عبدالباقى جبريل: مطالعات حول رفع الحظر الاقتصادي الأمريكي على السودان

الحلقة الاولى من هذا المقال كانت محاولة لتوضيح بعض الجوانب التي لم يتم التطرق اليها بصورة كافية من قبل بعض …

عبدالباقى جبريل

 

(2 من 2)

الحلقة الاولى من هذا المقال كانت محاولة لتوضيح بعض الجوانب التي لم يتم التطرق اليها بصورة كافية من قبل بعض المهتمين السودانيين وذلك في المقالات التي عالجت موضوع رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية على السودان وأبعادها وتداعياتها … في هذه الحلقة الثانية والاخيرة نحاول توضيح علاقة العقوبات الاقتصادية الأمريكية بتدهور الاوضاع ألاقتصادية والتنموية في السودان وكيفية الاستفادة من رفع الحظر في عملية تحول سياسي ومفاهيمي حقيقي تحفظ للسودان أمنه وسلامة ووحدة أراضيه وشعبه

بالرغم عن كل مأ تم الاشارة إليه في الحلقة الاولي من هذا المقال من إشكاليات خطيرة سببتها الإجراءات الأحادية القسرية الأمريكية على السودان وما ترتب على رفعها من تنازلات تمس قواعد السيادة الوطنية قدمتها حكومة المؤتمر الوطني صاغرة، فقد قابل عدد كبير من منسوبي الحكومة من رسميين وشعبيين قرار فك الحظر الاقتصادي الأمريكي بحفاوة بالغة، وان كانت هناك بعض الأصوات القليلة المتحفظة، وبنفس درجة الحفاوة كان قادة الحكومة قد احتفلوا بقرار الرئيس باراك اوباما القاضي بالتجميد المؤقت للعقوبات في الأسبوع الاخير من نهاية ولايته في 20 يناير 2017، مما يوحى بأن الغرض من هذه التظاهرات الهستيرية الرسمية والشعبية هو محاولة اعلامية لتضليل الراي العام الوطني والإقليمي وفى تجاهل للشواهد التي تدل على انه لم يحين الوقت بعد للاحتفاء بهذا القرار دعك عن الاحتفال بجنى ثماره ونتائجه … ان هذه الاحتفالية ليست في محلها خاصة وقد اجمع عدد غير قليل من المختصين الاقتصاديين بما فيهم بعض منسوبي الحزب الحاكم بان رفع العقوبات الاقتصادية عن السودان لوحده غير كافي لخلق أي فرص معقولة للتعافي الاقتصادي والتنموي في البلاد إذ أن هناك غياب كبير للمقومات الضرورية الاخرى ويشمل ذلك الاستقرار السياسي والحكم الراشد وإطلاق الحريات وانهاء عهد اقتصاديات الحرب والعنف القبلي، البيئة الصحية والمعافاة للعمل التجاري التنافسي الحر والمنظومة القانونية والإدارية المحكمة والنزيهة والسياسة الفعالة لمكافحة الفساد ومعالجة معوقات التنمية المتكاملة بما فيها معالجة مشكلة الديون الخارجية المتعددة ذات التكلفة الباهظة والمتنامية … في ظل هكذا ظروف وبالرغم من ان العقوبات الاقتصادية الأمريكية قد خلقت صعوبات جمة للاقتصاد والتنمية في السودان يبقى ربط إمكانية التحسن في أوضاع السودان المعيشية وحل مشاكل الاقتصاد والتنمية بقرار رفع العقوبات هو محض سذاجة سياسية واستهتار بمشاعر الجميع خاصة المواطن السوداني البسيط الذى سعت الحكومة إلى إقناعه بأن الضائقة المعيشية الطاحنة التي يعيشها وما يكابده من ضنك وسوء حال كلها ترجع الى سبب واحد وهو العقوبات الاقتصادية الأمريكية … 

ان العالمين ببواطن الأمور من داخل النظام الحاكم في السودان وخارجه على ادراك كامل بأن فرض العقوبات الاقتصادية الأمريكية على السودان كان نتيجة مباشرة لخطورة ما قامت به حكومة المؤتمر الوطني من أفعال إعتدائية إجرامية داخل البلاد وخارجها وبما يسبب مهددا للأمن والسلم العالميين ولم تكن العقوبات في حقيقة الامر استهدافا لإيقاف عجلة التنمية في السودان او لتدمير مكتسباته الاقتصادية … إن قيام حكومة المؤتمر الوطني باستضافة أعداد كبيرة من الأصوليين الجهاديين من مختلف دول العالم، في اطار "المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي" وتبني تصور سياسي أممي غير متسامح ويهدد مصالح دول كثيرة على نطاق العالم فضلا عن تهيئة الظروف للأصوليين الجهاديين لاتخاذ السودان ملاذا آمن وقاعدة انطلاق لغزو دولهم ودول العالم يمثل المحور الاول من هذه الافعال الإعتدائية الإجرامية

المحور الثاني يتمثل في الاعتداء الإجرامي في حق ملايين المواطنين السودانيين من معارضي التوجه السياسي والإيديولوجي لحكومة المؤتمر الوطني وملايين اخرين من المواطنين البسطاء غير المنتمين لأى فكر سياسي والذين تم انتهاك حقوقهم السياسية والمدنية ومصادرة مقدراتهم الاقتصادية والاجتماعية بصورة منهجية واسعة النطاق مما حدى بالآليات الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان أن تعبر عن قلقها لما يدور في السودان من تجاوزات مؤسسية وان تقرر منظومة الامم المتحدة لحقوق الإنسان ان تتابع الوضع في السودان عن قرب وان تكلف ثمانية خبراء دوليين على التوالي للعمل بصورة منتظمة على المراقبة والتحقيق والتوثيق لانتهاكات حقوق الإنسان في السودان وذلك منذ مارس 1993 تاريخ تعيين أول المراقبين الدوليين لحقوق الانسان في السودان وهو المجرى د. قاسبار بيرو وآخرهم هو السيد ارستيد نونوسو والذي ما ذال يمارس صلاحيات ولايته حتى الآن … تمادت الحكومة أكثر وسلبت ملايين أخري من السودانيين من حقهم الاساسي في الحياة وذلك بالقتل والتشريد داخل حدود الوطن وخارجه وتدمير مصادرهم الاقتصادية ووسائل كسب عيشهم في عمليات عسكرية شاملة ومتكاملة لا يمكن وصفها إلا بالتطهير العرقي والإبادة الجماعية حسب ما جاء في تصنيف المحكمة الجنائية الدولية للجرائم التي ارتكبت في دارفور … بخصوص الجرائم الكبرى وغير المبررة التي ما ذالت ترتكب في مناطق النزاع المسلح في دارفور وجبال النوبة والنيل الازرق فقد أصدر مجلس الأمن الدولي في نيويورك وكذلك مجلس الأمن والسلم الأفريقي في أديس أبابا، أصدروا عددا لا يحصى من القرارات والتوصيات مما جعل السودان يحطم الارقام القياسية لعدد الإجراءات الدولية والاقليمية المستحقة ضد دولة واحدة في التاريخ الحديث للمنظومتين الاممية والقارية

لكل ما سبق لا يمكن تضخيم دور العقوبات الاقتصادية الامريكية في تدهور الوضع الاقتصادي والتنموي والأمني في السودان لان نهج حكومة المؤتمر الوطني العدائي لكل من يختلف مع سياستها وأيديولوجيتها في الداخل او الخارج أدى الى فقدانها للتعاون في كثير من المجالات مع بعض من دول العالم المحورية ومؤسساته التنموية والى حرمان او احجام الأغلبية العظمى من أفراد الشعب السوداني من المشاركة في الشأن العام وبالتالي فقد ادى عدم التعاون مع الخارج والحرمان من المشاركة في شؤون الحكم في الداخل الى الفشل في معالجة موضوعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في السودان وهذه بعض العناصر التي لعبت دورا هاما في الخراب الاقتصادي الذى لحق بالبلاد وإثبات ذلك لا يحتاج إلى كثير نقاش … لقد بدأت حكومة الإنقاذ عهدها في نهاية ثمانينات القرن الماضي بالعداء والاعتداء في الداخل وذلك بتفكيك أهم مقومات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في السودان وهو الإنسان المؤهل المستقر والمنتج … ان تفكيك المكون البشرى المؤهل انعكس سلبا على اهم قطاعات الخدمة المدنية وكل المشاريع الرئيسية ذات الجدوى الاقتصادية والخدمية لعامة الشعب وعليه وباستثناء بعض الفوائد الضئيلة لبعض مجموعات الاسر والافراد، وجلهم في ارتباط تنظيمي او مصلحي مع النظام الحاكم واجهزته، والمترتبة على يسر التحويلات المالية والتبادل التجاري من وإلى السودان، فكل الوقائع تشير الى ان البلاد واهلها لن يتمكنوا من الاستفادة من الفرص المتاحة حاليا لضعف وعدم فاعلية المواعين التنموية المناسبة والضرورية لتوظيف وتوزيع العوائد المجنية بصورة فاعلة وعادلة لكل القطاعات المستهدفة … هناك عوائق ذاتية أخرى وتتمثل في ان حكومة المؤتمر الوطني وأجهزتها المختلفة في حاجة ماسة لمبالغ لا قبل للسودان بها وذلك للوفاء بالكثير من الديون غير المرشدة والتي حان اوان سدادها وبعد أن بدأ الدائنين من الصين والهند ودول آسيوية اخرى في الطرق بشدة على ابواب مدينيهم في الخرطوم … وحيث ان المصائب  لا تأتى فرادى فهناك مبالغ طائلة فرضتها بعض المحاكم الأمريكية كغرامات على السودان وذلك بسبب إتهام حكومة المؤتمر الوطني بالضلوع في بعض العمليات الارهابية ضد مواطنين أمريكيين ومصالح أمريكية وهى احكام قابلة النفاذ مما ينذر بامتصاص مليارات الدولارات من خزانة السودان وأصول الدولة خارج تراب الوطن … اخيرا تحتاج مؤسسات الحزب الحاكم الى مبالغ كبيرة للصرف على احتياجاتها التنظيمية والأمنية ولزيادة التحكم والتعامل مع التحديات السياسية والامنية المتجددة والتي لا محالة سوف تواجههم … 

ان الأزمة الاقتصادية في السودان عميقة جدا وهى نتيجة مباشرة للتخبط السياسي والاقتصادي والتنموي وترتبط بصورة عضوية بالحرب الاهلية الطويلة والصرف غير المرشد على شراء السلاح والتدريب العسكري لأعداد ضخمة من الشباب بغرض القتال ولجم التدهور الأمني الكبير الذي ما ذالت تشهده البلاد … أسباب أخرى تشمل شح الإمكانيات المالية بعد فقدان موارد مهمة في جنوب السودان بما فيها الثروات الطبيعية والقوى البشرية المنتجة … ان الوضع الأمني المتدهور الحالي وهوس حكومة المؤتمر الوطني بالحسم العسكري لأنهاء الحروب الداخلية واستبعادها للحلول السلمية العادلة والمقبولة وبالتالي الصرف بلا سقف محدد على أجهزة الأمن والأجهزة السيادية بما لا يقل عن 70% من الميزانية العامة للدولة طيلة السنوات الماضية يوضح بانه ليس للحكومة في الوقت الراهن أي خيارات او رؤى واقعية لتوجيه المتوفر من إمكانيات الى مشاريع تنموية بشرية كانت ام اقتصادية … إذا تم الأخذ في الاعتبار بحجم الدمار الكبير المتعمد في كل مناحي الحياة والذى تسببت فيه سياسة الارض المحروقة التي تبنتها الحكومة كتكتيك عسكري في حربها ضد مواطنيها في دارفور وبقية مناطق النزاع المسلح الاخرى في البلاد ويشمل ذلك طرد ملايين المواطنين من اراضيهم وإخراجهم من دائرة الإنتاج الاقتصادي فيمكننا أن نجزم بان الحكومة ليست فقط لا تملك خيارات او خطط واقعية للتنمية بل ليس لديها الرغبة او المقدرة في واقع الامر على التنمية والتعمير وتوفير سبل الحياة الكريمة والمعافاة للكثير من أهل البلاد خاصة في مناطق الهامش الإقليمي الموبوءة بالنزاعات المسلحة والخراب المنهجي … يعضد هذا القول إخراج آلاف ضحايا النزاعات المسلحة وسياسات الحكومة الحربية الآخرين من دائرة الإنتاج بحرمانهم من فرص التعليم والتدريب المهني وبالتالي التطور والنماء وذلك بتجنيدهم في سن يافع ضمن المليشيات القبلية والعقائدية المسلحة وتدجينهم "وادلجتهم" للقتل والسلب والتخريب مما يجعل عملية اعادتهم للحياة المدنية المنتجة باهظة التكاليف

من جانب اخر تنظر حكومة المؤتمر الوطني إلى كل من يعارضها الرأي سياسيا كان ام فكريا من كل قوى المجتمع السوداني ومنظماته المدنية المستقلة بوصفهم اعداء للدين والوطن تجب محاربتهم واستئصالهم بكل الوسائل وبالتالي فليس لها الرغبة او المصلحة في إزالة الضيم الذى وقع على منسوبي هذه القوى أو التعامل معهم على قيد المساواة كمواطنين لهم الحق في التمتع بفرص عادلة في مجال العمل والتأهيل العلمي والتقدم المهني وما يترتب عليه من اثراء للحياة السياسية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية بصورة فاعلة … أن خوف حكومة المؤتمر الوطني من القوى المعارضة والفكر الحداثي المستنير الذي تمثله، هو السبب في حربها الاقتصادية على منسوبي هذه القوى وعلى عامة الشعب غير المنتمي لفكرها السياسي وذلك بحرمانهم من العمل في مؤسسات الدولة او المؤسسات الخاصة وتشريدهم خارج البلاد وكذلك نهب المنتجين وفقراء الشعب ومعدميه تارة برسوم الإنتاج العالية وبالإتاوات والغرامات الباهظة تحت طائلة قوانين جائرة وأجهزة عدلية غير مؤهلة وتارة برفع الدعم الحكومي عن السلع اليومية ومدخلات الانتاج وهي سياسة رسمية للدولة  الغرض منها انهاك هؤلاء الضحايا اقتصاديا وكسر شوكتهم اجتماعيا وسياسيا ليخلو لها جو العمل لخدمة أجندتها الخاصة وأجندة فكرها الأممي ومكوناته التنظيمية المختلفة والتي ما ذالت تدين لها بالولاء … 

ما يعيق تقدم الاقتصاد والتنمية وبالتالي تحسن ظروف الحياة  في السودان هو صعوبة التعامل مع مجموعة العوامل الداخلية والخارجية المعقدة التي تسبب النظام الحاكم في فرضها على البلاد وأهلها بقوة السلاح … ويمكن إجمال المعوقات في إفراغ المواعين الإنتاجية من العنصر البشرى المؤهل والمدرب وذلك بسياسات التمكين لانصار الحزب الحاكم وإقصاء خصومهم، الصرف غير المحدود وغير المرشد على قطاعات حكومية غير منتجة اقتصاديا بل مدمرة اجتماعيا وبيئيا مثل المليشيات المسلحة القبلية والعقائدية وبعض الاجهزة الأمنية الاخرى، صناعة الحروب الداخلية والتكسب منها والفساد السياسي والإداري وغياب التخطيط الاقتصادي الواقعي والمدروس بصورة علمية … الشواهد كثيرة على خطل السياسات التي ادت الى الوضع الحالي واولها التمكين للحزب الحاكم في كل المجالات خاصة الاقتصاد واكتناز موارد الدولة المالية … لقد لاحظ عدد من الخبراء الاقتصادين بان الحكومة كانت قد انتهزت زريعة العقوبات الاقتصادية الأمريكية للعمل بهمة خارج الأطر المالية الرسمية للاقتصاد العالمي مما أدى الى ضعف الرقابة الداخلية والخارجية وبالتالي تفشى الفساد المالي المؤسسي … كذلك لوحظ بان التعلل بالعقوبات لحرمان المشاريع القومية المنتجة من سبل التأهيل والتطور ادى الى تسريع عجلة التخريب والتدمير لكثير من مشاريع الدولة الاقتصادية الهامة مثل مشروع الجزيرة الزراعي والخطوط الجوية والبحرية السودانية والسكك الحديدية مما ادى الى تصفية بعض هذه المشاريع وبيع البعض الاخر وتجيير عوائد البيع والتصفية لمصلحة منسوبي المؤتمر الوطني ومؤسساته الحزبية … ستظل بعض اكبر معوقات التنمية الاقتصادية والرفاه الاجتماعي والعدالة في السودان ترتبط بالفساد المالي والمهني والإداري وفى سوء استخدام الموارد الاقتصادية وتبديدها في محاباة سياسية وعرقية بغيضة اقعدت بالوازع الوطني والأخلاقي في البلاد … أضف الى ذلك "الفهلوة" والتفرقة والظلم المستشري على كافة المستويات مما أضعف الولاء للوطن والثقة في أجهزة الدولة بما فيها الأجهزة الأمنية والعدلية … 

خلاصة الامر يجب الاقرار بان العقوبات الاقتصادية الامريكية – والتي كانت عقوبات دولية في واقع الأمر لأن كثير من دول العالم والمؤسسات المالية الدولية من بنوك وصناديق استثمارية كانت قد اوقفت التعامل مع السودان خوفا من الغرامات المالية الباهظة من وزارة الخزانة الأمريكية – قد لعبت دورا كبيرا في شل التنمية والاقتصاد في السودان وذلك بعزل البلاد عن اقتصاديات دول العالم خاصة الدول المتقدمة في الصناعة والتكنولوجيا وبالتالي حرمانها من فوائد كثيرة خلال العشرين عام الماضية لكن يبقى المسؤول الأول  عن ما وصل اليه الحال في السودان من تدهور في كل المجالات هو السياسات الداخلية والخارجية الخاطئة وسوء تقدير الأمور والتي أدت إلى فرض العقوبات في المقام الاول … يجب كذلك الإقرار بان قرار رفع العقوبات الاقتصادية عن السودان ليس بنعمة نزلت على حكومة المؤتمر الوطني ولا هو بنقمة حلت بالقوى السودانية المعارضة والعكس صحيح في حالة بقائها … في الحالتين هناك مكاسب كبيرة يمكن ان تتحقق وخسائر أكبر يجب تلافيها خاصة فيما يتعلق بالانطلاقة الاقتصادية والتنموية – اسوة بدول الجوار الافريقي الافقر من السودان في الموارد الطبيعية – وفى الحفاظ على ما تبقى من ثروة قومية غير مستغلة واعادة تأهيل المشاريع القومية المنتجة والبنى التحتية … اهم الفرص التي لاحت الان هي امكانية دخول الاقتصاد السوداني في دورة الاقتصاد العالمي من جديد وبما يتيحه ذلك من معلومات ورقابة تساعد في معرفة حجم وإمكانيات البلاد المالية والتجارية واوجه استخدامها وصرفها والتي كانت تدار في الخفاء وبعيدا عن مصلحة الشعب … 

ان رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية عن السودان كان وما ذال مرتبطا بالتحسن في سجل وممارسة حكومة المؤتمر الوطني في خمسة محاور رئيسية ذكرت ضمن حيثيات القرار برفع الحظر وتعني بالقيام بتحول ملموس وملزم في سلوك الحكومة تجاه الجوانب الأمنية والسياسية وفى الجانب الانساني … التحسن في هذه الجوانب يعنى تغيير سياسات حكومة المؤتمر الوطني مما يترتب عليه إضعاف لمواقفها الشرسة السابقة لمصلحة الموادعة والسلم والتعامل بجدية مع الرأي الآخر المعارض مما يشكل خطوة في الطريق الصحيح للتغيير وان كان يجب النظر لمثل هذا التطور بحذر بالغ … بالرغم من أنه لم تتضح وبصورة كاملة كل الشروط التي وضعتها الحكومة الأمريكية قبل رفع العقوبات الاقتصادية عن السودان ومدى ملائمتها لعملية التحول السياسي في البلاد لكن يمكن اعتبار أن الكثير من هذه الشروط تجبر الحكومة على الركون الى صوت العقل وبالتالي تصب في مصلحة التغيير السياسي في السودان وعلى القوى المعارضة انتهاز هذه الفرصة بوعى كامل مدعومة بقوة الدفع التي يشكلها تنازل الحكومة عن بعض ثوابتها المفاهيمية في العداء للداخل والخارج والكثير من صلفها القديم … خيارات الحكومة في مقاومة التغيير اصبحت محدودة تماما في وقت تزايدت فيه فرص المعارضة السياسية السودانية في قيادة عملية التحول السياسي والمفاهيمي في البلاد وذلك بدخول عناصر جديدة يمكن أن تشكل الحماية الضرورية لعملية التغيير والقائمين عليها من بطش النظام وتنكيله بالخصوم … تتمثل هذه العناصر بصورة اساسية في الوقت الحاضر في المراقبة الخارجية على سلوك الحكومة وتحجيم مقدرتها على مواصلة سوء استخدام إمكانيات البلاد المالية في مشاريعها القمعية الشرسة ضد معارضيها … لم تتضح الرؤيا تماما في هذا المنحى خاصة وان القوى السودانية المعارضة لم تخطط او تسعي لمثل هذه الحماية وربما لم تفطن او تستجيب الكثير من هذه القوى لهذا التطور المهم … 

لقد تسببت العقوبات الاقتصادية بخسائر غير محتملة للسودان تقدر بمئات المليارات من الدولارات مما يتوجب المسائلة لمن تسبب في ذلك … الان يجب انتهاز فرصة رفع العقوبات والعمل على إصلاح الخلل من جزوره وذلك يتطلب تحول كامل في الفكر السياسي والممارسة وحسن التعامل مع جميع المواطنين في الداخل والشعوب والامم في الخارج …. على حكومة المؤتمر الوطني استيعاب الدروس والعبر والتسليم بعدم قابلية السودان واهله لتطبيق تجربتها السياسية الاحادية او الاستكانة لأيديولوجيتها الفكرية خاصة وأنه بلد متعدد الأعراق والثقافات والديانات وما يصلح لبناء جماعة سياسية عقائدية لا يوفر بالضرورة الاجابة لمتطلبات دولة تضم جماعات متعددة الخصائص العرقية والثقافية وما يجمعهم في الغالب الاعم هو رابط المواطنة فقط … علي حكومة المؤتمر الوطني الاقرار كذلك بان مهمة الحكومات الاساسية هي حماية شعوبها وامنهم ووضع الخطط والبرامج التي تمكنهم من اكتساب سبل الحياة الكريمة والرفاهية والرقى لهم جميعا وبلا تفرقة وذلك في مواكبة لروح العصر ومتطلباته وليست مهمتها الادعاء بالعمل على ربط قيم السماء بالأرض لأنها وببساطة لن تستطيع تحقيق هذا الهدف السامي اذ انه من مهام وخصائص الأنبياء والرسل المعصومين من الخطأ … افضل خيارات الحكومة الان هو القبول بإعادة الأمور إلى نصابها وإيقاف كل سياساتها السابقة والتوافق مع الجميع على البدء في مرحلة جديدة من اعادة بناء الدولة في اطار عقد اجتماعي عادل كما نادت بذلك بعض القوى السياسية المؤثرة في البلاد … العقد الاجتماعي من المتوقع ان يعلى قيم الولاء لدولة المواطنة وينهى أي صور للولاء التنظيمي أو العقائدي العابر للحدود على ان يعيد إعادة صياغة هيكل الدولة ويصحح القيم والمفاهيم البالية والممارسات والاعتقادات السالبة التي تشجع على الاستعلاء العرقي والثقافي والاقصاء والتهميش وبالتالي تقود الى رفض الآخر والى العنف المجتمعي والنزاعات المسلحة

تغيير واقع السودان الاليم الحالي يتطلب الدخول في عملية تحول ديمقراطي حر طويلة النفس يتمكن جميع السودانيين من المشاركة فيها بلا تفرقة أو اجحاف … ضمان امن الدول وتطورها وسلامة مواطنيها هو التفاف المواطنين حول نظام الحكم وقبوله بحرية ورضا كامل وبالمشاركة العادلة وتساوى الفرص في بناء وتسيير مؤسسات الدولة الفاعلة والعادلة اجتماعيا وليس بفرض أيديولوجية إقصائية وسوق الناس الي الاستكانة اليها ترهيبا او ترغيبا … بالرغم عن الاتفاق بين حكومة المؤتمر الوطني والولايات المتحدة على رفع العقوبات والسعي إلى التطبيع الكامل للعلاقات بينهما، فالاستسلام وإرضاء العالم الخارجي في ظل مقاطعة قطاعات واسعة من الشعب ومؤسساته السياسية ليس ذو جدوى لأنه طريق لا نهاية له ولا فائدة ترجى منه على المدى البعيد … أن نفق التنازلات بين الدول لا قرار له ولن تتوقف المطالبة بالمزيد في تناسب طردي مع التقلبات الجيوسياسية … ما نراه هو  ببساطة سياسة العصا والجزرة وستفنى حكومة المؤتمر الوطني عمرها جريا وراء الجزرة ولن تصل اليها ابدا فمن باب اولى ان تعيد امانة الوطن الى اهله بلا شروط او املاء … على الحكومة وجميع القوى السودانية العمل على ايقاف الحرب الاهلية ونزيف الدم في ربوع الوطن كأولوية آنية لا تحتمل التأخير … للقوى السياسية السودانية دور حيوي في عملية التحول الديمقراطي واعادة البناء ولكى تقوم بذاك الدور كاملا عليها القيام بتحريك الرأي العام الداخلي وتقييم وتوضيح الابعاد المادية والمعنوية للعقوبات الاقتصادية الامريكية على السودان ومطالبة الطرفين بتفاصيل ما تم الاتفاق عليه من تفاهمات … 

عبدالباقى جبريل، جنيف، أكتوبر 2017

 

Welcome

Install
×