د. الشفيع خضر سعيد: غضبة «الهبباي» ..

هبّت جموع الشعب السوداني، في وضح النهار، وفي كل القرى والحضر، وحتى لحظة كتابة هذا المقال، ارتوت أرض السودان بدماء أكثر من ثلاثة عشرا…

د. الشفيع خضر(وكالات)

بقلم: د. الشفيع خضر سعيد

 

هبّت جموع الشعب السوداني، في وضح النهار، وفي كل القرى والحضر، وحتى لحظة كتابة هذا المقال، ارتوت أرض السودان بدماء أكثر من ثلاثة عشرا شهيد ومئات الجرحى. خرجت الجماهير إلى الشوارع، لا استجابةً لتوجيه من حزب أو من تحالف أحزاب، ولا من زعيم سياسي، وإنما تخطّت كل هؤلاء، لتملأ الشوارع، متسلحة بهتافات الحناجر، تلبية لنداءات المعاناة وشظف العيش بعد أن بلغت الحياة في السودان درجة من القسوة لا تُطاق ولا تُحتمل، ولأن الفساد أضحى مجسدا ملموسا ومتحكما في البلاد، ولأن السودان أصبح وكأنه مملوك لمجموعة بعينها، مع سدنتهم وخلصائهم، يتحكمون في كل صغيرة وكبيرة في البلد، ويقررون حاضره ومستقبله، ومن الذي يستحق ومن الذي لا يستحق…!

إتخذت جموع الشعب قرارها عفويا، لم تناقشه أجسام قيادية، ولم يُخطط له مسبقا، ولا توجد قيادات ميدانية تُنظم وتقود المسيرات، وإنما يقودها وحدة الهدف والوعي بمن هو السبب في المعاناة، غض النظر عن الموقع الجغرافي للمسيرة. صبرت جموع الشعب طويلا، فظنّه أهل الحكم رضوخا ورضىً، فأستمروا في غيّهم، غير عابئين بما وصل إليه حال المواطن، بعد أن إختفى النقد «الكاش» من البنوك وخزانات المؤسسات، وصار، هو نفسه، بضاعة نادرة، وإنتظم الناس في صفوف ممتدة ولساعات طويلة أمام البنوك والصرافات الآلية، يسْتجدون الحصول على جزء، ولو يسير، من مرتباتهم، بينما تتضاعف أسعار ضروريات الحياة، كالخبز والأدوية، إلى أرقام فلكية. ولأن وعي الشعب قاده إلى حقيقة أن النظام، بممارساته وسياساته، هو المسؤول الأول عن تدهور المعيشة والاقتصاد حد الاقتراب من الانهيار الكامل، جاءت هتافاته مطالبة برحيل النظام، مؤكدة ما أشرنا إليه من قبل بأن الاحتجاجات المطلبية، مهما إبتعدت عن السياسة، ستصطدم بها عاجلا، فارضة نفسها في قمة تكتيكات العمل السياسي المطالبة برحيل النظام.
غضبة «الهبباي»، إنفجرت هذه المرة في خارج الخرطوم، ومركز ثقلها الرئيسي لا يزال هناك، على عكس ما تعودنا عليه من قبل، عندما كانت القوى الحديثة في المركز هي التي تبتدر الحراك ثم ينتشر إلى الأقاليم الأخرى. وغض النظر عن السبب، أو ما إذا كان مركز الثقل سينتقل قريبا إلى الخرطوم، فإن إنفجار الغضبة وبدء الحراك خارج المركز، أمر له دلالته الهامة، وقد نتناوله بتفصيل أكثر في كتابات قادمة. صحيح أن إستمرار عفوية الحراك، قد تؤثر عليه سلبا، لكن الذي يُضعف ويُربك الحراك والغضبة فعلا، ظهور المراكز القيادية وتعددها، دون أي رابط أو تنسيق بينها. فهذا مركز يعلن عن موكب وتسليم مذكرة يوم 25 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، ومركز آخر يدعو لإضراب سياسي وعصيان مدني يوم 26 من ذات الشهر، ونحن غير متأكدين من أن دعوة العصيان وصلت إلى كل الناس ناهيك عن درجة الاستعداد والتحضير لخطوة كبيرة كهذه. ومركز ثالث يدعو القوى السياسية للإتفاق على مذكرة تُحمل في موكب وتسلم لقيادة النظام ويتم التفاهم معها على تسليمها السلطة بمثل ما حدث مع الرئيس عبود، إبان ثورة أكتوبر 1964…الخ. لكن القانون الرئيس في أي هبة أو إنتفاضة أو ثورة، يقول: لا شيئ يهزم الطغيان، غير إرادة جماهيرية قوية، تحت قيادة موحدة، تمتلك رؤية واضحة، تواصل الضغط حتى يرحل النظام.

وعي الشعب قاده إلى حقيقة أن النظام، بممارساته وسياساته، هو المسؤول الأول عن تدهور المعيشة والاقتصاد حد الاقتراب من الانهيار الكامل، فجاءت هتافاته مطالبة برحيل النظام

ليس سهلا التنبؤ أو التكهن يما سيؤول إليه مسار الهبة الجماهيرية، ولا أعتقد أن هذا هو المطلوب الآن، بقدر ما أن المُلح هو التعامل العملي المسؤول مع ما يجري على أرض الواقع حاليا، حتى لا يسقط الوطن تحت سنابك خيل المؤتمر الوطني. ومع ذلك، وحتى لحظة وصول هذا المقال إلى أيدي القارئ، فإن المآلات المتوقعة، والبديهية أيضا، ستشمل: ـ
المآل الأول، إستمرار وتصاعد الغضبة والحراك، دون توقف، وتضاعف أعداد الشهداء والجرحى مع إصرار النظام على سفك الدماء. وهو ما يضع المؤسسات الأمنية والعسكرية والأمنية والشرطية، أمام مسؤولية أخلاقية ووطنية، وفي محك تاريخي كبير. فإما أن تستعيد قوميتها وجدارتها بالمسؤولية الأخلاقية الكبيرة الملقاة على عاتقها، وتؤكد أنها جزء لا يتجزأ من هذا الشعب، فتستجيب لصرخاته، بما فيها صرخات أفراد أسر هذه المؤسسات نفسها، ضد الغلاء وشظف العيش، وضد هدر الكرامة، وتقف على مسافات متساوية من كل القوى السياسية، أو تنحاز إلى المجموعة السياسية الحاكمة، غض النظر عن خطل سياسات هذه المجموعة، فتخون الشعب، وتقودنا فعلا إلى سيناريوهات الأرض المشبعة دوما بدماء الإنسان. وعموما، كل ما تواصلت الهبة دون توقف، كلما إكتسبت زخما وقوة دافعة تقودها في النهاية إلى الإنتصار، ولو جاء باهظ الثمن. وبالطبع، سيطرح الإنتصار كيفية الحفاظ عليه من السرقة، وكيفية ألا يكون سطحيا، يعيد إنتاج النظام القديم في شكل جديد. وهذا يعني، التوافق، الآن وليس غدا، على مشروع إنتقالي بديل، يساهم في صياغته السياسيون والتكنوقراط والمجتمع المدني والعسكريون في الجيش والقوات النظامية الأخرى، وسائر قطاعات المجتمع. وتعمل على تنفيذه كفاءات وطنية يجمع الناس على أهليتها ونزاهتها، بعيدا عن أي ترضيات أو محاصصات سياسية.
المآل الثاني، قد تخبو الهبة ويخفت حراكها فتتراجع، ولكن هذا لا يعني هزيمتها، أو إنتصار النظام، رغم الخسائر المتوقعة، بقدر ما هو إنتهاء دورة إستعدادا لدورة قادمة، دائما ما تكون أقوى. فالسبب لا يزال موجودا، ولا علاج له غير الرحيل، والبلاد لم تعد تحتمل. أما الإنتصار، فسيأتي وإن طال الزمن.
لابد من وقفة حاسمة، ننشط خلالها ذاكرتنا المتصلة ونقويها، حتى لا تترك شاردة ولا واردة إلا وتضعها في الحسبان، من أجل وقف النزيف اليومي في البحث عن لقمة العيش والحقوق الضائعة في وطن مرهق، بعيدا عن التدليس ولعبة الاستغماية التي ظل يلعبها المؤتمر الوطني طوال ما يقرب من نصف عمر إستقلال هذا البلد الأمين.

نقلا عن القدس العربي

///////////////////

 

Welcome

Install
×