حول التوصية بخروج المؤسسة العسكرية من المعادلة السياسية

نَظّمَتْ رئاسة هيئة الأركان، يوم الثلاثاء الماضي، ندوةً حول “تأثير نظم الحكم في السودان على العلاقات العسكرية المدنية”، حضرها لفيفٌ من العسكريين من ذوي الرتب المختلفة .. وكان لافتاً أنّ أبرز توصيات تلك الندوة هي “خروج المؤسسة العسكرية من المعادلة السياسية”.

عمر الدقير

 

بقلم : عمر الدقير 

 

نَظّمَتْ رئاسة هيئة الأركان، يوم الثلاثاء الماضي، ندوةً حول "تأثير نظم الحكم في السودان على العلاقات العسكرية المدنية"، حضرها لفيفٌ من العسكريين من ذوي الرتب المختلفة .. وكان لافتاً أنّ أبرز توصيات تلك الندوة هي "خروج المؤسسة العسكرية من المعادلة السياسية".

لا نعتقد أن هناك ثمة خلاف حول صوابية هذه التوصية، كما أنها تتسق مع مطلب شعبي عام نَصّت عليه كل المواثيق والاعلانات المقترحة من قوى الثورة .. وهو، بالحق، مطلب تاريخي موضوعي وضروري يتوقف عليه نجاح السودانيين في مهمة البناء الوطني التي تتطلب تأسيس واستدامة نظام ديموقراطي تقوم عليه دولة المؤسسات والقانون التي تسع جميع أهلها وتوفر لهم شروط الحياة الكريمة بلا تمييزٍ ولا تهميش، وهي المهمة التي عجزت نظم الحكم المتعاقبة عن القيام بها منذ الاستقلال.

وإذا كانت النظم المستبدة – التي ولدت من رحم الانقلابات التي نفّذتها نخب عسكرية ومدنية وسيطرت بها على أكثر من ثلاثة أرباع سنوات الحكم الوطني – بطبيعتها عاجزة عن إنجاز مهمة البناء الوطني، فإن عجز الفترات الديموقراطية الثلاث يتعلق  – بالإضافة لعوامل ذاتية خاصة بالمكون المدني من أحزاب سياسية ومنظمات، وما أكثر هذه العوامل – بعوامل موضوعية تتمثّل بقدرٍ كبير في الحقيقة المثبتة في كتاب التاريخ الإنساني بأن عملية تأسيس النظام الديمقراطي واستدامته تحتاج حراكاً مجتمعياً، يقوده وعيٌ غير مُختَزلٍ في البعد السياسي فقط، وصبراً عليه حتى تمضي الديموقراطية في مسيرة استكمال نصابها وتَجَذُّر ثقافتها في تربة الواقع، فالديموقراطية لا تولد بأسنانها ولا تبلغ رشدها بين يومٍ وليلة، كما أنها ليست مجرد وصفة يمكن لمن يحصل عليها أن يستحضرها على الفور ولا يمكن استصدارها بقرار، بل هي إطار واسع من المعايير والقيم الحضارية تستوعب عمليات تفاعل مجتمعي وتطور تراكمي وبناء مستمر، وفقاً لشروط  الواقع، كما أنها تمتلك آليات التخلص من أوجه القصور واستدراك الأخطاء وتصحيحها .. ولكن في المرات الثلاث لم يُكْتَب للديموقراطية أن تتجاوز شكلها الإجرائي إلى مضمونها، إذ سرعان ما يتم الإجهاز عليها بقوة السلاح عبر الانقلابات العسكرية.

ومن جهةٍ أخرى، فإن أكثر ما أضَرّ بالمؤسسة العسكرية في السودان هو سَوْقها بواسطة بعض قادتها – بمشاركة أو مباركة مدنيين – إلى الانغماس في السياسة لعدة عقود، ما يعني اختطافها بواسطة نخبة "عسكرومدنية" للسطو بها على الحكم وممارسته باسمها والتسلط على البلاد والعباد استناداً على ما تحوزه من قوةٍ مادية باطشة، الشيء الذي حَمّل المؤسسة العسكرية وِزْر فشل النظم المستبدة التي حكمت باسمها منذ الاستقلال، كما حَمّلها وِزْر العديد من الانتهاكات التي نفذتها هذه النظم ضد قطاعات واسعة من شعبها رفضت التصالح معها أو الاستسلام لها – رغم تهديد البندقية والمشنقة والزنزانة – ولم تكف عن مقاومتها حتى انتصرت عليها بعد تضحياتٍ جسام.

الدعوة لخروج المؤسسة العسكرية من المعادلة السياسية تَجُرُّ معها الحديث عن ضرورة الإصلاح المؤسسي، بما في ذلك ما هو مطلوب لضمان ولاية الحكومة التنفيذية على المؤسسات الاقتصادية العامة، وأن تكون هناك مؤسسة عسكرية قومية مهنية واحدة تحتكر شرعية حمل السلاح، في فضاء دولة سيادة القانون ومؤسسات الحكم المدني الديمقراطي، وتكون مسؤولةً عن حراسة حدود الوطن من أي اعتداء وحماية الشرعية الدستورية، ولا شأن لها بالحراك السياسي وما يعتمل فيه من جدلٍ – بين الرؤى والمواقف – يكون الحكم فيه للشعب.

هذه الدعوة، التي أوصت بها ندوة رئاسة هيئة الأركان، تمثل مطلباً عَبّرت عنه شعارات ثورة ديسمبر المجيدة، وبُحّت حناجر الثوار من كثرة ترديده خلال فعاليات حراكهم المقاوم لانقلاب ٢٥ أكتوبر .. ولا يعني هذا المطلب موقفاً عدائياً ضد المؤسسة العسكرية، بل يصبُّ تنفيذه في مصلحة هذه المؤسسة ويمثل خطوةً لازمة لإعادة صياغة علاقة صحية بينها وبين مكونات المجتمع الأخرى، التي هي جزءٌ منه لأن العسكريين ليسوا كائنات فضائية خارج مدار شعبهم، بل هم أناسٌ من صميم طينته ومن خيوط نسيجه الاجتماعي، يصيبهم ما يصيب سواهم من يُسْرٍ وعُسْر.

إنه لأمرٌ إيجابي، يستحقُّ الإشادة والتشجيع، أن تكون توصية ندوة هيئة الأركان تعبيراً عن رأيٍ عام داخل المؤسسة العسكرية وليست مجرد مراوغة ثعلبية على خلفية الأزمة الراهنة .. وأيّاً كان الاحتمال، يبقى خروج المؤسسة العسكرية من المعادلة السياسية مطلباً عامّاً واجب التنفيذ ينطلق من احساس الشعب بملكيته لهذه المؤسسة – كما المؤسسات العامة الأخرى – ومن حرصه على إصلاحها لتقوم بدورها الوطني المهني ورغبته في أن تعاد لها مضامينها النبيلة وغاياتها السامية لتكون في خدمته لا وبالاً عليه.

أخيراً، وليس بعيداً عن الموضوع أعلاه، لا نحتاج للتذكير بأن حال بلادنا يمضي إلى الأسوأ في كل فضاءات الواقع مع طالع كل شمس، والفراغ يتمدد والمسؤولية الوطنية وعامل الوقت لا يُتيحان لقوى الثورة ترف الانشغال بحسابات صغرى وتناقضات ثانوية .. لن نمل من الدعوة للتنسيق عبر صيغة جبهة عريضة لإنهاء الوضع الانقلابي واسترداد مسيرة التحول المدني الديمقراطي، وإدارة ما تبقى من الفترة الانتقالية بعقل وطني جماعي وصولاً لانتخابات عامة حرة ونزيهة بنهايتها.

 

 

Welcome

Install
×