناء على طلب من مجلس الأمن، لجنة دوليَّة، برئاسة القاضى الإيطالي أنطونيو كاسيسي، للتَّحقيق في أحداث الإقليم خلال الفترة من الأول من يوليو 2002م. وفى يناير 2005م استكملت هذه اللجنة عملها ورفعت إلى الأمين العام تقريرها الذي خلصت فيه إلى أن ثمَّة ما يدعو للاعتقاد بأن «جرائم ضدَّ الإنسانيَّة» و«جرائم حرب» قد ارتكبت من جانب القوَّات الحكوميَّة، ومليشيا الجَّنجويد التي تدعمها، إضافة إلى عناصر حركات التَّحرير، وأرفقت مع التَّقرير مظروفاً مغلقاً يشمل أسماء 51 متهماً بارتكاب تلك الجَّرائم، وأوصت بإحالة Referral هذا الملف من قِبَل مجلس الأمن إلى المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة التي كانت قد اتَّخذت من لاهاي مقرَّاً لها. لكن اللجنة استبعدت وقوع جريمة «الإبادة الجَّماعيَّة»، وإن لم تستبعد وقوع «أفعال إبادة جماعيَّة» من بعض المسئولين الحكوميِّين مِمَّا قد يشكل «الرُّكن المادِّي» لهذه الجَّريمة، لكنها تشكَّكت في توفُّر عنصر «القصد الجنائي Mens Rea» الذي يشكل «ركنها المعنوي»، تاركة هذا الأمر لتبتَّ فيه المحكمة بنفسها.
بالاستناد إلى تلك التَّوصية، أصدر مجلس الأمن، في 31 مارس 2005م، قرار الإحالة بالرقم/1593، مستخدماً صلاحياته تحت المادة/13/ب من «نظام روما»، مقروءة في ضوء «الفصل السَّابع» من ميثاق الأمم المتَّحدة، باعتبار أن الوضع فى الإقليم يشكِّل تهديداً للأمن والسِّلم الدَّوليَّين، ثمَّ طالب حكومة السُّودان، وكلَّ الدُّول الأعضاء في المنظمة الدَّوليَّة، بالتَّعاون مع المحكمة.

أمَّا بشـأن «الإبادة الجَّـماعيَّة» فقـد اســتقرَّ الرأي، داخـل مجلس الأمـن، على ترك أمرهـا لتبتَّ فيه المحكمة نفـسها، حسـب توصية اللجنة، كما صرَّح بذلك، لدى زيارته للخرطوم، أواخـر سبتمـبر 2005م، خـوان مانديـز، المستشـار الخـاص للأمـين العـام للأمم المتحدة لمنع الإبادة الجَّماعيَّة (الأيام؛ 27 سبتمبر 2005م).
بعد استلامه ودراسته للملف الذى حوى محفوظات ووثائق اللجنة، دون أن يتقيَّد به، أو بقائمة الـ 51 متَّهماً، وبعد إجراء تحقيق مستقل، علاوة على تلقيه معلومات بآلاف الوثائق من مصادر أخرى، واستجوابه لأكثر من خمسين خبيراً مستقلاً، أعلن لويس مورينو أوكامبو، المدَّعي العام للمحكمة، وقتها، أن كلَّ المتطلبات القانونيَّة الأوَّليَّة قد استوفيت، فاتَّخذ قراره، فى السَّادس من يونيو 2005م، بفتح الدَّعوى، مطالباً السُّودان وكلَّ الأطراف المعنيَّة بالتَّعاون معه.

التَّحقيقات المستقلة التي أجراها الإدِّعاء الدَّولي، شاملة 17 بلداً، وأكثر من 100 شهادة، إضافة إلى الاطلاع على تقرير لجنة التَّحقيق الوطنيَّة التي كانت حكومة السُّودان قد كوَّنتها في وقت سابق، وشكَّلتها برئاسة دفع الله الحاج يوسف المحامي، أحد رؤساء القضاء السَّابقين، تمخَّضت عن توجيه الاتِّهام لعدد من المسؤولين، ابتداءً بأحمد هارون الذي كان وزير دولة بوزارة الدَّاخليَّة، وعلي كوشيب، الذي كان يقود مليشيا الجَّنجويد سيِّئة السُّمعة في ما يتعلق بجرائم الإقليم، وانتهاءً بعمر البشير، رئيس الجُّمهوريَّة، والقائد الأعلى للقوَّات المسلحة، ورئيس حزب المؤتمر الوطني الحاكم. كانت التُّهمتان اللتان وُجِّهـتا لهارون وكوشـيب ارتكاب «جـرائم حـرب» و«جـرائم ضدَّ الإنسـانيَّة»، أمَّا التُّهـم
التي وُجِّهت للبشير فتشمل تينك التُّهمتين زائداً «الإبادة الجَّماعيَّة» بحقِّ الجَّـماعات الإثنيَّة للفور، والمساليت، والزَّغاوة.
ورغم التَّعاون الذي كانت حكومة السُّودان قد أظهرته، في البداية، مع فريق التَّحقيق التَّابع لمكتب المدَّعي العام الدَّولي، لدرجة خضوع وزير الدِّفاع نفسه لتلك التَّحقيقات التي شملت السَّماح لذلك الفريق الدَّولي بإجرائها، ليس في الخرطوم وحدها، بل وفي دارفور أيضاً، ورغم شمولها لمعسكرات اللجوء في شرق تشاد، إلا أن لحظة توجيه الاتِّهام لرئيس الجُّمهوريَّة، لاحقاً على توجيهه لهارون وكوشِّيب، شكَّلت اللحظة التي دفعت بالحكومة إلى النُّكوص عن تعاونها ذاك، لتتَّخذ، تحت تأثير غضبة مضريَّة، موقف العداء للمحكمة إلى درجة وصفها بأنها مجرَّد أداة في يد الاستكبار الدَّولي، بصرف النَّظر عن حقيقة تأسيسها التي فصَّلنا بشأنها أعلاه. بل إن ذلك العداء بلغ حدَّ التَّراجع وسحب التَّوقيع على «نظام روما» بدلاً من المصادقة عليه. وأعقبت ذلك تصريحات حكوميَّة غاية في التَّخبُّط، تارة بأن أجهزة السُّودان القانونيَّة «راغبة» في، و«قادرة» على تعقُّب الجُّناة، وتقديمهم للعدالة الوطنيَّة، ومع ذلك فإنَّها ما تنفكُّ تجرجر أقدامها، ولا تفعل شيئاً! وتارة أخرى باستنادها إلى أن السَّبب في عدم القبض على المتَّهمين وإخضاعهم للمحاكمات هو هروبهم إلى بيئات تصعب ملاحقتهم فيها! وتارة ثالثة بتكوين وتشكيل محاكم عاديَّة في دارفور، بزعم اختصاصها بمحاكمة المتَّهمين، لكن تلك المحاكم ما تلبث أن تتكشَّف عن الاختصاص بالنَّظر في قضايا جنائيَّة عاديَّة لا شأن لها بالجَّرائم الدَّوليَّة، وهلمَّجرَّا!

مارست الحكومة، أيضاً، بالإضافة إلى تلك الحجج المتهافتة، نوعاً من «المساومات» المفضوحة، مع بعض القوى والمؤسَّسات الدَّوليَّة، بغرض تخليص متَّهميها، وعلى رأسهم البشير، من مطاردة المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، متوهِّمة قدرة هذه القوى والمؤسَّسات على سحب هذا الملف من أمام المحكمة مقابل بعض «الصَّفقات» السِّياسيَّة من تحت المائدة! ولعلَّ ذلك ما حدا بريتشارد ديكر، خبير القانون الدَّولي في منظمة هيومان رايتس ووتش، لإطلاق استنكاره السَّاخر بشدَّة لفكرة السَّماح للبشير بـ «التَّفاوض» السِّياسي لإيجاد مخرج من اتهامه رسميَّاً بجرائم دارفور، حيث أن الأمر، على حدِّ تعبيره، ليس «مزاداً» على موقع «آي باي للتِّجارة الالكترونيَّة»! كذلك مارست الحكومة «إغواءات» للكثير من الزُّعماء الإقليميِّين، خصوصاً الأفارقة، وبالأخصِّ في مؤتمرات قممهم، دون أن تحصل منهم سوى على «طق حنك» بشجب المحكمة، أو على «تلويح» بالخروج الجَّماعي للمندرجين في قائمة عضويَّتها، دون أن يعدو شئ من ذلك محض «مضمضة شفاه lip service»! وليت الحكومة استمعت إلى نصح وليم روتو، نائب الرَّئيس الكيني، أثناء زيارته للبلاد، بين 9 ـ 11 أبريل 2018م، حيث شدَّد، بوجه مخصوص، على خبرة الرِّئاسة الكينيَّة في التَّعامل مع المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، إذ كان هو والرَّئيس أوهورو كينياتا متَّهمين فيها، فاختارا الطريق القانوني بأن يمثلا أمامها، ويبرِّئا ساحتيهما.

(5)
ظلَّ المعارضون لحجج الحكومة البائسة يضيئون السَّبب الحقيقي الذي يحول دون اقتدار أجهزة إنفاذ القانون وتصريف العدالة فيها على محاكمة أولئك المتَّهمين، خصوصاً من النَّاحية الموضوعيَّة، لولا أنَّها أصمَّت أذنيها عن سماع تلك الأسباب، وفي مقدِّمتها أن القانون الجَّنائي السُّوداني لم يعرف، أصلاً، وطوال تاريخه، عناصر القانون الجَّنائي الدَّولي، إلا بالتَّعديلات التي أدخلت عليه عام 2010م (قوانين السُّودان، المجلد/13، الطبعة/8، الباب/18)، بينما الجَّرائم الدَّوليَّة موضوع التُّهم الموجَّهة للمذكورين تعود بتاريخها إلى العامين 2003م ـ 2004م، ومعلوم للرَّائح والغادي، دون شك، أن القانون لا يسري بأثر رجعي. كما وأن «نظام روما» الذي تأسَّست عليه المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، شاملاً الجَّرائم الدَّوليَّة المشار إليها، صدر عام 1998م، ودخل حيِّز النَّفاذ عام 2002م، الأمر الذي يحجب الاختصاص عن المحاكم السُّودانيَّة، ويعقده للجَّنائيَّة الدَّوليَّة، ويجعل من ولايتها أمراً حتميَّاً.

إزاء هذه المعطيات تعيَّن على النظام السودانى أن يختار بين طريقين لا ثالث لهما:
أ/ فإما أن يكابر ويصادم المحكمـة، ومن ورائها المجلس، فى ظـرف وطـنى وإقليمى غير مواتٍ، أقـله تفكُّـك جـبهته الدَّاخـليَّة سـياسيَّاً وعسـكريَّاً، فيضـع نفسـه والبـلاد بأسـرها فـى مواجهة غير محسوبة مع الفصل السَّابع، وأهون مآلات ذلك العزلة عن الجَّماعـة الدَّوليَّة، بكلِّ ما يترتب عليهـا من تبديد حتَّى للأرصـدة الشـَّحيحة التي ظـلَّ النِّظام يعـوِّل عليهـا فى علاقاته الخارجـيَّة، بحيث يخسـر حـتَّى دعـم الصِّـين وروسـيا له فـي «جـردته» الشَّـعواء على المجتمع الدَّولي، ومواثيقه التي ما تزال تمثِّل بخيرها وشرِّها أساس الشَّرعيَّة الدَّوليَّة؛

ب/ أو أن يسـتمسـك جـيِّداً بوضعـه ضمـن الجَّماعـة الدَّوليَّة، فيتقـن التَّعاطـى مـع قـرارات المجلس والمحكمة، متبصِّراً مواطـئ أقدامـه، بلا عنتريَّات، وسـط تيَّارات الاسـتراتيجيات الدَّوليَّة المتلاطمة، بكلِّ ما يفرضه منطق العلاقات والقانون الدَّوليَّين.

اختارت حكومة السُّودان، للأسف الشَّديد، السَّير بالطريق الأوَّل، وبمنهج ملتبس يتقاطع فيه خطاباها «القانوني» و«السِّياسي»، حيناً، ويتطابقان، حيناً آخر، ويحلان محلَّ بعضهما البعض أغلب الأحيان، دون أن تنجـح، ولو مرَّة، في تأسيس أيَّة حجَّـة يؤبه لها، وبالأخص الحُجَّـة الوحيدة التي كان مفترضاً فيها التَّركيز عليها، حسب مقتضى المادة/1 من «نظام روما»، وهي إثبات زعمها بتوفَّر عنصري «الرَّغبة» و«القدرة» لديها فى تعقُّب ومحاكمة الجُّناة لمنع الافلات من العقاب، بما يمكنها من استصدار قرار من «محكمة ما قبل المحاكمة Pre – trial Court» بعدم مقبوليَّة الدعوى، تحـت المادة/17/أ من النِّظام، أو يقنع مجلس الأمن بأن يطلب من المحكمة عدم البدء أو، على الأقل، عدم السَّير فى إجراءات التحقيق أو المقاضاة Deferral، لمدَّة 12 شهراً، حسب المادة/16. وغنيٌّ عن القول أن السبيل الوحيد الذي كان من الممكن أن يؤهِّلها لإثارة مثل هذا الحجاج القانونيِّ المستقيم هو أن تتجِّه ، بالجديَّة كلها ، لتأسيس الاجراءات القانونيَّة الكفيلة بفتح البلاغات ضَّد الجُّناة، وملاحقتهم، والقبض عليهم، والتحقيق معهم، تمهيداً لتقديمهم لمحاكمات عادلة أمام قضاء مستقل، في ما لو كانت هي نفسها جزءاً من الحلِّ وليست جزءاً من المشكلة!

هكذا اعتمدت الحكومة خيار المواجهة الخاطئة مع المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة على النحو الآتي:
أ/ أنكرت، في البداية، أيَّ التزام لها تجاه المحكمة، استناداً إلى المغالطة، فحسب، بشأن توقيع السُّودان على «نظام روما»، حسبما أبلغ وزير العدل النَّائب العام، فى منتصف أكتوبر 2005م، سيما سمر، المقرِّرة الخاصَّة، آنذاك، لحقوق الانسان في السُّودان، بأن ".. السودان غير ملزم وغير خاضع لقوانين المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة نظراً لعدم توقيعه على اتفاقيَّة روما!" (الرأى العام، 18 أكتوبر 2005مم). وهي مغالطة مكشوفة، بطبيعة الحال، بل محض تهريج، كون الثَّابت، كما سبق وأشرنا، أن السُّودان قد وقع، بالفعل، في الثَّامن من سبتمبر 2000م، بل وكان قد أسهم، قبلاً، وبنشاط جم في «مؤتمر روما الدِّبلوماسي» الذي انعقد بالعاصمة الإيطاليَّة صيف 1998م، ونتج عنه «نظام روما» الذي أسَّس للمحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة.

ب/ ثم ما لبثت الحكومة، عندما تبيَّنت صعوبة الاستمرار في تلك المغالطة، أن عدَّلتها، لاحقاً، إلى ما بدا لها، خطأ، أنه قد يقوم مقام الحُجَّة المُفحِمة، بقولها إن السُّودان قد وقَّع، لكن لم يصادق، على ذلك النِّظام. وهي حُجَّة واهية تماماً، بالنَّظر إلى أن المادة/19 من «معاهدة فيينا للاتفاقيَّات الدَّوليَّة لسنة 1969م» تحظر على الدَّولة الموقعة ممارسة أيِّ تصرُّف من شأنه إعاقة إنفاذ ما وقعت عليه، دَعْ أن إحالة ملف دارفور من جانب مجلس الأمن إلى المحكمة قد تمَّت تحت المادة/13/ب من «نظام روما»، مقروءة في ضوء الفصل السَّابع من «الميثاق»، الأمر الذي لا يتطلب المصادقة، أو حتى التوقيع، ابتداءً، على «النِّظام».

ج/ وما أن أدركت الحكومة ضعف حُججها بهذا الاتِّجاه، حتَّى تحوَّل خطابها، في واحد من أخطر انقلاباته غير المنطقيَّة البَّتة، بل والعدميَّة تماماً، لا ليحتج «قانونيَّاً»، كما كان الأمر في البداية، على مجرَّد إحالة الملف إلى المحكمة، بل ليشجب المحكمة نفسها «سياسيَّاً»، وبلا هوادة، في كلِّ مناسبة، وكلِّ منبر، وعلى ألسنة كلِّ رسميي الحكومة، وبأقلام جميع صًحفيِّيها وإعلاميِّيها، بزعم أنها محض ثمرة لـ «الاستكبار الدَّولي»، وأداة لـ «الهيمنة» و«التسلط»، ومعول هدم لـ «السَّيادة الوطنيَّة»، استناداً إلى مفهوم «السَّيادة» الذي عفى عليه الزَّمن من عهد «وستفاليا»، وليعلن، من فوق ذلك كله، عن عدم استعداد الحكومة للتَّعاون معها، بل وليُعَمِّد كلَّ من لا يوافق على هذه السِّياسة «خائناً أعظم»! هذا الموقف يثير، من فوره، ملاحظتين غاية في الأهميَّة:
الملاحظة الأولى: أن الحكومة وضعت نفسها، بموجب هذا الخطاب، أمام قضيَّة منطقيَّة لا فكاك لها من مجابهتها سياسيَّاً وأخلاقيَّاً: فإما أنها، عندما وقعت على «نظام روما»، لم تكن تعلم بالطبيعة «الاستكباريَّة» لمؤسَّسة «الهيمنة الدَّوليَّة» التي ينشئها، أو أنها كانت تعلم، ومع ذلك وقعت عن تضعضع وخور! وأيُّهما كان خيارها فهو، بلا شك، أمرُّ من الآخر!

الملاحظة الثانية: أن مجابهة الحكومة مع المجتمع الدَّولي خطت، في هذا الشَّأن، خطوة أكثر وسعاً، وأقلَّ تحسُّباً، لا في المستوى الرَّسمي، فحسب، وإنَّما في المستوى المدني أيضاً! فالمحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة لم تتأسَّس، مطلع الألفيَّة، كمحض عمل من أعمال العلاقات التَّواثقيَّة بين الدُّول، بل، أيضاً، وكما قد رأينا، كتتويج لجهد مدنيٍّ خارق، وحملة شعبيَّة عالميَّة ضارية شارك فيها، على مدى عشرات السَّنوات، ملايين النَّاس من شتَّى البلدان، وآلاف الأحزاب والتَّنظيمات السِّياسيَّة، والمنظمات الطوعيَّة والإنسانيَّة، والمراكز الأكاديميَّة والبحثيَّة، والجَّمعيَّات العلميَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة، والمؤسَّسات الصَّحفيَّة والإعلاميَّة المستقلة، والشَّخصيَّات البارزة، من مختلف المدارس والاتِّجاهات الفكريَّة الدِّيموقراطيَّة. ولا تزال هذه الحملة تتصاعد، في الوقت الرَّاهن، بتنسيق من «التَّحالف الدَّولي لأجل المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة CICC»، للدَّفع باتِّجاه المزيد من الانضمام إلى «نظام روما»، إما بالتَّوقيع والمصادقة، أو باستكمال إجراءات المصادقة، كما كانت حالة السُّودان قبل سحب توقيعه. والأهمُّ إثارة الاهتمام، وخلق الوعي، بضرورة هذه المؤسَّسة العدليَّة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، وجدواها «التَّكميليَّة»، بالنِّسبة للشُّعوب، خصوصاً ملايين المدنيِّين العاديِّين من ضحايا الانتهاكات ذات الطابع الجَّنائي الدَّولي بالأساس، كلما تعذَّر، لأيِّ سبب، تطبيق القوانين الوطنيَّة. تلك هي الحقيقة الابتدائيَّة الأساسيَّة التي ينبغي أن توضع نصب الأعين دائماً، وألا تغيب عن الأذهان لحظة، لدى أيِّ حديث عن هذه المحكمة، كونها مطلباً ديموقراطيَّاً عالميَّا، لا محض مؤامرة «استكباريَّة» دوليَّة!
إذن، فالقول بأنها مؤسَّسة «أجنبيَّة» لا يجوز لـ «الوطنيِّين» أن يرضخوا لها، والزَّعم بأننا لا نحتاجها لأن لدينا من «القوانين» ما يكفل محاكمة أيِّ متَّهم بجريمة دوليَّة، لهو مجرَّد تهريج كانت تمارسه الإنقاذ، جهالة أو مكابرة، فمن العيب أن تتورَّط فيه مؤسَّسة المجلس العسكري الانتقالي، ومن يمثِّلونها!

***

[email protected]

Welcome

Install
×