الفرصـة الأخيـرة

بما أن الخطأ أحد سمات العمل فإن التراجع عن الخطأ يعكس أحدى فضائل الاستنارة. بعض خطوات حمدوك الأخيرة تبشر بانخراط الرجل على مضمار القيادة الناضجة. حمدوك لم يكن ذا شهرة في الوسط السياسي حينما تسنم الجهاز التنفيذي. لمّا تحدث في بداية عهده رئيساً للوزراء عن تقسيم السودان إلى خمس أحزمة اقتصادية قلنا “هذا البلد ما له غير هذا الولد”.

عمر العمر

 

بقلم : عمر العمر 

 

بما أن الخطأ أحد سمات العمل فإن التراجع عن الخطأ يعكس أحدى فضائل الاستنارة. بعض خطوات حمدوك الأخيرة تبشر بانخراط الرجل على مضمار القيادة الناضجة. حمدوك لم يكن ذا شهرة في الوسط السياسي حينما تسنم الجهاز التنفيذي. لمّا تحدث في بداية عهده رئيساً للوزراء عن تقسيم السودان إلى خمس أحزمة اقتصادية قلنا "هذا البلد ما له غير هذا الولد".
ذلك حديث يؤكد تملك الرجل رؤية. ما عهدنا بمثل ذلك الطراز في ساساتنا الأولين. إمتلاك رؤية يشكل أول مؤهلات القيادة الجوهرية. تلك أبرز المؤهلات ضمن شروط أساسية للقيادة الرائدة. قي صدارة تلك الشروط تأبط منهاج وأدوات للعمل ،فريق مقتدر والإستعانة بمن هو أهل للمشورة. تلك بانوراما لا تكتمل ما لم تتوفر إرادة ٌ قوية غلابة.

*** *** ***

الرهان على حمدوك ذهب لجهة إعادة بناء خارط السودان وفقا لتلك الأولوية الجديدة بحيث تتحول تلك الأقاليم الخمسة إلى أقانيم لوطن حديث بمافي ذلك إعادة رسم الخارطة الإدارية الفيدرالية. مع التقدم في السنة الأولى من عمر حكومة حمدوك توغلنا في الإحباط عوضا عن التفاؤل. الرجل لم يكن على مستوى الرهان. فالخطوة التي لا تفكك الضائقات الحياتية القابضة بخناقات المواطن لا تشكل إنجازا. ملامح الإدارة الحكومية يطبعها وهن لا يخفى على كل ذي بصيرة. بالإضافة غياب أدوات الإنجاز أفرزت ترهلا بل عجزا في الأداء. لغط كثيف دار ولا يزال عن أهل المشورة. تلك الآلية الحكومية لا تمتلك بالطبع أي برنامج أو منهاج للعمل . ضعف الإدارة جنح برئيس الوزراء إلى الإتكاء على الحاضنة السياسية في التبرير. كل السودانيين لا يزالوا يراهنون على قيادة تنفيذية تمتشق قدرة القفز فوق هشاشة تلك الجزر السياسية المشربة بالتشرذم. حمدوك إنزلق وحكومته إلى فوضى السوق السياسية المفتوحة على مصراعي الوطن إثر إسقاط النظام العصابي العصبوي.

*** *** ***

الإنفراج المرتجى إثر إسقاط ذلك النظام الفاشي لم يأت. بل لن يأـي طالما ظللنا أسرى السوق السياسية السائدة حالياً. هي سوق غارقة في الفوضى رهينة سماسرة ،باعة جوالين، لصوص ونشالين ،رباطين ، عملاء ووكلاء لأشباه رجال أعمال. هؤلاء لا يرقون إلى مستوى عقد الصفقات الوطنية أو التسويات المبنية على رؤوس مال أو موازنات دع عنك دراسات الجدوى. لأنهم جهلاء فقراء فإنهم لا يمارون في بيع ولاءتهم وجهدهم المهيض إذ ليس لديهم أصول جوهرية قابلة للتسويق أو الرهان عليها أو على عائداتها. أسوأ مصائبنا تكمن في ترجينا من أولئك نقلنا من درك المعاناة اليومية إلى مراقي الرفاهية الدائمة. كأنما كل هذا الإخفاق الفاضح لم يحرك فينا قرن استشعار واحد.

*** *** ***

المنغمسون في فوضى سوقنا السياسية لم يستبينوا التغييرات الجوهرية المستجدة على السياسة عبر العالم من حولهم. إذ لم تعد مهارات تلك اللعبة قاصرة على المعايير الكلاسيكية المتداولة. في ضوء الحداثة المستتبعة تحت سقف العولمة . الساسة الكلاسيكيون من محترفين وهواة فقدوا مواقعهم المستندة إلى امتيازات زائفة موروثة أو مكتسبة أمام صعود التكنوقراط الوطنيين المسلحين بسندات تأهيل علمية عالية. حتى الأحزاب نفسها على صعيد العالم المتقدم أخذت تكسر أطرها التقليدية لتلج فضاء العولمة عبر بوابات ثورتي الإتصالات والمعلومات لتصبح احزاباً رقمية إذ تتحول العملية الديمقراطية إلى ممارسة إلكترونية. هناك قناعات تترسخ لجهة إعلاء الديمقراطية الإجتماعية من منطلق أنها القاعدة الأساسية لبناء الديمقراطية السياسية. مثلما نجتر أنه ما من ديمقراطية بلا ديمقراطيين فليس ثمة ديمقراطية سياسية بلا ديمقراطية إجتماعية كما لا يمكن تحقيق ديمقراطية إجتماعية في غياب ثقاقة ديمقراطية واسعة الإنتشار.هذه بدورها لا سبيل إلى تحقيقها خارج شبكات الإتصال الحديثة.

*** *** ***

هذه التحولات العصرية النبيلة لن ينجزها ساسة يتزيون باسمال بالية تفضح هياكل متآكلة متشبثة بالإنتماء الطائفي، التعصب القبلي و بالفيتو الجهوي أو الإنتماء الكذوب للمؤسسة العسكرية الوطنية. هؤلاء هم ثيران ساقية الدوران في حلقة التخلف المفرغة الدائرة منذ فجر الإستقلال . التاريخ يخبرنا هؤلاء لن يحققوا أي تقدم لجهة دولة الكفاية دع عنك دولة الرفاهية المنشودة. في أزمانهم يفرّخ الفساد كافة أشكال العجز، اللصوصية، المحسوبية ، النهب ،الإرتشاء بالإضافة إلى مصادرة الحريات والقمع.

*** *** ***

هؤلاء لا يعرفون من الديمقراطية غير عنوانها. تلك ثقافة حياتية مثلما هي منهج سياسي جوهرها " فن التسوية والتراضي" كما يقول "استاذنا "الراحل منصور خالد – سقى الله قبرة رحمة وسلاما- .من يدرك ذلك لا يمارس أفعالا معيقة لحركة التقدم مثل إملاء الشروط وفرض الرؤى خارج منظومة "الغلبة للغالبية "أو الإنسحاب والخروج عن حلبة الصراع الفكري والسياسي .. الأفضل من العزلة البقاء داخل دائرة الفعل من أجل النضال والتلاقح ؛ إما أقنعت أو إقتنعت بغية جعل الرؤية الثاقبة ناجزة وغالبة.

*** *** ***

من المفترض إعلان تشكية وزارية تتمتع بكل مقومات تجاوز وهن التشكيلة السابقة. من غير الممكن إعادة الأعذار الواهية لقبول أو تمرير وزراء غير مؤهلين لأداء ماهو مرجو منهم. الشعب لايريد الغرق في تفاصيل المحاصصات اللزجة لحكومة ضعيفة . من الأفضل لرئيس الوزراء التمترس في الرفض لأي مرشح لايراه قادرا على الوفاء باستحقاقات المنصب. الحراك الجماهيري صانع الثورة لن يمنح حمدوك فرصة ثالثة. كما أن الشعب بأسره لن يقبل التوغل في الفشل بمنطق يلتبس التبرير الذرائعي إذ نفد الصبر مع تراكم الأزمات والنفايات في الشوارع. من الخير للجميع أن يراهن حمدوك على الشعب على الركون إلى الحاضنة السياسية، العسكرأو "المجلس المشترك". كلهم أمام الحراك الشعبي إبل من ورق.

*** *** ***

الكلام عن "شراكة نموذجية " مع العسكر لم يعد هوالآخر غير شكل مغاير لذلك الإخفاق الذرائعي. حسن النوايا ليس من مواصفات العمل السياسي الناجح.بما أن السلطة ليست سوى إنعكاس لصراع إجتماعي عميق فجميع السودانيين يدركون أي رأس جبل يجسد ما يسمى بـ "المكون العسكري" على هرم السلطة. كما لم تعد هناك مبررات لوجود الجنجويد داخل معسكر الثورة دع عنك داخل السلطة فيظل فوضى ممارساتهم الخلوية داخل العاصمة. هناك قناعة بصدام حتمي بين الجنجويد والمؤسسة العسكرية التقليدية. ذلك صدام تنتجه حقيقة الصراع المفتوح على المغانم والمواقع مثلما يفرزه طبع البشر وطبيعة الأشياء. الثورة أسقطت نظاما ظالما لكنها لم تضع خاتمة لذلك الصراع .

*** *** ***

بغية تفادي إعادة عقارب الساعة إلى الوراء مطلوب من حمدوك خوض التجربة المقبلة بمنهج ببرنامج عمل جلي ،طاقم حكومي يتسم إلى جانب الإدارة الراشدة بالإستقامة الوطنية ، الجراة ، المبادرة والشفافية وفريق مسلح بالخبرات ونفاذ البصيرة من أهل المشورة. الأحداث الأخيرة الناجمة عن التقصير وسوء الإدارة أبانت كم هم المرجفون في المدينة أكثر تنظيما من جزر الثورة المتباعدة. بعضها ربما يجرفه تيار المتربصين بخطايا حكومة الثورة أو هي تجنح إليهم إن لم تكن في الطريق.

Welcome

Install
×