كمال الصادق يكتب / ثورة السودان : النصر الجزئي و تحديات المستقبل
ازيح الرئيس المخلوع عمر البشير بعد (30) عاما من الحكم الدكتاتوري الشمولي القابض وأبقى ورائه تركة مثقلة من الدماء والدموع والحروب والنزوح واللجوء لملايين السودانيين ، ومن اقتصاد منهار ، وخزائن فارغه وفساد مؤسسي كامل الاركان، وشعب مقسم اكثر من نصفه يعيش تحت خط الفقر . ومن دولة رائدة على المستوى الافريقي بما تذخر به من موارد الى دولة تعيش على الهبات والاعانات وتتحكم فيها المصالح الاقليمية والدولية .
كمال الصادق
كمال الصادق*
ازيح الرئيس المخلوع عمر البشير بعد (30) عاما من الحكم الدكتاتوري الشمولي القابض وأبقى ورائه تركة مثقلة من الدماء والدموع والحروب والنزوح واللجوء لملايين السودانيين ، ومن اقتصاد منهار ، وخزائن فارغه وفساد مؤسسي كامل الاركان، وشعب مقسم اكثر من نصفه يعيش تحت خط الفقر . ومن دولة رائدة على المستوى الافريقي بما تذخر به من موارد الى دولة تعيش على الهبات والاعانات وتتحكم فيها المصالح الاقليمية والدولية .
ازيح البشير ، ولكن لم يزاح معه بعد اركان حكمه ودولته العميقة التي اسسها مع جماعة الاسلام السياسي – ( الاسلاميين) – منذ انقلابهم العسكري على النظام الديمقراطي في 30 يونيو 1989 ، حيث اختطفوا مع المخلوع بإسم الدين ، الدولة بكاملها واجهزة خدمتها المدينة وقواتها النظامية والتجارة والسوق وحتى العمل غير المتاح الا بإثبات الولاء لصالح النظام . ولم يقفوا عند هذا الحد بل قاموا بتشريد الكفاءات بسياسة التمكين والهجرة الاجبارية، واجبرو شعب جنوب السودان بدعاوى دينية عنصرية للتصويت لصالح الانفصال وقيام دولة جنوب السودان المستقلة في العام 2011. كما حولوا الاقتصاد الزراعي السوداني لاقتصاد تصدير ، وباعوا اراضيه لرأس المال الخارجي وبصفة خاصة الخليجي التركي الصيني . واستولوا على كامل ثرواته في اكبر عملية نهب منظم في السودان ، واشعلوا في المقابل الحروب في دارفور 2003 وجبال النوبة والنيل الازرق ( الحرب الثانية) في 2011 ، فكانت جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية والابادة الجماعية ليصبح بذلك الرئيس المخلوع عمر البشير ورموز نظامه عبدالرحيم محمد حسين واحمد هرون وزعيم مليشيات الجنجويد على كوشيب مطاردين ومطلوبين للعدالة امام المحكمة الجنائية الدولية .
لقد حققت ثورة السودانيين السلمية التي وصلت لقمتها في ديسمبر 2018 حتى سقوط المخلوع في 11 ابريل 2019 بإعلان قيام مجلس عسكري انتقالي وما تبعه من تطورات ، نصرا جزئيا على هذا النظام العقائدي الاسلاموي بإزاحة رأسه ، لكن مفاصل الجسد واطرافه وقلبه النابض المختطف للدولة لايزال عاملا ويحتاج الى صبر وعمل دؤوب وجبار وشاق لاجتثاثه. لذا كان صوت وشعار السودانيين المعتصميين امام القيادة العامة للقوات المسلحة بالخرطوم منذ السادس من ابريل وامام الوحدات العسكرية بمدن ولايات السودان الاخري واحدا (لم تسقط بعد ) و( لا – للعسكر، حكومة مدنية كاملة مطلب الشعب . )
هذا الواقع الجديد الذي برز بظهور المجلس العسكري وقوى اعلان الحرية والتغيير – الجهة المنظمة والقائدة للاحتجاجات في السودان – لوضع ملامح وتصور المشهد الانتقالي المدني ، محفوفة بأعاصير وتهديدات داخلية واقليمية ودولية كبيرة تجعل من الفترة الانتقالية محفوفة المخاطر ، وتأتي على رأس تلك التهديدات والمخاطر الداخلية اولا : جماعة الاسلام السياسي الذين لا يزالون في مفاصل السلطة والخدمة المدنية والعسكرية والنقابات والمليشيات المسلحة التابعة لها مع امتلاك هذه الجماعة لوسائل الاعلام بالكامل القنوات الفضائية والاذاعات والصحف المحلية عبر شركات خاصة بلافتات مستقلة ، والسيطرة على التجارة والمال والاعمال والتحكم في الأسواق ما يجعل من الثورة المضادة او الانقلاب أمراً واردا خلال الفترة الانتقالية او جعلها على اقل تقدير غير قادرة على انجاز اي عمل حتى انتهاء اجلها بالانتخابات و قدومهم للسلطة مرة اخري بلافتات جديدة ، وهذا سيناريو غير مستبعد.
ثانيا : الحركات المسلحة وعلى رأس ذلك تأتي الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال التي تقاتل في جبال النوبة والنيل الازرق بقيادة عبدالعزيز ادم الحلو ، وحركة تحرير السودان قيادة عبدالواحد محمد احمد النور وهي من الحركات الرئيسية في دارفور ، وهاتين الحركتين لا تزالان خارج المسار الانتقالي الجاري وخارج قوى الحرية والتغيير المشكلة للسلطة المدنية الانتقالية، بينما الحركات الاخري المنضوية تحت تحالف الجبهة الثورية السودانية وهي : ( حركة العدل والمساواه وحركة تحرير السودان قيادة مني اركو مناوي والجناح الاخر من الحركة الشعبية شمال بقيادة مالك عقار) – رغم انهم جزءا من قوى اعلان الحرية والتغيير – الا انهم اعلنوا تفضيلهم التفاوض اولا مع الحكومة الانتقالية القادمة للوصول لاتفاق سلام ، فيما تأخذ الحركة الشعبية بقيادة الحلو ذات الموقف لكن بمبررات مختلفة من بينها علمانية الدولة وحق تقربر المصير كمطلب لا تنازل عنه. وفي هذا يتفق معه عبدالواحد في علمانية الدولة ويختلف معه في حق تقرير المصير .
ثالثا : قوى ما يعرف بالهامش والتي تضم المناطق التي تشهد حروبا وازمات (دارفور و جبال النوبة والنيل الازرق ) ، حيث اجبرت الحروب المتطاولة والازمات الاقتصادية لنزوح الملايين منهم صوب العاصمة الخرطوم حتى كادوا يشكلون الاغلبية بها بالاضافة للولايات الاخري. هذه القوى لها تظلمات تاريخية ولم تري نفسها وقضاياها بعد في هذا المشهد ما يهدد بثورة اخري اكثر قوة خلال الفترة الانتقالية ، في حال لم يوف المشهد الحالي بتطلعاتهم ومطالبهم المشروعة .
رابعا : قائدا المجلس العسكري الجنرالين عبدالفتاح البرهان ومحمد حمدان حميدتي كلاهما لهما ادوار مشهودة في فظائع حرب دارفور ، ولكن رغم هذا الدور السلبي الموثق ، الا ان حميدتي وقواته المعروفة بإسم الدعم السريع لعبوا دورا اساسيا وحاسما في عملية التغيير والانحياز لمطالب الشعب، ما أوجد استحسانا من قطاع عريض من السودانيين حسنت من صورة هذه القوات . ولكن ومع ذلك يبقى وضع هذه القوات – غير التابعة للقوات المسلحة – في المرحلة القادمة وتأقلمها تحديا كبيرا و خطيرا خلال الفترة الانتقالية .
خامسا : على المستوى الدولي ويشمل ذلك القوى الاقليمية المأثرة على المشهد السوداني في مصر ودول الخليج (السعودية والامارات ) من جهة و (قطر وتركيا ) من جهة اخري بالاضافة للدول الغربية المؤثرة في الشان السوداني وعلى راسها الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا ودول الاتحاد الاوربي ، ناهيك عن روسيا والصين ، على هذه الدول بما لديها من ادوار مختلفة ان تدعم هذا التحول ومطالب الشعب السوداني الذي تحقق بالنصر الجزئي الحالي الى نصر كامل . وعلى الطرفين الرئيسين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير التحلي بالصبر والمرونة وإبداء حسن النية والتنازل التوافقي لمصلحة سودان جديد، وافساح المجال لجيل جديد ليدير مستقبل السودان .
* رئيس تحرير راديو دبنقا