الفاشر: ثلاثة أشهر تحت الحصار والقصف
أمستردام: 20 أغسطس 2024: راديو دبنقا
بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على فرض قوات الدعم السريع حصارها على مدينة الفاشر، تتواصل المعارك في عاصمة ولاية شمال دارفور بدون توقف عبر القصف المدفعي العشوائي من قبل الدعم السريع على أحياء المدينة وأخرها القصف المدفعي الذي استهدف شمال المدينة خلال الأيام الثلاثة الماضية، والغارات الجوية لطيران الجيش ومحاولات قوات الدعم السريع المتكررة الدخول إلى المدينة.
ونجحت القوات المسلحة والقوات المشتركة في صد هجوم بري جديد لقوات الدعم السريع في يوم 9 أغسطس 2024 حاولت خلاله دخول وسط المدينة من ثلاث محاور من الشمال والشرق والجنوب، فيما واصل طرفا الحرب تبادل القصف المدفعي، وقصف الطيران تمركزات الدعم السريع في شرق المدينة. في هذا الإطار، قصف طيران الجيش صباح اليوم الثلاثاء 20 أغسطس 2024 منطقة حي النصر في شرق المدينة والتي تعتبر من مناطق تمركز قوات الدعم السريع.
وتتضاءل الآمال بشأن احتمالات التوصل إلى توافق سياسي يرفع الحصار عن المدينة ويتيح دخول المساعدات الإنسانة خصوصا وأن طرفي النزاع تجاهلوا بالكامل قرار مجلس الأمن بشأن الأوضاع في مدينة الفاشر.
تجاهل قرار مجلس الأمن
وكان مجلس الأمن الدولي قد اعتمد قراره في 14 يونيو 2024 وبتأييد 14 عضوًا وامتناع روسيا عن التصويت يطالب قوات الدعم السريع بانهاء حصارها على الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور بالسودان. ودعا القرار إلى الوقف الفوري للقتال وخفض التصعيد في الفاشر ومحيطها وسحب جميع المقاتلين الذين يهددون سلامة وأمن المدنيين. ونص القرار، الذي تقدمت به المملكة المتحدة، طالب بأن تكفل جميع أطراف النزاع حماية المدنيين بما في ذلك عن طريق السماح للراغبين في التنقل إلى مناطق أكثر أمنًا داخل الفاشر وخارجها بالقيام بذلك.
ودعا مجلس الأمن في قراره إلى التنفيذ الكامل لإعلان جدة بشأن الالتزام بحماية المدنيين في السودان، وأن تيسر أطراف النزاع المرور السريع والآمن وبدون عوائق للإغاثة الإنسانية الموجهة لمن يحتاجها من المدنيين. وأشار المجلس إلى التدابير التي اتخذتها السلطات السودانية في هذا الصدد وحثها على مزيد من التعاون.
وطالب القرار السلطات السودانية بالموافقة على إعادة فتح معبر أدري الحدودي لإيصال المساعدات الإنسانية، وشدد على سحب المقاتلين حسب ما تقتضي الضرورة ليتسنى القيام بالأنشطة الزراعية طوال الموسم الزراعي لتجنب مضاعفة خطر المجاعة.
واعتبر المدير التنفيذي للمرصد السوداني لحقوق الإنسان، أحمد الزبير، في حديث لراديو دبنقا بأنه فيما يتعلق بحصار الفاشر، أن قوات الدعم السريع لم تلتزم بالقرار ويتواصل الهجوم على المدينة من كل المحاور وتشهد المدينة عملية نزوح واسعة إلى خارج المدينة.
وتتواصل العمليات العسكرية والحربية حتى الآن في الفاشر وما حولها، كما يتواصل القصف العشوائي من قبل طيران الجيش السوداني ما أدى لضرب بعض الأعيان المدنية واستهداف مدنيين في الفاشر.
وحذر أحمد الزبير من أن استمرار الحرب يعني استمرار الانتهاكات وأن الانتهاكات المصاحبة للعمليات العسكرية لن تتوقف إلا بوقف الحرب. ودعا مجلس الأمن إلى إعادة النظر فيما يحدث في الفاشر توقع أن يكون هناك خطاب للأمين العام للأمم المتحدة يراجع ما تم تنفيذه من عناصر قرار مجلس الأمن، وخصوصا من قبل الدعم السريع.
منفذان لإدخال المساعدات الإنسانية
وبلغت حصيلة ضحايا معارك الفاشر بحسب وزارة الصحة التابعة للسلطة الاقليمية لدارفور ما يزيد عن 3000 قتيل وجريح، وأدى القصف العشوائي والمعارك العنيفة إلى نزوح عشرات الألاف من سكان المدينة إلى معسكر زمزم للنازحين ومنطقة سجن شالا بحثا عن الأمن والغذاء، فيما اختار آخرون الذهاب إلى مناطق أبعد مثل طويلة ونيالا ليكونوا في مأمن من الخطر.
وتتدهور الأوضاع الإنسانية في داخل المدينة وفي معسكرات النازحين حولها باضطراد. ورغم إعلان عدد من المنظمات الدولية أن المجاعة تضرب فعلا معسكر زمزم والتحذيرات من أنها ستضرب معسكر أبو شوك أيضا، أنكرت الحكومة السودانية وجود المجاعة وحملت الدعم السريع مسؤولية تدهور الأوضاع في الفاشر ومعسكراتها بسبب رفضه ادخال الإغاثة.
وكانت الحكومة في بورتسودان قد سمحت بإدخال المواد الإغاثية عبر معبر الطينة الحدودي مع تشاد، لكن التعقيدات الإدارية والأوضاع الأمنية حالت دون تدفق المساعدات بالشكل المرجو. كما أن دخول فصل الخريف وما شهده من أمطار غزيرة وسيول وفيضانات ضربت المنطقة يحول حاليا دون حركة الشاحنات الثقيلة التي تنقل المساعدات.
وتعمل الوساطة الامريكية، عبر منبر جنيف، على فتح طريق الدبة – مليط – الفاشر ليكون مدخلا ثانيا للمساعدات الإنسانية لمدينة الفاشر وولاية شمال دارفور. ورغم موافقة الدعم السريع المبدئية على فتح طريق الدبة عبر الصحراء باعتبار سيطرته على مليط وحصاره للفاشر من جهة الشمال والشرق، إلا أن الكثير من التعقيدات الإجرائية والأمنية تحول دون فتحه بشكل آني لتخفيف معاناة المواطنين في مناطق شمال دارفور والفاشر.
وشدد توم بيريللو، المبعوث الأمريكي الخاص للسودان، في مؤتمر صحفي من جنيف مساء الاثنين 19 أغسطس 2024 على أن الاولوية الان هي لمجابهة خطر المجاعة وإرسال شحنات من الغذاء والدواء عبر ثلاث طرق (أدرى، الدبة، وسنار التقاطع) لإنقاذ أرواح السودانيين في مناطق يلوح فيها شبح الجوع مثل معسكر زمزم بشمال دارفور.
وتعاني المدينة من تذبذب خدمات الاتصالات، إما بسبب تدمير البنيات الأساسية أو بسبب قطعها بواسطة قوات الجيش ما يزيد من معاناة المواطنين في التواصل وتسلم التحويلات البنكية والتي لا يتوفر لها بديل في الوقت الحالي. ويستند مواطنو الفاشر بشكل أساسي على خدمات الاتصالات عبر الأقمار الصناعية (ستار لينك) رغم أسعارها الباهظة، لكن حتى هذه تقوم الاستخبارات العسكرية بإغلاق المحلات التي تقدم هذه الخدمات بتبريرات واهية.
استهداف المستشفيات
يمثل ما أصاب المستشفيات والمنشئات الصحية دليلا واضحا على استهداف طرفي الحرب للمدنيين والخدمات الضرورية التي تقدم لهم في مدينة الفاشر. قبل اندلاع الحرب، كان عدد المنشئات الصحية من مستشفيات ومراكز الصحية العاملة في القاشر 12 منشأة مختلفة، غالبيتها تتبع للقطاع الحكومي والخيري، وعدد محدود من المستوصفات الخاصة. ويمكن اعتبار شهر يونيو 2024 “شهر كارثي” للقطاع الطبي في عاصمة ولاية شمال دارفور، حيث استهدفت قوات الدعم السريع وبشكل ممنهج المنشئات الصحية، سواء بالقصف المدفعي من خارج المدينة أو باقتحام المستشفيات بشكل مباشر كما حدث في مستشفى الفاشر الجنوبي في 9 يونيو 2024.
واضطرت منظمة أطباء بلا حدود الفرنسية، التي تقدم الدعم الرئيسي للقطاع الصحي في الولاية، إلى سحب أطقمها جراء هذا الضغط العسكري. وتسبب هذا التصعيد في توقف 9 من المستشفيات والمراكز الصحية على الأقل، فيما تبقت 3 مستشفيات فقط في الخدمة اليوم وبعضها يعمل بشكل جزئي مثل المستشفى السعودي.
وكما توضح الخارطة المرفقة، فإن غالبية هذا المستشفيات تقع داخل حدود المدينة وهي تقدم خدماتها لأكثر من 1.8 مليون نسمة يمثلون سكان المدينة بالإضافة إلى سكان معسكرات النازحين الثلاث المحيطة بها والنازحين الذين فروا في اتجاه مدينة الفاشر بعد اندلاع المعارك في مناطق أخرى في دارفور.
وذكرت إحدى العاملات في المستشفى السعودي في حديث لراديو دبنقا أن المستشفى هو الوحيد، بجانب المستشفى العسكري، على استقبال الحالات الطارئة وخصوصا الإصابات من جراء المعارك. وأضافت المستشفى يعمل بالحد الأدنى من الإمكانيات وهو في حاجة إلى كل شيء من المعينات والأدوات الطبية والأدوية بما في ذلك الأدوية المنقذة للحياة. ويواجه بنك الدم في الفاشر مصاعب كبيرة في توفير الكميات المطلوبة لمواجهة الحالات الطارئة، بينما تعمل الكوادر الطبية في ظروف غاية في الصعوبة والتعقيد ووسط التهديد الدائم بسقوط القذائف.
الوضع العسكري حول مدينة الفاشر
تم تنفيذ الحصار العسكري لمدينة الفاشر تدريجيا. حيث وسعت قوات الدعم السريع منذ بداية الحرب في 15 أبريل 2023 مناطق سيطرتها تدريجيا، وفرضت سيطرتها كليا على عدد من رئاسات المحليات في ولاية شمال دارفور منها محلّيات كبكابيّة (202 كلم غرب مدينة الفاشر)، ومدينة السّريف بني حسين (250 كلم تقريبا غرب الفاشر)، وسرف عمرة (276 كلم غرب مدينة الفاشر)، وكُتُم (110 كلم شمال غرب مدينة الفاشر)، ومدينة الكومة (78- 85 كلم تقريبا شرق مدينة الفاشر). كذلك سيطرت قوات الدعم السريع على محلية الواحة، وهي إدارة محلية لا تغطي موقع جغرافي محدّد، إذ تشمل مناطق الإقامة الموسمية للعرب الرّحل في عدد من المحليات الجغرافية، لكن رئاستها تقع في مدينة كتم. وهناك محلية واحدة هي محلية طويلة (56 كلم تقريباً غرب مدينة الفاشر) تسيطر عليها قوات حركة جيش تحرير السودان جناح عبد الواحد محمد النور غير الموقّعة على اتفاق سلام جوبا.
أما محلية الفاشر نفسها، فتُدار بواسطة حكومة الولاية ويسيطر الجيش والقوة المشتركة على جزء كبير من مدينة الفاشر، العاصمة، بما في ذلك السوق الكبير والمؤسسات الحكومية غرب المدينة، والمقار العسكرية والأحياء في غرب وجنوب المدينة. ويركز الجيش على عمليات القصف المدفعي والقصف بالطيران لمناطق تواجد الدعم السريع، فيما تنفذ القوة المشتركة المتحالفة معه العمليات البرية وتتصدى لهجمات الدعم السريع على المدينة. أما الامدادات، فإن غالبها يتم اسقاطه عن طريق الطيران وكذلك عبر استغلال جزء من شحنات الإغاثة التي تصل إلى المدينة على قلتها.
فيما تتموضع قوات الدعم السريع في الأطراف الشرقية والجنوبية من المدينة بشكل أساسي، وسبق لها أن شنت هجمات وحاولت اختراق دفاعات الجيش والقوة المشتركة من اتجاه الشمال. وتعتمد قوات الدعم السريع على تكتيكات استنزاف قوات الجيش وحلفائها عبر القصف المدفعي المتكرر والهجمات على المدينة من عدة محاور على فترات متباعدة بهدف إنهاك العدو.
مستقبل التوازنات في المدينة
تبدو الأوضاع في مدينة الفاشر منفتحة على كل الاحتمالات ما بين ثلاث سيناريوهات عسكرية ومبادرتين سياسيتين يمكن أن تقود إلى جميعها إلى الخروج من الأزمة الراهنة في المدينة.
سياسيا، سبق للمبعوث الأمريكي أن طرح مبادرة لوقف إطلاق نار محلي في مدينة الفاشر يسمح بإيصال مواد الإغاثة وفتح مسارات آمنة للمدنيين الراغبين في مغادرة المدينة وبغرض تحسين الأوضاع الإنسانية بشكل أساسي. من جهته، طرح عبد الواحد محمد النور، رئيس حركة تحرير السودان، مبادرة تقضي بخروج طرفي الحرب من مدينة الفاشر والمناطق المحيطة بها وتسليم حركته التي ترتكز في طويلة إلى الغرب من الفاشر بالمسؤوليات الأمنية وحماية المدنيين وبما يتيح إيصال الإغاثة والمساعدات للمواطنين.
لكن طرفا الحرب لا يبديان أي اهتمام بالمبادرات السياسية، لذا يبدو الوضع العسكري حسب تسجيل طلبه راديو دبنقا من خبير عسكري فضل حجب اسمه، – يبدو – بدوره مفتوحا على عدد من الاحتمالات.
السيناريو الأرجح هو استمرار الوضع الحالي لفترة زمنية طويلة بمواصلة الدعم السريع حصار المدينة وتكرار محاولات الدخول إليها وتصدي الجيش والقوة المشتركة لهذه الهجمات، تحت غطاء من القصف المدفعي من جانب الدعم السريع والقصف بالطيران والمدفعية من جانب الجيش وحلفائه.
ويقول الخبير العسكري أن السيناريو الثاني هو أن تنجح استراتيجية الاستنزاف التي يتبناها الدعم السريع في إنهاك قدرات الجيش وحلفائه ويجبرهم على مغادرة المدينة بعد فتح ممرات آمنة نحو الغرب كما حدث في هجوم الميرم حيث انسحبت قوات الجيش إلى جنوب السودان.
أما السيناريو الأخير فيتمثل في أن تدفع الخسائر الباهظة لقوات الدعم السريع نتيجة لقصف الطيران والمدفعية وكذلك الخسائر البشرية الكبيرة التي منيت بها للتخلي عن فكرة السيطرة عليها عسكريا.
وفي الانتظار، يظل مواطن الفاشر بشكل أساسي ومواطنو شمال دارفور في دفع الثمن غاليا، موتى وجرحى ونازحون ولاجئونـ إن لم يكن بالحرب، فالمجاعة ستتولى الأمر.