قراءة في بيان مجلس السلم والأمن الأفريقي : فأرجع البصر كرتين

بالنظرة الماسحة الراجعة كما فى مصطلح الشيخ الترابى، جرد الحساب كما فى كلام السوق، احصى بيان مجلس السلم و الأمن الافريقى فى ٢٥ اغسطس الجارى تفاصيل علاقته و عمله فى السودان لمدى اربعة اعوام.

 

 

 

بقلم : المحبوب عبد السلام   

 

 

بالنظرة الماسحة الراجعة كما فى مصطلح الشيخ الترابى، جرد الحساب كما فى كلام السوق، احصى بيان مجلس السلم و الأمن الافريقى فى ٢٥ اغسطس الجارى تفاصيل علاقته و عمله فى السودان لمدى اربعة اعوام.

البيان مثل عقدة المشنقة وضعت بأناقة بالغة كأنها ربطة عنق، و لكن لم يفت على المجلس أن يضع على طبق من حرير المقص لحكومة السودان إن شاءت أن تفك عن عنقها الرتاج، مقص صالح للعمل لمدة ٩٠ يوما، أحكمت الطوق على السودان من جهاته الاربع و أتاحت مسربا للضوء ، الشعاع كذلك مدى صلاحيته ذات الشهور الثلاث، مجلس السلم و الامن الافريقى المنبثق عن الاتحاد الافريقى هو الآخر بوجه من الوجوه ناد للدول، لكن أن يرفع البطاقة الصفراء لإحدى دوله الكبيرة و يحدد موعدا ليس فى إمكان السودان أن يخلفه محنة، كفى بها من محنة للدبلوماسية السودانية.

لم ينس البيان أن يذكر فى فقرته الاخيرة بالبند فى الميثاق الذى يتيح له أن يفعل ذلك، بيان ماكر كمسرح الجراح فى المستشفى يقول صلاح احمد ابراهيم، لكن دبلوماسيتنا مثل بقرة صفراء جلدها ثخين. أما اعلامنا فهو مثل إنسان الفارابي هلامى اذا شككته بدبوس أو طعنته بسكين لا يستجيب اطرافه بعيده عن مراكز انتباه الدماغ احساسه ضعيف يؤول الى الصفر، كأنه لم ينتبه للإنذار، بعضنا من بعض تحولت لا مبالاتنا الى بله، ابثي كما يقول الانجليز.

البيان بين السطور شديدة الإحكام و الدبلوماسية وفى النص المسكوت عنه و الذى اشار للجهة المسؤولة عن ( أسف المجلس و حسرته العميقة ) دون أن يسمها، يريد أن يقول بكل بساطة : يا جماعة الخير فى الحكومة السودانية كفاية. ( أو على الحكومة السودانية الامتناع عن اى اعمال من شأنها أن تقوض الثقة فى العملية أو تعرض للخطر امكانية اجراء حوار وطنى شفاف و ذى مصداقية فى السودان ) و لأن الماكينة عبر ربع قرن ادمنت أجهزتها طرائق فى التفكير ستلتمس و شيكا كل الطرق إلا طريق لا يصح الا الصحيح. يمكن أن تشقق الحركات على تشققها حتى لا يجد زعماؤها مأوى سوى الخرطوم، عودة جديدة و عائدون جدد و قسمة جديد ووزارات جدد و لن تحل المشكلة و لن نقول وداعا للسلاح، ( لن ينته الصراع الداخلى و تفرغ القوات المسلحة لواجبها الدستورى و الاستراتيجى فى الدفاع عن البلاد و فى تطوير قدراتها لمستوى العصر ) كما قال الرئيس بصريح العبارة وهو يخاطب منطقة امدرمان العسكرية الشمالية الاسبوع الماضى. قد نعمل تكتيكاتنا لكسب الوقت، تسعون يوما أكثر من كفاية نحن ماهرون بهذا الشىء. قد يموت الفقير أو يموت البعير، قد يزهد امبيكى و تسكت زوما و يصلح امرنا أكثر مع داسالين و لكن لن يصح الا الصحيح، أو توجد طريقة واحدة لفعل اى شىء هى الطريقة الصحيحة كما فى المثل الانجليزى.   و رغم أن البيان وقع عليه و شكر من جماعة ليسوا ديمقراطين فقد ذكر بصريح العبارة : و المسؤولية الخاصة التى تقع على عاتق حكومة السودان هى أخذ زمام المبادرة فى ضمان عقد حوار وطنى جاد وحقيقي و شامل و تحول ديمقراطى فى البلاد ) ، و يسعدنى أن اقتبس الرئيس للمرة الثانية : يوجد تنظيم و لكن لا يوجد حزب، اذا لم يكن هنالك عمل سيكون مصير المؤتمر الوطنى مثل مصير الاتحاد الاشتراكى. إنتهى الاقتباس. و اذا لم تكن هنالك ديمقراطية كيف سيستمر حزب فى الواقع أو كيف سيخلد فى التاريخ، و اذا لم يكن عمل المؤتمر الوطنى الحوار فماذا يعمل، الاحزاب مثل البشر يفرق بينهم الخيال، ليس الذكاء و لا الشطارة و لا المكر و الدهاء و لكن الخيال.

لم ينس البيان بالطبع أن يذكر المؤتمر الوطنى بخريطة الطريق التى أقرها عدة مرات، ووقع عليها فى الخرطوم و فى أديس، أصالة عن نفسه والامير أحمد سعد عمر نيابة عن حكومته، أعنى حكومة المؤتمر الوطنى. و لا أشك أن أكبر حسرة المجلس الافريقى مصدرها العبث بخريطة الطريق، يقول البيان : يشير المجلس بخيبة امل و قلق عميق الى أنه رغما عن قرارات المجلس و تشجيعه و رغما عن الجهود غير المسبوقة التى ظلت تبذلها الالية الافريقية رفيعة المستوى على مدى ٦ سنوات فضلا عن الدعم الذى يقدمه المجتمع الدولى الا أن التحديات الاساسية للامة السودانية ظلت دون حل، و أن تقدما غير كاف احرز فى تنفيذ خارطة الحوار الوطنى). ذلك أن خريطة الطريق كلفت امبيكى ذى السبعين عاما أن يطوف بين أديس و الدوحة و نيويورك و القاهرة و الخرطوم، يتوقف كل مرة فى الخرطوم ليتأكد أنها عند موقفها قبل أن تقول له فى المرة الاخيرة: شكر الله سعيكم.

من عجائب بيان مجلس الامن و السلم الافريقى وهو يجتر حسرته أنه استطاع يترجم خطاب الوثبة الى لغة مبينة : يؤكد المجلس مجددا دعمه للحوار الوطنى الذى اعلنه الرئيس عمر البشير فى يناير ٢٠١٤ و يؤكد على المبدأ الذى اعتمدته الاحزاب السودانية أن الحوار الوطنى يجب أن يكون عملية سودانية شاملة تهدف الى معالجة و حل التحديات طويلة الامد التى واجهتها الامة السودانية استنادا الى اجندة السلام و الوحدة الوطنية و الاقتصاد و الحقوق و الحريات الاساسية و الهوية الوطنية و مراجعة الدستور و الحكم و العلاقات الدولية. و قبل أن نجتهد فى الاجابة على سؤال لماذا يخشى المؤتمر الوطنى الديمقراطية نحاول أن نفهم لماذ يابي المؤتمر الوطنى الذهاب الى اديس وهو حزب يحب السفر و ذو مرة فى ارتياد المنابر الخارجية لحل المشاكل السودانية، و الاجتماع كما ذكر مرارا و تكرارا أنه فقط للاجراءات، أو كما قال رئيس حزب سودانى لهايلى منكريوس : ماذا تبغون من الاجتماع التحضيرى،وقف الحرب،ايصال الاغاثة، إحترام الحريات و الحقوق، إطلاق سراح المعتقلين و المحكومين، تأمين دخول و خروج المحاربين من المحاورين، إذن إعتبرنى موقع منذ الان. و رغم خوف مبرر و مقدر من توالى عروض الازمات السودانية فى مسارح العالم و الاقليم، فإن الممطورة لن يضرها رش.

أما بالنسبة الى الطرف الآخر فإن تأمينه يبدأ من هنا، إنطوت سنوات الستين من القرن الماضى و انطوت مرحلة كان يكفى معها كلمة حتى يدخل المحارب و يخرج بغير وجل، تستعيد احلامنا الذكريات الحالمة لمؤتمر المائدة المستديرة، يبدأ تأمين المفاوضين بتأمين المفاوضات ذاتها و نتائجها، نحتاج لطرف دولى يقيمنا على الجادة إذ نحن نكاثون نكاصون حناثون، و أديس قريبة و حبيبة و قد شملها المجلس بالشكر.

لقد عنى البيان بالجدية الديمقراطية، و الديمقراطية طويل حديثها أم يطول ؟ ، و للمرء أن يعجب أيضا ما الذى يخشاه حزب مكث فى السلطة ربع قرن يسنده حزب عمره جاوز الستين، ثم هل نتحدث عما يملك و لا يملكه الآخرون ؟، ديل مالين الدنيا ملى، و نمسك عن عجز البيت إذ فيه اختلاف. صحيح أنهم جربوا شهرا من الحرية بعد الوثبة وجدوا اختلافا كثيرا، كان مثل أيام جنرال ماركيز فى المتاهة : لكى تعرف أيها الجنرال معنى أن يكون الإنسان حرا ). و رغم أنهم من قوتهم يحكمون وهم فى ذات الوقت يعارضون، بعضهم كذلك من بعض، فالصحيفة التى تولت القسط الأكبر من الوثائق التى يسميها الرأى العام وثائق الفساد خرجت من ذات المشرب، ربما تحرقها الحقيقة، ربما يغيظها الفساد، ربما شكلة الاخوان و أبناء العمومة، ربما وربما و لكن وثائق الفساد محلها المحاكم كما يكرر المسؤولون دائما، لكن الحق أن الصحافة لا تنشر قصص الفساد ووثائقه إلا فى كنف تحقيق صحفى يشبه فى كثير من صوره ووسائله التحقيق القضائي. تلك مشكلة من مشكلات الحرية الكثيرة تحتاج لفكرة كأن يسبق الحوار ميثاق شرف للنشر حتى لا يفسد المسار كله و الناس تكد فى البحث عن المخارج.

يجدر كذلك بموائد الحوار و جمعيته العمومية و لجانه و شخصياته الحزبية و القومية و سائحوه و اسناده أن يعملوا الخيال فى الصيغة السودانية للعدالة الانتقالية ويلزمهم فى ذلك أن يقرأوا أدب كثير كتبه الأقربون و الابعدون، كما يلزمهم أن يعملوا خيال كثير، و حتى المحكمة الجنائية الدولية تقع ضمن تراتيب الإعداد و الاستعداد للحوار كما يؤكد دائما السيد الصادق المهدى، فنحن منذ الاستقلال فى إنتقال ينبغى ألا تستعصى علينا قضاياه كما استعصت على جيراننا فى المحيط العربي. نعرف كيف نوقف الحرب و كيف تنشر القوات و تدمج، ينبغى ألا نقع فى الخلط بين أمصال تطعيم الاطفال و دانات المدافع، فلنا فى ذلك عهد طويل منذ أيام شريان الحياة. فمسارات الإغاثة مثل مسارات الحوار تبلغ غاياتها اذا خلصت النوايا و صح منا الحزم، عملية واحدة بمسارين كما فى بيان مجلس السلم و الأمن الافريقي أو اكثر من عملية بأكثر من مسار كلها تفضى الى حل. وقد تتشعب الطرق و تنبهم المسارات، حيث يجيد أصدقاؤنا فى المعارضة و الحركات الحركة بين قوى العالم ومؤسسات المجتمع الدولى، و خلال منظمات الاقليم و يديرون معركتهم بذكاء فى الاعلام كما حدث فى إجتماع مجلس السلم و الامن و ما اعقبه من لقاءات و بيانات و تصريحات حتى بدت المعارضة كأنها متماسكة وفى أحسن حال، و لكن بالمقابل كلما طالت الرحلة طالت معاناة شعب كبير فى العراء   و تعرض وطن عزيز لاختبار التجزئة و الانقسام، و كلما تحقق انتصار لهذا الطرف أو ذاك بعيد عن لب الموضوع و لدى طرف أجنبي انفتحت ثغرة و أقتربنا من تكرار تجربة الجنوب كأننا نسينا عبرتها البالغة و موعظتها المريرة، فحسن فعلت الحكومة عندما سمحت لجماعة ٧+٧ بالسفر الى اديس و العودة دون الضجة التى صاحبت عودة الوفود فى الماضى بعد لقاء الجبهة الثورية، وحسنا فعلت جماعة ٧+٧ عندما أكدت وحدة السودان و الا سبيل سوى الحوار و افسحت مسربا للضوء و قاربت طرح الحكومة التى تؤكد على ذات المعانى وكلمات الرئيس عندما قال: الحوار اولى اولويات الدولة.

لن تكتمل الصورة حتى ندير الكاميرا تلقاء الخارج الدولى و سنجد امام الدكتور غندور أكثر من فرصة رغم توالى الفرص المهدرة، يود اوباما بعد أن طوى بنجاح الملفات التى استعصت على الزمن فى كوبا و ايران دولتين قابلتين للحياة فى السودانين، لا يريد أن يغادر البيت الابيض بميراث اسوأ مما ترك جورج بوش الابن الذى أنهى أطول حرب فى القارة الافريقية وهو يترك دولة مهددة بالفشل و اخرى بالعزلة و كلاهمامهدد بالتقسيم. قد يجد غندور ما تركه عند اسوار برلين الدارسة أمام المكتب البيضاوى أو مع كيرى فى الخارجية، و الحياة دائما ليست سخية فى الفرص كما يقول شيخنا الراحل الطيب صالح.

Welcome

Install
×