صدقي كبلو : ملاحظات أولية على مشروع الميزانية العامة لعام 2018م

قدم وزير المالية مشروع الميزانية لعام 2018م للمجلس الوطني يوم الأحد 24 ديسمبر2017م بعد انتظار طويل من المراقبين والمواطنين

بقلم الدكتور / صدقي كبلو 

قدم وزير المالية مشروع الميزانية لعام 2018م للمجلس الوطني يوم الأحد 24 ديسمبر2017م بعد انتظار طويل من المراقبين والمواطنين، ولعل أول ملاحظة هي تأخير تقديم مشروع الميزانية لمجلس الوزراء والمجلس الوطني، وبالتالي كشفها للخبراء وللمواطنين وقطاعات الشعب حتى تحظى بأوسع مناقشة قبل إجازتها، خاصة أن الميزانية العامة هي أهم وثيقة اقتصادية ومالية تصدرها الحكومة خلال كل عام وتؤثر على حياة ومعيشة المواطنين وأداء الاقتصاد الكلي.

 إن التأخير في تقديم الميزانية التي من المفترض أن تكون سارية من الأول من يناير 2018م سيجعل من مسألة مناقشتها وإجازتها حتى بطريقة شكلية كما يفعل حزب المؤتمر الوطني كل مرة، أمراً صعباً فالتمثيلية تحتاج لوقت لعدة قراءات وإحالة للجنة وتقديم تقرير اللجنة ثم التصويت، ومن ثم توقيع رئيس الجمهورية على القوانين المصاحبة لها حتى يصبح جمع أي رسوم أو ضرائب بموجبها أو أي مصروفات قانونية.

 إن تأخير تقديم الميزانية يدعم رأي الطاعنين في جدية النظام فيما يتعلق بالممارسة الديمقراطية(حتى شكليا) وفي التمسك بحكم القانون واحترامه.

إجراءات سبقت الميزانية

أما الملاحظة الثانية فهذه الميزانية سبقتها إجراءات من بنك السودان ومن وزارتي المالية والتجارة تعتبر من صميم السياسة المالية والاقتصادية للدولة، والتي يعبر عنها في خطاب الميزانية ويحسب أثرها على الإيرادات والمصروفات والميزان التجاري وميزان المدفوعات ومعدلات النمو والتضخم والتوظيف، فمثلا بنك السودان حدد عدة أسعار للدولار لاستيراد السلع المختلفة وسعر للدولار الجمركي وكيفية التعامل مع عائدات الصادر وتحويلات المغتربين، وأصدرت وزارة التجارة قرارا بإيقاف استيراد(19)سلعة، وأصدرت وزارة الكهرباء وشركاتها قرارات بتسعيرة جديدة للكهرباء وغيرها من الإجراءات. إن هذا التعامل الذي يبدو كأنه قرارات منفردة هي جزء متكامل من السياسة المالية والاقتصادية للبلاد، وينبغي النظر إليها ضمن أهداف السياسة الحكومية المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي. والكل يعلم من خلال التقرير الذي نشره مديرو الصندوق التنفيذيون عقب محادثات المادة الـ(4) والذي صدر في مطلع شهر ديسمبر الحالي والذي حوى على توصيات بتعويم الجنيه ورفع الدعم، واتفق مع السودان على تنفيذه بشكل تدريجي لأسباب تتعلق بحرص حكومة السودان على تفادي الهزات الاقتصادية وردود الفعل السياسية والاجتماعية.

 ونلاحظ أن جميع الإجراءات التي تم إتخاذها تهدف لتقريب سعر الجنيه من سعر السوق الموازي مع إجراءات تهدف لتقليل الطلب على النقد الأجنبي حتى يتم التحكم وخفض سعر السوق الموازي، وتشمل إجراءات إدارية وقانونية بتجميد حسابات عاملين بالسوق الموازي، وإيقاف استيراد بعض السلع. ولم يفصح حتى الآن عن إجراءات رفع الدعم غير زيادة أسعار الكهرباء.

الميزانية تقليدية

مشروع الميزانية الذي قدمه وزير المالية يعبر عن ميزانية تقليدية، تشابه في شكلها ومحتواها ما قدمه الوزراء السابقون، فإيراداتها تعتمد على الضرائب المباشرة وغير المباشرة، التي تشكل حوالي (43%) من جملة الايرادات والاستدانة من الجمهور والمصارف والاستدانة الخارجية(32%)وهذه تقريبا سمة عامة لكل الميزانيات السابقة، وكذلك استمرت في النهج التقليدي لتخصيص المصروفات وجاءت الأسبقية للدفاع والأمن القومي (الدفاع، الأمن والمخابرات وقوات الدعم السريع ومؤسسات التعليم والصحة التابعة لهم) حوالي(16%)من جملة الإنفاق ووزارة الداخلية(الشرطة والداخلية والدفاع المدني) حوالي(4%)من جملة المنصرفات.

ونلاحظ كذلك ارتفاع معدل المنصرفات محسوبا لإجمالي الناتج المحلي(2.4%) بدلا من نسبة الـ(2%) المقدرة في الميزانية السابقة و الـ(1.8%)في الميزانية التي سبقتهما.

الميزانية غير واقعية

والسمة الثانية للميزانية أنها غير واقعية في تقديراتها خاصة فيما يتعلق بتقديرها لمعدل النمو للناتج المحلي(4%)ورغم أنه مطابق لتقديرات صندوق النقد الدولي، لكن حالة الإنتاج الصناعي والزراعي والبترول الحالي لن يحقق ذلك إلا إذا كان ذلك يعتمد على تقديرات إنتاج الدهب، والتي يتم تهريب أكثر من ثلثها للخارج.

 كذلك يتوقع الوزير انخفاض معدل الكتلة النقدية من زيادة بلغت حوالي(40%) في الأداء الفعلي لميزانية2017م (وكان مخططاً أن لا تزيد عن(27,8%)وفقاً لمشروع الميزانية في2017م إلى(18%)وهذا حلم لن يتحقق، خاصة أن الميزانية تعاني من عجز يبلغ أكثر من(28)مليار وبعض الإيرادات المتوقعة كالاستدانة من الجمهور والقروض والمنح الخارجية غير واقعية، ولا يبقى للوزير غير الاستدانة من النظام المصرفي، مما يعني زيادة الكتلة النقدية، وينعكس ذلك على تقدير آخر هو تقدير التضخم، حيث يتوقع الوزير خفض التضخم من(34%)هذا العام إلى(19%)والذي يجعل ذلك توقعا غير واقعي مع عجز الميزانية واحتمال زيادة الكتلة النقدية وارتفاع الأسعار، نتيجةً لرفع سعر الكهرباء للزراعة والصناعة والخدمات ورفع الدولار الجمركي والزيادات في الرسوم الجمركية ورسوم الخدمات.

الصرف على التعليم والصحة

رغم أننا نلاحظ ارتفاعا طفيفا في نسبة الصرف على التعليم(3.65%)من جملة المنصرفات وهو ما زال أقل من المأمول وأقل كثيرا، مما تصرفه حتى الدول الأفريقية في الجوار، أما الصحة الإتحادية فما زال الصرف عليها في حدود الـ(2%)وهي نسبة متدنية، ورغم إدعاء الحكومة أنها تريد أن توسع قاعدة الدعم الاجتماعي وزادت عدد المستفيدين بـ(200)ألف، إلا أن الدعم الحقيقي للفقراء هو في دعم الخدمات الصحية والتعليمية وقد أصبح ذلك توجهاً دوليا بما في توجه البنك الدولي.

التضخم يحاصر المواطنون

قلنا فيما سبق أن توقعات التضخم من قبل الوزير منخفضة وغير واقعية، لكن لنفترض أنها حقيقية وسيزيد معدل الأسعار بـ(19%)فبكم ستزيد المرتبات والأجور ودخول المزارعين والحرفيين؟

ولعل من سوء حظ الوزير أن الصحف التي حملت تقديرات ميزانيته حملت أيضا تقدير المجلس الأعلى للأجور للحد الأدنى لتكلفة معيشة أسرة من(5)أشخاص ـ وهو حجم العائلة الذي أدخله ويكفيلد في تقريره عام 1948 للحد الأدنى للأجور ـ يبلغ(5800)جنيه شهريا مما يعني(69600)جنيها في السنة وهذا لا يتعاطاه حتى أساتذة الجامعات السودانية في منتصف سلمهم الوظيفي!!!!

إن التضخم وتدني الأجور والمرتبات والدخول هم الشبح الذي يطارد المواطنين ومستوى معيشتهم ويدفع بهم إلى ما تحت خط الفقر.

 إن الميزانية لا تقدم حلولا لهذ المشاكل ولا تهتم بمعيشة المواطنين، رغم كل التصريحات، فبينما يتوقع الوزير تضخما غير واقعي بـ(19)فهو يلغي رسوم التنمية على مدخلات الإنتاج وهي لا تزيد عن(3%) بينما خفض الرسوم الجمركية على سلع لا علاقة لها بحياة المواطنين اليومية.

Welcome

Install
×