خالد التجاني النور: ولادة متعسرة ومتعثرة لموازنة تُنذر ب”عام رمادة”
ليس سراً أنه عند مشاورات تشكيل الحكومة الحالية كانت المسألة أكثر جدلاً في كواليس صناعة واتخاذ القرار
بقلم: خالد التيجاني النور
(1)
ليس سراً أنه عند مشاورات تشكيل الحكومة الحالية كانت المسألة أكثر جدلاً في كواليس صناعة واتخاذ القرار متعلقةً بخلاف جدّي بين صاحبي الأمر حول استمرار أو إبعاد وزير المالية السابق بدر الدين محمود عن التشكيلة الحكومية الجديدة، وهو جدل استطال واستغرق وقتاً حتى انتهى الاتفاق إلى تبديله، وزاد الأمر تعقيداً صعوبة الاهتداء إلى خليفة له، وبعد تقليب في خيارات متعددة جرى ما بات معروفاً.
والسؤال المطروح على هذه الخلفية هل كان ذلك الجدل حول من يشغل المنصب الأكثر أهمية في الطاقم الاقتصادي للحكومة مجرد انعكاس لاعتبارات ذاتية تتعلق باستمزاج أو عدم استلطاف لشخصية الوزير السابق المثيرة للجدل، أم كان دافعها موضوعياً يتعلق باختلاف وجهات النظر حول السياسات والممارسات الاقتصادية في عهده؟.
(2)
لم تلبث الحكومة الجديدة إلا قليلاً حتى وقف السيد رئيس الوزراء امام المجلس الوطني ليدلي بإفادة هي الأكثر أهمية وخطورة ودلالة في تاريخ الحكم الإنقاذي حين نعى إلى أعضاء المجلس ما وصفها ب"المدرسة الاقتصادية" التي انتهت إدارتها للاقتصاد الوطني إلى فشل ذريع على كثرة محاولات إقالة عثراتها، وبادر للدعوة إلى البحث وتأسيس مدرسة اقتصادية جديدة تخرج الاقتصاد السوداني من تقلبه في التجارب المتعثرة، وفتح آفاق أوسع أمام إنطلاقته، وكانت ردة الفعل المثيرة للاستغراب أن تجاهل فريقه الاقتصادي الجديد أن يضع ذلك نصب أعينه، وواصل في الأداء بالاسلوب والسياسيات القديمة نفسها التي أدت إلى هذا الفشل.
(3)
ولئن كانت موازنة العام الحالي، الذي يأذن بالأفول، واحدة من أسوأ الموازنات أداءاً، كما سنورد دلائله لاحقاً من واقع التقارير الرسمية، لا نستطيع أن نلقي اللوم فيها كلها على الحكومة التي تشكلت في مايو الماضي لأنها لم تكن هي من تقدمت بها، ولكنها تتحمل بالطبع مسؤولية تنفيذها في أغلب العام الجاري، إلا أن جملة من الأسئلة الكبرى تطرح نفسها بقوّة حول مشروع الموازنة الجديدة المطروح حالياً أمام المجلس الوطني.
وفي طليعة ذلك تثور هذه الأسئلة، فقد تم تقديم مشروع موازنة 2018 باعتباره أول "موازنة لحكومة الوحدة الوطنية" التي تم تشكيلها بعد توافقات "الحوار الوطني" التي يُفترض أنها ضخت دماءاً وأفكاراً ومسارات جديدة في شرايين الاقتصاد السوداني المتكلسة، كما أن مشروع الموازنة للعام المقبل قُدم بعد كل الملابسات والمبررات التي رافقت الإطاحة بوزير المالية السابق، كما أشرنا إلى ذلك آنفاً، والأهم أنها جاءت بعد التصريح القاطع لرئيس الوزراء في تقييمه أمام المجلس الوطني بوصول إدارة الاقتصاد الوطني إلى طريق مسدود، وأن الوقت قد حان لفتح آفاق جديدة وإطلاق مدرسة مختلفة تتعظ بالتجارب الفاشلة التي قادت إليها قيادة القطاع الاقتصادي على مدار الأعوام الماضية. حسناً ما هو الجديد الذي حمله مشروع هذه الموازنة ينبئ بأننا على موعد مع بداية تاريخ جديد في إدارة الاقتصاد الوطني مع كل الاستدراكات والتساؤلات المطروحة هذه؟.
(4)
للأسف الشديد جاء مشروع الموازنة للعام الجديد خالية تماماً من أية إجابة موضوعية لما طرحناه أعلاه، بلا رؤية ولا بصيرة ولا أطروحات تضع في الاعتبار ما كان منتظراً منها، على الأقل افتراع طريق جديد لإدارة الاقتصاد، ولا يحتاج الأمر إلى أية عبقرية لإثبات أنها مجرد تكرار ممل ونسخ كسول لما سبقها، يكفي المرء أن يعود لقراءة ومراجعة سمات وأهداف وسياسات الموازنات التي تم تبنيها في السنوات الخمس الماضية، ليتأكد أن معدوها لم يبذلوا فيها أي اجتهاد على الأقل لإدخال حتى مجرد تحسينات مظهرية عليها.
لا شئ يختلف في مشروع موانة 2018 عن مشروع موانة 2015 مثلاً, سوى تغيير الأرقام، وعند قراءة الأرقام المبالغ فيها هذه المرة تكتشف الطامة الكبرى، أنها "طبخت" بدون أدنى عناية، ولا تقديرات موضوعية، كما سنكتشف لاحقاً عن تفاصيلها، دعك أن تكون تحمل ملامح رؤية جديدة. وهو ما أعاد إلىّ ذكريات ونحن طلاب في السنة الأولى بالجامعة، فقد كان بعض زملائنا لا يصبرون ولا يأبهون بإثبات تجارب في معمل الفيزياء تتطلب اجتهاداً ودقةُ فيعمدون إلى "طبخ" أرقام مستلفة من آخرين، ثم لا يلبث أن يضبطهم أستاذنا متلبسين موبخاً "ياخ حرام عليكم ريحة بصلة حلتكم دي جابتني من آخر المعمل"!
(5)
ما الذي يثير الإنزعاج حقاً حول مشروع الموازنة الراهنة؟ هناك جملة مؤشرات تبرر لهذه القلق الواسع الذي ينتاب الكثيرين جرائها، في مقدمتها التعثر الشديد الذي لازم ميلادها، فهذه هي المرة الأولى التي يتأخر فيها إعداد مشروع الموازنة وإجازته في مجلس الوزراء وطرحه المجلس الوطني حتى قبيل أسبوع واحد من انقضاء العام المالي، وهي سابقة تعني أن المجلس مطالب بتمريرها في غضون خمسة أيام لا أكثر قبل مطلع العام الجديد، وغني عن القول إنها فترة وجيزة للغاية إلى درجة لا تكفي بأي معيار لفحص ومناقشة وإجراء أية تعديلات جدية عليها، وهذا بالضرورة يكشف أن النواب الذين يُفترض أنهم حرّاس مصالح المواطنين لن يكونوا في موقف يمكنهم من تحقيق مصالح ناخبيهم الحقيقية.
بيد أن ما يدعو للتساؤل بشدة عدم معقولية ومنطقية حجم مشروع الموازنة لهذا العام الذي قفزت إليه على نحو غير مسبوق في تقديراتها سواء لإجمالي الإيرادات، أو إجمالي الإنفاق العام، فضلاً عن حجم العجز المهول الذي اتسمت به، ذلك أنه لم يحدث أن تضاعف حجم موازنة إنفاقاً وإيراداً وعجزاً بهذا النسبة المدهشة.
(6)
ولنقارن فقط بتقديرات الموازنات الأربعة الأخيرة من 2014 إلى 2017، وحسب التقرير السنوي لبنك السودان المركزي للعام 2015، فإن معدل التغير في حجم الإيرادات العامة لموازنة 2015 مقارنة بموازنة 2014 فقد بلغ 6,4% حيث ارتفعت الإيرادات من 51 مليار جنيه إلى 54,4 مليار دولار، وبالنسبة لمعدل التغير في حجم المصروفات العامة للموازنة نفسها فقد بلغ 10.5% حيث زاد الإتفاق العام من 55,6 مليار جنيه إلى 61,4 مليار جنيه. بينما ارتفع العجز الكلي للموازنة من 4,4 مليار جنيه في 2014، إلى 6,9 مليار جنيه في موازنة 2015 بمعدل 57,6%.
وحسب تقرير بنك السودان المركزي للعام 2016، حول أداء الموازنة مقارنة بالعام الذي سبقه، فقد ارتفع إجمالي الإيرادات العامة من 55.499 مليار جنيه إلى 57,864 مليار جنيه بمعدل تغير 6%، وبالنسبة لإجمالي المصروفات العامة فقد ارتفعت من 61,497 مليار جنيه في 2015، إلى 69,099 مليار جنيه بمعدل تغير 12%. وارتفع العجز الكلي للموازنة من 6,976 مليار جنيه إلى 11,234 مليار جنيه بمعدل تغير بلغ 61%.
أما بالنسبة لموازنة 2017، وحسبما ورد في مشروع موازنة 2018 المقدم للمجلس الوطني، فقد توقعت "أن يصل إجمالي الموارد إلى 92,4 مليار جنيه بنقصان قدره 18,6 مليار جنيه عن ما كان مقدراً في الموازنة البالغ 111 مليار جنيه، أضف إلى ذلك أن عجز موازنة العام 2017 الفعلية بلغ 19,221 مليار جنيه. وهو ما يعني ان حجم العجز مقارنة بالعام الذي السابق زاد بنحو 7 مليارات جنيه، أي بعدل تغير 64%.
(7)
والسؤال الذي حيّر الخبراء والمهتمين بالشأن العام ممن تناولت معهم أمر مشروع موازنة 2018، ما الذي حدا بوزارة المالية، ومن ثم الحكومة إلى تبني هذا المشروع لموازنة مضخّمة للغاية جاءت خارج سياق النمو الطبيعي في حدود المعقول الذي شهمدته موازنات السنوات الأربع الماضية التي استعرضناها أعلاه، وعلى أي شئ بُنيت هذه التقديرات المبالغ فيها التي بدت جزافية، فمن غير المعقول أن يرتفع الإنفاق العام على هذا التحو البالغ الغرابة من 92 مليار جنيه، حسب الأداء الفعلي لموازنة 2017، إلى 173 مليار جنيه كما هو مقترح لموازنة العام الجديد بزيادة 81 مليار جنيه بمعدل تغير يسجّل نسبة قياسية بلغت 88%، وقد لاحظنا في موازنات الأعوام الأربعة الماضية أن معدل التغير يترواح بين 10%، و12%.
وكذلك الحال بالنسبة للإيرادات التي قفزت من نحو 78 مليار جنيه في موازنة العام الحالي، إلى حوالي 118 مليار جنيه مقترحة في مشروع الموازنة الجديدة، أي بزيادة أربعين مليار جنيه، وهو ما يجعل معدل التغير في هذه الزيادة يسجل نسبة 51%، مع ملاحظة أن متوسط الزيادة في الإيرادات العامة خلال السنوات الأربع التي أشرنا إليها أعلاه لا تتعدى متوسط 6%.
(8)
أما ثالثة الأثافي فهو حجز عجز مشروع الموازنة للعام 2018، فقد سجل رقماً قياسياً غير مسبوق على الإطلاق، حيث بلغ 55 مليار جنيه، أي بزيادة 36 مليار جنيه عن عجز الموازنة الحالية التي بلغ 19 مليار جنيه، وهذه القفزة الكبرى في حجم العجز فقد سجلت معدل تغير فلكي بلغ 289%، بالمقارنة مع معدل التغير في حجم العدز في الموزانات السابقة التي كان تسجل في المتوسط نسبة زيادة 60%.
يشير العديد من الخبراء الذين تحدثتهم إليهم إلى أن إعداد مشروع الموازنة لهذا العامه شابه الكثير من الخلل الفني والمهني مما هو هو معروف في إعداد الموازنات، كما اكتنفها الكثير من الغموض وعدم الشفافية وحتى الإرتباك في العرض وفي تضارب التقديرات، ومن ذلك مثلاً اللجوء إلى تقليل العجز الكلي المهول عن طريق حسابه على نحو يخفي حجمه الحقيقي، فقد تلافى حسابه بصورة مباشرة عن الفرق بين إجمالي الإنفاق، وإجمالي الإيرادات، عن طريق جمع العجز في حجم المصروفات الجارية الذي قدره بنحو 10 مليارات جنيه، وما تنفقه الحكومة لاقتناء الأصول غير المالية بما في ذلك مشروعات التتمية القومية التق قدرها ب 18 مليار جنيه، ليصل إلى ان حجم العجز يبلغ 28 مليار جنيه، وهو ما يجعله حتى لو قبلنا به افتراضا معدل التغير فيه 150% مقارنة بعجز موازنة 2017، أي يبلغ مرتين ونصف حجم معدل التغير في موازنات السنوات السابقة.
(9)
وفي مغالطة واضحة حاول معدو مشروع الموازنة تخفيف وقع رقم العجز الحقيقي البالغ 55 مليار جنيه بالقول في صفحة 49 من مشروع الموازنة تحنت عنوان إيضاحات الموازنة، الفقرة 6 (إن جانب الاستخدامات، أي الإنفاق العام، يتضمن نحو 25.5 مليار جنيه يمثل أقساط الالتزامات المطلوب سدادها خلال العام 2018، سواء كانت التزامات داخلية أو خارجية، وفي هذه الصدد يتعين الإشارة إلىان سداد القروض لا يشكل عبأً حقيقياً على الموازنة، حيث لا يرتبط بالمصروفات الجارية أو الرأسمالية، بل يمثل في حقثقته انتقاصاً من التزامات الدولة، الدين العام، ومن ثم فإن سداد الالتزامات الداخلية أو الخارجية لا يدخل ضمن احتساب العجز الجاري أو العجز الكلي للموازنة".
انتهي هذا الاقتباس المطّول الذي فسّر الماء بعد الجهد بالماء، ليورد مشروع الموازنة في الفقرة 7 المباشرة بعد الفقرة أعلاه نصاً ينسف تماماً ما حاولت أن تخفي عبثاً آثاره، فقد ورد فيها نصاً "إن جانب الموارد يتضمن نحو 55,3 مليار جنيه تمثل الاقتراض من الداخل والخارج، مصادر التمويل، والتي تساهم في تغطية العجز الكلي للموازنة العامة والالتزامات المطلوب سدادها خلال السنة 2018، بالإضافة إلى تفير السيولة اللازمة لاقتناء الأصول المالية، جيازة الأصول".
أنظر إلى هذا التناقض الفاضح في الفقرة الأولى يقول النص إن سداد الالتزامات لا يدخل ضمن احتساب العجز الكلي، ثم لا يلبث أن يثبت في الفقرة التالية أن مبلغ ال 55 مليار دول يسهم في تغطية العجز الكلي للموازنة.
(10)
يحسن بي أن أتوقف هنا قبل أن أواصل في مقال قادم إن شاء الله، قراءة ما بين السطور في مشروع موازنة العام الجديد، غير انني أنهي المقال بتذكر مقولة "يكاد المريب يقول خذوني"، فالأصل في الموازنة العامة أنها تعبر عن روح ووجهة السياسة قبل ان تتحدث عنها بلغة الأرقام، وهو ما يفترض أن النقاش حولها بصراحة وشفافية ووضوح أمر لازم، والمفترض أنها بُنيت على حقائق سياسية واقتصادية موضوعية ومنطقية، وبالتالي ليس هناك ما يدعو للخشية من إثارة النقاش الجاد حولها، غير أن الملاحظ أن السلطات الحكومية عكفت على حشد وسائطها الإعلامية للدفاع عن مشروع الموازنة، والترويج لها تحت لافتة دُعيت الحملة الإعلامية لإسناد الموازنة، وهو باب في سوء ظن الحكومة بموازنتها وقناعتها بافتقارها، للمنطق ولذلك تريد حشد أبواقاً لتجميلها، لا لطرحها للنقاش بصورة موضوعية، والأسوأ والأشد نكيراً أن الحزب الحاكم ألزم نوابه في المجلس الوطني بعدم انتقاد مشروع الموازنة أو الوقوف ضدها، وأن عليهم تمريرها عند التصويت، ولا عزاء لمن يُفترض أنهم نواب عن الشعب انتخبهم للدفاعه عن حقوقه، لا التسبيح بحمد السلطة التنفيذية.
هذا السلوك وحده يكفي ليفضح إلى أي مدى أن الحكومة تعرف الاختلالات المهولة في مشروع هذه الموازنة وتستعين على معالجته لا بحكمة وحوار بل بفرض ضغوط سلطوية على مؤيدها للقبول بها مرغمين. والجواب يكفي عنوانه.