د. الوليد آدم مادبو: مقاربة التحرش الجنسي: (إشكالات مفاهيمية) …

ذكرت أكثر من مرة أنه لا يمكن، بل لا يعقل أن تتم مناقشة قضايا “التحرش الجنسي” في إطار افتراضي، لأنه لا توجد ببساطة ممارسة للتحرش الجنسي …

د. الوليد مادبو

بقلم: د. الوليد آدم مادبو

ذكرت أكثر من مرة أنه لا يمكن، بل لا يعقل أن تتم مناقشة قضايا "التحرش الجنسي" في إطار افتراضي، لأنه لا توجد ببساطة ممارسة للتحرش الجنسي أو غيره إلا في إطار علائقي. من هنا نبع شغفي منذ فترة لتتبع العلاقة بين الجنس والعنف والعنصرية وتبلورت رؤياي في كتابي (المدينة الآثمة) – والذي سيصدر في الشهر القادم – ولم يقتصر اهتمامي على عقد المقارنة بين الإنقاذ والمهدية، إنما تعداه للتفكر في الشأن التنموي. لأن الابتكار الذي هو قوام اي حضارة إنسانية لا يمكن أن يقوم به أناس غير متسقين مع ذواتهم، الأسوأ منفصمين انفصاما مرده إلى غياب الحرية الشخصية وعدم الاعتناء، بل ازدراء، الذاتية أو الفردية. وقد رأيت من الأنسب في هذا الظرف إشراك القراء في توطئة كتاب المدينة الآثمة، علها تثير حواراً فلسفياً وفكرياً، ينئ بالقراء عن المقاربات الوعظية وعن الانفعالات الشخصية.

 

في هذه المدينة التي عانت من صلف الطغاة، وما زالت تجأر تحت وطأة الاستبداد، يخوض المرء معتركاً صعباً، لا يلبث أن يكون الضمير أول ضحايا (فصل حرية الضمير). لا ترجو مثل هذه الأنظمة من الشخص ان يكون مبدعاً ومبتكراً، إنما تتطلب منه أن يكون موقناً وممتثلاً. موقناً بأن الخلاص الأخروي لا يتحقق إلا إذا ضحى المرء بكل أمانيه وأشواقه في الحياة وممتثلا لأمر السلطان – الذي ومن عجب – يرى أنَ فئةً من الناّس خاصة خلقت لنيل الحقوق والتمتع بمباهج الحياة، بالتحديد هو وذويه من المتخمين الولهين.

 

وإذا كان الإنسان يستمد قيمته من التضامن مع الآخرين، فإن فرديته تتأثر سلباً بالانعزال والانسحاب إلى فضاء خاص يجد فيه فرصة لممارسة حريته، لكنه نوعاً من الحرية لا يمنحه فرصة للتسامي ولا يسهم في انعتاقه من أسوار المدينة، إنّما الانغماس في أكثر انشطتها إثماً، والتبجح بأكثر الفاظها بذاءة (فصل المدينة الأثمة).

 

فالجنس الذي من المفترض أن يكون حيلة الإنسان إلى الامتاع والمؤانسة يصبح أداته للتشفي من ذاته والانتقام من الآخرين. وإذا كان العنف مختزناً في الذاكرة الجمعية (فصل الجنس عند السودانيين: نزوة أم غزوة)، فإن ثمة آليات اجتماعية واقتصادية وسياسية – لابد من الكشف عنها – ظلت بوعي أو من دون وعي تسعى لتفعيل هذه الذاكرة حتى استحال الفضاء العمومي إلى مسرحٍ للموت والحقد والكراهية (فصل ثقافة الموت والحقد والكراهية: الجنس محفِّزاً). وفي كل مرة يكون الضعفاء خاصة، من أطفال ونساء، هم الضحية.

 

وإذ شارفت مجتمعاتنا حافة الانهيار أو كادت أن تنهار بالكامل، فلم يعد من الممكن الاستمرار في التمثيل أو القبول بمحاولات الإصلاح التلفيقية أو الترقيعية. لا بد إذن من محاولة إصلاح جادة ترمي لتفكيك تاريخنا السياسي والاجتماعي، ومن ثم تعمل بصورة منهجية علمية. الأهم أن يكون الإجراء مؤسسياً وديمقراطياً يضمن تفاعل كافة المعنين، يرصد أسباب تقهقرهم عن مسيرة التنمية وتأخرهم عن ركب الحضارة، ويروم إعادة التوازن للمجتمعات من خلال التصميم الخلاق لسياسات (فصل الحوكمة وقضايا الأسرة)، واتخاذ كافة التدابير لتنفيذها وضمان استدامتها.

 

وإذ ظللنا نكابر ونعاند بل نتخذ من التدابير المؤسسية ما يضمن دونية المرأة، ونغفل تلك البنيوية المتمثلة في الثقافة واللغة، فقد تسببنا في تخلف مجتمعاتنا وحرمناها من مستودع ذاخر بالعبقرية ومفعمٍ بالأريحية (فصل الجميلات هنّ الجميلات). يجب أن نوقن بأن رفعة المرأة وارتقائها بالأسلوب الذي يتسق مع ذاتها وكينونتها يعتبر ضماناً لنهضتنا وبعثاً لحضارتنا (الافريقية والعربية والإسلامية والمسيحية النوبية)، التي طالما نشدت توازناً بين الجسد والروح (فصل براعة الجسد ومهارة الروح)، قعدت به دواعي التقليدانية وأراجيف المحافظة، قبل أن تهزأ به رياح الحضارة الغربية، الزائف منها والراجح.

 

بعيداً عن الحماسة، فإن هذا التوازن من شأنه أن يحقق للفرد ذاتية طالما كانت ضرورية لتعزيز الروح الجماعية اللازمة والمطلوبة لمحاربة "المنطق السكوتي الثابت" على حد تعبير المهدي المنجرة (قيمة القيم، 2008)،الذي يكبل المجتمعات ويحول دون تصورها لهيكل مغاير وبنيان عماده العدالة الاجتماعية، الحرية، التنوع الثقافي، العزة والكرامة الإنسانية.

 

[email protected]

 

Welcome

Install
×