كمالا إبراهيم اسحق: الجداريات الممسوحة تعد مع شهدائنا
في الثورات السابقة في تاريخ السودان، أكتوبر 1964 وأبريل 1985 كان الشعر هو حادي الثورة وملهم الجماهير، ولكن في ثورة ديسمبر المجيدة كانت الفنون والتشكيل والمسرح هي القوة الدافعة للثورة..
في الثورات السابقة في تاريخ السودان، أكتوبر 1964 وأبريل 1985 كان الشعر هو حادي الثورة وملهم الجماهير، ولكن في ثورة ديسمبر المجيدة كانت الفنون والتشكيل والمسرح هي القوة الدافعة للثورة..
هذا ما قالته الفنانة التشكيلية كمالا إبراهيم إسحق الفائزة بجائزة أمير كلاوس للفنون والآداب في حديثها لراديو دبنقا بهذه المناسبة.
التقيتها في بهو الفندق العتيق الفخم المواجه للقصر الملكي بالعاصمة الهولندية أمستردام، واستقبلتني بثوب سوداني مميز بنقوش هادئة تشبه لوحاتها التشكيلية..
قالت إن حصولها على الجائزة في هذا التوقيت مهم، ليس بالنسبة لها شخصيا ولكن للسودان ولإسم السودان وهو ينجز مثل هذه الثورة العظيمة. وكمالا كانت في قلب الحدث تعمل مع أبنائها التشكيليين على انجاز جدارية ضخمة يتجاوز طولها الكيلومترين تخليدا للثورة والشهداء، إلا أن مذبحة فض الاعتصام قضت على الجدارية وتم مسح ما تبقى من جداريات بواسطة العساكر.
تقول كمالا إن ما تم فقده من رسومات وجداريات يحدث احساسا بالألم العميق وبالفقد، واعتبرت هذه الرسوم بمثابة القتلى أيضا.
في بداية انقلاب الانقاذ وبعد مرور نحو عام واحد قررت كمالا ابراهيم اسحق تقديم استقالتها كأستاذة بكلية الفنون التابعة لجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، احتجاجا على إغلاق قسم الدراسات الإضافية بالكلية. تقول كمالا:
"شخصيا لم أكن أعطي دروس في قسم الدرسات الإضافية، ولكني رأيت بوضوح أن هذه القسم له فائدة كبيرة للمجتمع السوداني. يدرس به محبي الفنون الجميلة من مختلف الخلفيات، هواة من المواطنين العاديين، وموظفين وأطباء ومهندسين. وبإغلاق القسم تأكد لي أن النظام يسعي للقضاء تدريجيا على الكلية فكتبت استقالتي من سطر واحد وحملتها لعميد الكلية الذي وافق عليها في دقيقتين وكأنه كان ينتظر مني هذه الخطوة".
انتقلت كمالا بعد تقديم استقالتها للعيش مع زوجها في مسقط بسلطنة عمان في العام 1991 حيث ظلت هناك لمدة 20 عاما ترسم وتعرض، وتزور السودان للاطمئان على الأهل مرة كل سنتين ولم تعد لأرض الوطن بشكل نهائي إلا في العام 2012 بعد مرض زوجها الذي توفي لاحقا في العام 2015.
أكثر ما يصادف الباحث عن معلومات حول كمالا مقولة أنها أسست الحركة الكريستالية مع محمد حامد شداد ونايلة محمد الطيب كنوع من ردة الفعل على الهيمنة الذكورية على مجال الفنون والتشكيل.. بطرح هذا السؤال عليها أجابت ضاحكة:
"لا توجد أي هيمنة ذكورية أو خزعبلات، لا أدري من أين تأتون بهذه الأفكار. في سنة من السنوات في الوقت الذي كنت أعمل فيها في الكلية كان عدد الطالبات أكثر من عدد الطلاب لدرجة أن بعض الزملاء الأساتذة اقترح عمل كوتة للفتيات 30% و 70% للذكور، ولكن بالنسبة لي لا أهتم بالنوع ولكن أهتم بالقدرات".
بناء على ذلك استطاعت مع زملائها الأساتذة عمل نظام لإمتحان القدرات للقبول بكلية الفنون يتم فيه استبدال الأسماء بأرقام حتى لا يتم التعرف على الممتحكن إن كان ذكرا أو أنثى .
أما عن الكريستالية كمدرسة وما تبقى منها، تقول كمالا وبطريقتها المنتقدة إن الكريستالية ليست ثوبا كي يتبقى منها جزء.. فكرتها والتسمية جاءت من تقنية الرسم التي كانت تستخدمها في السبعينيات حين رسمت لوحة كبيرة فيها حوالي 15 كرة شفافة بداخلها أشكال أشخاص، رجال ونساء ونباتات، وتم عرض اللوحة ضمن معرض أقامته بالمتحف القومي في العام 1974.
أسلوب، أو تكنيك الرسم الذي استخدمته في هذه اللوحة، كان يستخدم من قبل الكثير من زملائها التشكيليين. وجاءت التسمية الرسمية والمانفيستو للحركة الكريستالية بعد نحو عامين أو ثلاثة من ذلك المعرض. وأضافت أن من كتب المانفيستو للحركة هو طالبها وزميلها في الحركة محمد حامد شداد.
وتحتج كمالا على ربط اسمها بالكريستالية بهذه الطريقة وتقول إنها لا تحب أن توضع في صندوق معين لتبقى فيه للأبد. وتضيف قائلة:
" هي مجرد تكنيك وطريقة في الرسم استخدمتها وقد أعود لاستخدامها في أي وقت ولكن لا يعني ذلك أن أبقى حبيسة داخل هذه الفكرة. الناس يغضبون حينما تنكل بهم الحكومات وتلقيهم في السجون فلماذا تسجنون الفنان داخل فكرة واحدة؟؟".
انهمكت كمالا اسحق بعد عودتها للسودان ووفاة زوجها في العام 2015 في مشاغل الرسم واعداد المعارض. لم يكن المناخ مساعدا تحت حكم الاسلاميين ونظام الإنقاذ، ولكنها تلهج بالشكر للمركز الثقافي الفرنسي الذي أصبح متنفسا للحركة التشكيلية العريضة وأتاح لهم مكانا للعرض ومنبرا للحوار. شاركت في العديد من المعارض وساعدت العديد من أبناء الجيل الجديد في تنظيم المعارض.
واستطاعت كمالا أيضا ربط نشاطها الطوعي بحركة التشكيل والفنون من خلال منظمة سقيا السودان التي تعنى بتوفير المياه للمناطق والقرى النائية في جميع أنحاء السودان. نظمت بمساعدة لينا حجار ومركز دبنقا بالخرطوم 2 معرضا للتصميم شاركت فيه 52 من مصممات الثياب يعود دخله لصالح هذا المشروع. هذا إضافة للعديد من المعارض الأخرى للتشكيليين الذين تبرعوا بلوحاتهم لصالح هذا المشروع من أجل تحقيق الغرض الرئيسي وهو شراء آلة حفر تساعد على انجاز مهمة حفر الآبار.
سألتها عن اهتمامها بفكرة المياه والآبار، أجابت ضاحكة بأن الأمر يعود لعشرات السنوات حين كانت طالبة بكلية الفنون ومشاركتها في رحلة أكاديمية للنيل الأزرق. وقتها كان السفر باللواري ونفدت المياه التي كانت معهم فاضطروا لشرب مياه من أحد الحفائر..
" كانت الحكومة تضيف مادة الفنيك لهذه الحفائر كي تقتل الحشرات، كان لون الفنيك في الماء جميلا، أزرق مائل للإخضرار، ولكن رائحته كانت نفاذة جدا، والحشرات التي تموت بمفعوله كانت تظل طافية على السطح.. من تلك المياه شربنا وظلت ذكراها عالقة بذهني لتذكرني بأهمية الماء بالنسبة للإنسان".
* محرر دبنقا