في غياب السلطات والمنظمات، مبادرات شعبية في القضارف لتخفيف معاناة النازحات
القضارف: الثلاثاء 23 يوليو 2024: راديو دبنقا
تقرير سليمان سري ـ فاطمة بريمة
تتفاقم الأوضاع الإنسانية في ولاية القضارف التي تستضيف قرابة المليون نازح، بينهم 200 ألف نازح توافدوا من ولاية سنار، بعد اجتياح قوات الدعم السريع للولاية. فبجانب الاشتباكات بين طرفي الحرب، إلا أن قوات الدعم السريع ارتكبت انتهاكات جسيمة في حق المواطنين، أجبرت العديد منهم إن لم يكن غالبيتهم على النزوح القسري وإخلاء مساكنهم والخروج سيرًا على الأقدام وصادرت من بعضهم مركباتهم ومنعت المواطنين من أخذ امتعتهم بل من أبسط احتياجاتهم، في مشهد مأساوي، حزين ومذل.
برنامج “كنداكات وميارم” الذي يبث عبر “راديو دبنقا” الخميس من كل إسبوع، وقف في هذه الحلقة على معاناة النساء النازحات من مدن سنجة وسنار والدندر ومناطق السوكي، اللائي نزحن منها في ظروف إنسانية قاسية وذهبن بوسائل مختلفة لكن كان أغلب المسير على أرجلهن لمدة ثلاثة أيام، وسط الرصاص والاشتباكات التي دارت في المدن التي كانوا فيها، ومع هطول أمطار غزيرة من حين لآخر أثناء رحلتهم الطويلة والشاقة إلى ولاية القضارف، قد كان بينهن نساء بعضهن كبار في السن مصابات بأمراض مزمنة مع نقص الدواء، وبعضهن وضعن في ظروف إنسانية قاسية في مراكز إيواء لا تتوفر فيها أدنى مقومات الحياة وسط نقص المياه والمعونات الغذائية.
ولكن رغم ذلك تدافعت نساء القضارف واستقبلن النازحات بكل رحابة صدر وأظهرنا مكارم أخلاقهن وجميل خصالهن، وشكلنا أروع اللوحات لنساء السودان.
شبكة منظمات:
وفي هذا الصدد تحدثت القيادية المدنية آمنة الفاتح، حول دور المنظمات المجتمعية في ولاية القضارف تجاه النساء النازحات، بأن للمنظمات المحلية دور كبير تجاه النساء النازحات، وتقول: تم تكوين شراكات بين عدد من المنظمات النسوية لدعم النازحات وتم تقسيم الأدوار وتقوم مجموعة بتسجيل الأسماء وأخرى بتحديد الاحتياجات وتوزيعها بعد تجهيزها.
وتشير إلى أنه من خلال شبكة تضم عدد من المنظمات، تم تجهيز احتياجات النساء في المخيمات، كذلك نستطيع تسجيل الاحتياجات ومن ثم توزيعها على النساء وتقول: يمكن أن يكون النساء أكثر تضررًا في النزوح من سنجة وسنار والدندر إلى ولاية القضارف كان هناك دعم مقدر جدًا من المنظمات، للشبكة النسائية أو للمنظمات النسوية لبناء الشراكات وبالدعم الذي تلقته المنظمات والذي استطاعت عبره تغطية احتياجات النساء النازحات.
ووصفت “الفاتح” إنَّ رحلة النازحين عامة كانت شاقة ومؤلمة جداً خاصة النساء، وصلن عبر شاحنات مكتظة بالركاب وبعض سائقي الشاحنات كانوا كل ما يذهبوا في الطريق إلى الأمام ويجدوا مواطنين يسيرون على أرجلهم سواء كانوا أسر أو أطفال أو نساء، كانوا يقفون لأخذهم معهم.
مبادرات شعبية:
واعتبرت القيادية المدنية آمنة الفاتح التي كانت تتحدث لبرنامج “كنداكات وميارم” الذي يبث عبر “راديو دبنقا”: أن بعض أعضاء المبادرات في ولاية القضارف كانوا يستقبلون النازحين خارج الولاية قبل الوصول إلى الولاية يقدمون لهم الخدمة ويدلونهم على سلك الطرق الآمنة، وتشير إلى أن الطرق تختفي وتكون غير ظاهرة في فصل الخريف وهطول الأمطار، وتقول إنَّ كثير من الأسر تضل الطريق وهم أساسًا لا يعرفون معالم المنطقة والطرق المؤدية إلى القضارف التي لا يعرفها سوى السائقين. فبعض الأسر ضلت الطريق وبعضهم وصل بعد ثلاث أو أربعة أيام وبعضهم بعد أسبوع فكانت معاناة غير عادية من الجوع والعطش والتعب.
وتقول إن من بين العوامل التي فقد النازحين بسببها الطرق المؤدية إلى القضارف أنهم مروا على قرى كانت خالية من السكان، هجرها سكانها بسبب التهجير القسري من قبل قوات الدعم السريع، وتعتقد أن سكان هذه القرى كان يمكن أن يرشدوهم على سلك الطرق الصحيحة المؤدية إلى القضارف.
عراة في العراء:
وتطرق الناشطة المدنية “آمنة الفاتح” إلى قصة إحدى النازحات وتقول إنّها تلقت إفادات من إحدى الأسر أثناء إجراء الاستبيان لمعرفة وتحديد الاحتياجات، أن قوة من الدعم السريع اعترضت طريق هذه الأسرة، وأجبرت جميع أفرادها على خلع ملابسهم وتجريدهم بالكامل رجالًا ونساءً وتم حرقها أمامهم في منظر مذل ومحط بالكرامة الإنسانية، وتابعت قائلة: إنهم اضطروا للذهاب بعيدًا عن القرية التي وقعت فيها الحادثة وتمكنوا من الوصول إلى قرية أخرى، وأرسلوا أحد الأفراد ووجد القرية خالية من السكان وجمع الملابس من إحدى المنازل، وواصلوا المسير إلى القضارف وهم في حالة نفسية سيئة.
وتروي “الفاتح” قصة نازحة أخرى تقول إنها كانت مصابة بداء السكري ووصلت إلى منطقة الحواته وهناك دخلت في “كومة” بالرغم من نقلها بعربة إسعاف إلى المستشفى إلا أنها فارقت الحياة قبل أن تصل إلى القضارف.
وعبرت عن أسفها لممارسات أفراد قوات الدعم السريع ضد النازحين بقطع الطريق عليهم واجبارهم على ترك اغراضهم وأموالهم تحت تهديد السلاح ، وتقول ” يطلب منهم افراد الدعم السريع بعدم حمل أي شيء لدرجة أن بعض المرضى أجبروهم بترك ادويتهم وملابسهم واموالهم فاضحوا بدون ملابس ولا اموال لقد فقدوا كل شي، المأوى والمأكل والملبس حتى العلاج، هذا وضع مؤسف جدًا”.
فقدت ابنيها:
من الذين استطلعهم برنامج “كنداكات وميارم” الذي يبثه “راديو دبنقا”، النازحة آمال يوسف التي كانت تعيش في ضواحي مدينة سنجة حاضرة ولاية سنار، تقول كنا جالسين في أمان الله قبيل صلاة العصر بدأنا نسمع دوي الانفجارات وأصوات القنابل والرصاص استمرت قرابة الأربع ساعات، وتضيف: في البداية رفضت الخروج من القرية. إلا أن ابن أختي أصر على بالذهاب معهم، وافقت وخرجنا كانت القذائف تتساقط من حولنا، لكنَّا واصلنا المسير حتى بلوغ الجسر الذي كان مكتظًا بالمواطنين لكن تمكنَّا من العبور.
وتضيف آمال: قطعنا الجسر وسط معاناة شديدة، ولكن الدانات أيضًا كانت تتساقط والطيران الحربي يقصف المنطقة من حولنا، وصلنا قرية ودالعائس ثم واصلنا سيرنا لمدة ثماني ساعات سيرًا على الأقدام، وأثناء ذهابنا في الطريق وجدنا عربة شاحنة محملة بالحطب لكن ركبنا على متنها ونحن ممسكين بأيدينا بصعوبة، حتى بلغنا محلية الدندر، وصلنا إلى قناعة بأن الوضع منهار ولم يعد هنالك سبب في بقائنا في ولاية سنار.
وتابعت آمال حديثها: لم نمكث طويلاً في الدندر خرجنا منها وقطعنا مسافة طويلة وصادفتنا شاحنة أخرى قام سائقها بنقلنا إلى القضارف، وتقول: بعد وصولي ذهبت إلى ولاية كسلا لأبحث عن أبنائي، صدام حسين وعمار آدم الذين فقدتهما وسمعت أنهما هناك ولكني لم أجدهما في كسلا وقررت العودة مرة أخرى إلى القضارف، وتضيف: الآن أنا في معسكر بالقضارف والحقيقة وجدنا الاهتمام من الجميع دون تقصير من أي أحد. وناشدت الجميع بمساعدتها في البحث عن إبنها.
أختي عروس لم أتمكن من انقاذها:
قصة أخرى من قصص الحرب والنزوح المحزنة بطلة هذه الرواية، فاطمة عمر التي نزحت أيضًا من مدينة سنجة، تقول فاطمة لبرنامج “كنداكات وميارم” الذي يبث عبر “راديو دبنقا”: لا أستطيع القول بأن الجيش تخلى عنَّا، حقيقة بعض عناصر الجيش بذلوا معنا مجهود مقدرًا لا أنسى صنيعهم من أجل حمايتنا وإنقاذنا أنا وأبنتي من الموت، أًصبت بشظايا ذخيرة طائشة وتم إسعافي.
وتحكي فاطمة مأساة وفاة شقيقتها وهي تزرف الدموع: أنا فقدت شقيقتي عروس أصيبت برصاصة طائشة أمام عيني لم أتمكن من إنقاذها، وتستغرق في البكاء كانت تعد لزواجها وكانت تحفظ أغراضها في الغرفة، سقطت أمامي ولم أتمكن من انقاذها فارقت الحياة أمام عيني، ثم تواصل مشاهداتها المليئة بالمعاناة والقسوة، وتقول: خرجت من سنجة نحو الدندر سيرًا على الأقدام ونحن مجهدين من شدة التعب والجوع والمعاناة ومعي خمسة أطفال وخالتي، وهي امرأة مسنة ومريضة بضيق في التنفس “الأزمة”.
وتضيف: وصلنا إلى الدندر لم نجد فيها الطعام والشراب وما أن استرحنا قليلًا نلتقط أنفاسنا، حتى أخبرونا بأن قوات الدعم السريع هجمت على المنطقة وليس أمامكم إلا مغادرة المنطقة، وبسرعة وبالفعل خرجنا من الدندر إلى منطقة نائية ذهبنا بأرجلنا لا أعلم اسم المنطقة بالضبط لكن وجدنا شاحنة سائقها أبلغنا بأن قيمة الترحيل 25 ألف جنيه حتى ولو طفل عمره عامين، والذي لا يملك هذا المبلغ عليه بالنزول من العربة، يعني أي شخص لا يملك نقود لا يستطيع أن العيش ولا الانتقال من مكان إلى آخر عبر وسائل النقل خاصة في مثل هذه الظروف، نحن الآن مشردين مع أطفالنا في الشوارع لا بيت يأوينا ولا أكل ولا شراب ولا مصدر دخل نعيش عليه.
ثعابين وثعالب:
قصة نازحة أخرى قدمت من مدينة سنجة بولاية سنار ترويها لبرنامج “كنداكات وميارم” الذي يبث عبر “راديو دبنقا”، اشترطت عدم ذكر اسمها، لظروف أمنية، تقول: إنَّ الضربة كانت قوية في الساعة الرابعة إلا الثلث عصرًا ومنزلنا مجاور لمعسكر تابع للجيش مباشرة، قفز عدد من العسكر من على السور إلى داخل منزلنا. خرجنا نحن من المنزل بصعوبة شديدة، ما بين الركض والمشي تارة والزحف على الأرض تارة أخرى، خوفًا من تساقط الدانات والذخائر علينا.
وتقول: كانت هنالك مجاري “خيران” كبيرة بالقرب من النهر وكانت مليئة بالثعالب والثعابين والعقارب ومليئة بأكوام النفايات، عبرنا بها وقطعنا بأرجلنا مسافة طويلة تفصل بين ثلاثة قرى متباعدة.
وتضيف: كان علينا لكي نصل إلى محلية السوكي أن نعبر النهر مرة أخرى، وبالفعل عبرنا بعدها عبرنا أيضًا على قريتين تبعد بينهن مسافة طويلة، وصلنا إلى السوكي ومكثنا فيها يومين لكن كانت خالية تمامًا من السكان والأسواق والمحال التجارية مغلقة، بعدها واصلنا السير وكانت الأمطار غزيرة تتساقط واضطررنا للمبيت في العراء في منطقة لا أذكر أسمها.
وتواصل القول بأنهم غادروا تلك القرية مع الصباح الباكر وهبطوا إلى النهر أيضاً مرة أخرى حتى وصلوا إلى قرية تسمى “كاولي” وباتوا فيها ليلة أيضًا وهي منطقة شبه خلوية مليئة بشجر الهشاب القصير والعقارب الصحراوية كانت تملأ المكان، وهطلت عليهم الأمطار في الليل، لكن تم إسعافهم من أهل قرية قريبة من تلك المنطقة ومدوهم بالمفارش والأغطية بعد إطعامهم والوقوف على خدمتهم بعدها واصلوا رحلتهم نحو القضارف.
وتضيف بقولها: وصلنا القضارف لكن دخلناها عبر مشاريع زراعية كبيرة لم تتمكن العربات من العبور عبرها، فاضطررنا للمشي على أرجلنا لمسافات طويلة وكان بمعيتنا أطفالنا الصغار وامرأة مسنة لم تكن تستطيع المشي، فكانت تعاني في مسيرها وتجلس بعد كل مسافة نقطعها إلى أن وصلنا إلى القضارف التي استقبلنا أهلها بكل ترحاب وحفاوة.
معاناة الإقامة:
وحول الأوضاع الإنسانية للنازحين بعد الإقامة في مركز رجل الأعمال وجدي ميرغني، تقول الناشطة المدنية آمنة الفاتح: إنَّ النازحين تم استقبالهم في البداية في الميناء الجاف والبري، لكن لم يكونا مهيأين، الخيام كانت مفتوحة بالأجناب ولاتقيهم من البرد كما لم تكن هنالك خصوصية نتيجة للازدحام وعدم وجود دورات مياه كافية، في البداية تكفلت منظمة اليونيسيف بحفر دورات مياه لكن حين أطلت مبادرة رجل الأعمال وجدي ميرغني تم إيقاف العمل في تلك الدورات.
وتشير إلى أن خدمة النازحين فوق طاقة الشبكة النسائية للمنظمات المجتمعية بالرغم من أن المنظمات قدمت ما لديها لكن عدد النازحين يتزايد كل يوم، وتقول: إنّ الاحتياجات كثيرة فالنازحين في حاجة عاجلة لملابس الشتاء لتقيهم البرد ومفارش وأغطية “بطاطين” قبل قدوم فصل الشتاء وبرودة الطقس هنا عالية، وأن هنالك احتياجات لأدوية لكبار السن لمرضى ضغط الدم والسكري وغيرها من الأمراض المزمنة.
وتقول إن هنالك كثير من النازحين خاصة النساء في حاجة لعلاج نفسي، كما أن هنالك احتياجات لتوفير ألبان للأطفال والرضع، وتشير إلى أنَّ هنالك حالات إجهاض كثيرة حدثت تحتاج لعلاج ومتابعة لاحقة، كما أن هنالك حالات وضوع أيضًا في ظروف إنسانية صعبة تتطلب رعاية طبية مباشرة في ظروف النزوح. ودعت القيادية المدنية المنظمات الدولية والمنظمات الوطنية الأخرى بالنظر لأوضاع النازحين في ولاية القضارف، وتقديم المساعدات الإنسانية اللازمة والعاجلة للنازحين.