مبني مدمر جراء القصف بأحد أحياء أمدرمان - المصدر الفيسبوك

بقلم : عماد عبد الهادي

بعد سبعة أشهر وأيام تدفعني ظروف أقوى من الاحتمال بشد الرحال حيث لا أدري، ولا أعرف، بعدما ضاقت ولم يبق من استحكام حلقاتها إلا سم خياط ربما ننجح في الولوج به إلى جهة غير ما نحن فيها الآن. وأحمل حقيبتي فقد هزمتني الظروف شر هزيمة، وأدفن قلبي بين جدران بيتي. وأتركه هنا ريثما أعود . متى ؟ كيف ؟ لماذا ؟ لا أدري. فإذا وجدتني متبلد الإحساس فلا تظلمني فإني قد أنساه هنا مع قلبي. ولربما ينبيك جسدي عن حالي ويغنيك منظري عن أي سؤال يخطر ببالك.
لا الخوف في جوفي ولا القدرة على احتمال المصاعب غلبتني. غير أن أشياء أخر ما كنت أرجوها ولا أتمناها وهي استغلال من بقوا معنا لمن آثروا البقاء. ذلك هو ما ركل ويركل كل إحساسي بالوجود في مكان كثرت فيه الضباع واستباحته الهوام وتزيد فيه الذئاب يوما بعد الآخر رغم قلة الطريدة واختفاء الفريسة.
رأيت من استسلم للمرض، وهو ( فاتح ) الفاه هولا وجاحظ العينين استغرابا.
وشاطرت بدمعي مصابي القصف العشوائي ممن تقطعت أطرافهم أو كانت الشظايا القاتلة متلببه لأجسادهم التي التصق ما بقي فيها من لحم على عظامها، ودفنت بيدي من مات جوعا … يااااا رب عفوك وغفرانك … قبل أن أدرك إطعامه وفشلي في معرفة ما به من تضور لتعففه. وبكيت وازدرت ألمي، وانتحبت حد الوجع، وأنا العاجز عن إغاثة جائع أو تلبية نداء مريض، أو حتى إعانة محتاج، فكلنا في التأوه سادة.
استغلنا بعضهم . يا للتعاسة يا للخيبة يا للندم يا للفجيعة يا لهول المصيبة . فباعونا كيلوجرام الدقيق بستة آلاف جنيه والله شاهد، وكيلوجرام السكر بستة آلاف جنيه والجبار ينظر وكيلوجرام العدس بخمسة آلاف جنية وعين الرحمن لم تغمض. وكيلو اللحم بثمانية آلاف جنيه والرحيم ينقلنا من حال إلى آخر فلم تشته أنفسنا لحما طريا أو حتى رائحة شواء.
وفي المقابل أرقب من جاءوا وتوافدوا وكثفوا وجودهم حولنا انتظارا منهم لخروجنا لسرقة عرقنا وشقائنا وتعبنا ( قبيلة خلقت للسرقة والسطو وجبلت على ذلك دون حياء).
هكذا عشت وعشنا شهورا ملؤها الخوف والرعب والتوجس ويعيش من تركتهم خلفي ذات الخوف وذات الرعب وذات التوجس.
اتركهم وكرامة الرجال والنساء تمتهن بشدة، حينما يقابلونك( من دغش الرحمن ) وهم يتسابقون ومعهم كثير من العسكر نحو نسوة مقبلات تمكن من الحصول على بعض المواد الغذائية . دقيق، عدس، ارز، سكر، زيت … ليختطفها الأسرع منهم ثم الأسرع ليعود غالبهم حاني الرأس مهزوما وقطرات الدمع تغطي جفنه كونه فشل في الحصول على كيلو جرام من دقيق يسد به حاجة من تركهم بداخل بيته من أطفال وعجزة ومسنين.
كما قلت قبلا لم تخفني حتى وشايات الوشاة بوجود سلاح في داري، ولم ترهبني مداهمات كثيرة بسبب الوشايات بأني آوي عناصر يتبعون للدعم السريع. ولم تفت عضدي المراقبة لمنزلي بعد هذه الوشايات بوجود قناص في سطح بيتي كذلك.
ولم افزع حينما اتخذ أحد القناصين منزلي صديقا يستهدفه كلما تذكر أن ما بداخله كائنات حية.
أترك داري في حفظ الله واستودعه المولى إياه ليكون في حرزه المتين. فإن أراد بها خيرا فهو العليم وإن أراد بها غير ذلك فقد يكون فدية من مكروه، وسنجدها يوم الحاجة إلى مثقال ذرة لترجيح كفة.
كما أني اترك أناسا اليوم ينتظرون فرجا من الله قريب بأن يسخر لهم من يعينهم على توفير نصف وجبة أو أقل من ذلك وكيفما يسد الرمق.
اترك أناسا تعلمنا معهم معنى أن نعيش، ومعنى أن نحي، ومعنى أن نبتسم في جوف العتمة لبعضنا.
تعلمنا معهم أن نشرب شوربة الدكوة بالملح، وأن نطبخ ( الكجيك ) السمك المجفف، وأن نخفق اوراق بعض الأشجار. وأن نوقد نارنا بترابيزنا الخشبية بعد تكسيرها. فلا الغاز موجود ولا الكهرباء ولا الفحم.
تعلمنا معهم أن نتباحث أوجاع فلان ونتناسى آلامنا.
أن نضحك لنشد أزر بعضنا، أن نحكي حكايات وقصص لنبتعد عن واقعنا ولو تخيلا. أن نختار في بيوتنا الاماكن التي تكون أكثر تحملا لدانات الار بي جي او الكاتيوشا أو حتى الراجمات وبراميل الطائرات.
فقد أتخمني الوجع فأصبحت أبحث عن دموعي ولا أجد وعن أنين في جوف ظلمة مفتعلة فلا أحصل الا على حشرجة.
فكلما رأيت جماعة تحمل نعشا نحو مأوى ومثوى صاحبه الاخير تساءلت عن قاتل المحمول بأن كيف يلقى الله وماذا هو قائل حينها وما مبرره. بل تساءلت عن إنسانية هذا القاتل وكيف وصل به الحال ليشارك رب العزة في جبروته . فهل هذا حصاد ثلاثين عاما من زراعة العنف وتحبيب القتل وتزويج القاتل والمقتول بحورية تنتظر في أقرب ( زقاق ).
وطني لم تقتله أميركا، ولم تمزق أحشائه إسرائيل، ولم تدمره الإمارات. بل ذبحه التنظيم العالمي للإخوان المسلمين يا سادة.

Welcome

Install
×